وكتب سليمان إلى صاحب الزنج يسأله إمداده بسميريات؛ لكل واحد منهن أربعون مجدافًا، فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يومًا أربعون سميرية، في كل سميرية مقاتلان، ومع ملاحيها السيوف والرماح والتراس، وجعل الجبائي موقفه حيال عسكر أبي العباس، وعادوا التعرض للحرب في كل يوم؛ فإذا خرج إليهم أصحاب أبي العباس انهزموا عنهم، ولم يثبتوا لهم؛ وخلال ذلك ما تأتي طلائعهم، فتقطع القناطر، ترمى ما ظهر لها من الخيل بالنشاب، وتضرم ما وجدت في النوبة من المراكب التي مع نصير بالنار؛ فكانواكذلك قدر شهرين.
ثم رأى أبو العباس أن يكمن لهم كمينًا في رية الرمل، ففعل ذلك، وقدم لهم السميريات أمام الجيش ليطمعوا فيها، وأمر أبو العباس فأعدت له سميرية ولزيرك سميرية وحمل جماعة من غلمانه الذين اختارهم، وعرفهم بالنجدة في السميريات، فحمل بدرًا ومؤنسًا في سميرية ورشيقًا الحجاجي ويمنًا في سميرية وخفيفًا ويسرًا في سميرية، ونذيرًا ووصيفًا في سميرية؛ وأعد خمس عشرة سميرية، وجعل في كل سميرية مقاتلين، وجعلها أمام الجيش.
قال محمد بن شعيب الاشتيام: وكنت فيمن تقدم يومئذ، فأخذ الزنج من السميريات المتقدمة عدة؛ وأسروا أسرى، فانطلقت مسرعًا، فناديت بصوت عال: قد أخذ القوم سميرياتنا. فسمع أبو العباس صوتي وهو يتغدى، فنهض إلى سميرته التي كانت أعدت له؛ وتقدم العسكر، ولم ينتظر لحاق أصحابه، فتبعه منهم من خف لذلك.
قال: فأدركنا الزنج رأونا ذف الله الرعب في قلوبهم، فألقوا أنفسهم في الماء، وانهزموا فتخلصنا أصحابنا، وحوينا يومئذ إحدى وثلاثين سميرية من سميريات الزنج، وأفلت الجبائي في ثلاث سميريات، ورمى أبو العباس يومئذ عن قوس كانت في يده حتى دميت إبهامه؛ فانصرف؛ شدة اللغوب. ورجع أبو العباس وأكثر أصحابه بمواضعهم من فوهة بردودا لم يرم أحد منهم؛ فلما وافى عسكره أمر لمن كان في صحبه بالأطواق والخلع والأسورة، وأمر بإصلاح السميريات المأخوذة من الزنج، وأمر أبا حمزة أن يجعل مقامه بما معه من الشذا في دجلة بحذاء خسرسابور.
ثم إن العباس رأى يتوغل في مازروان حتى يصير إلى القرية المعروفة بالحجاجية، وينتهي إلى نهر الأمير، ويف على تلك المواضع، ويتعرف الطر التي تجتاز فيها سميريات الزنج، وأمر نصيرًا فقدمه بما معه من الشذا والسميريات، فسار نصير لذلك؛ فترك طريق مازروان، وقصد ناحية ناحية نهر الأمير، فدعا أبو العباس سميرته، فركبها ومعه محمد بن شعيب، ودخل مازروان وهو يرى أن نصيرًا أمامه، وقال لمحمد: قدمني في النهر لأعرف خبر نصير. وأمر الشذا والسميريات بالمصير خلفه.
قال محمد بن شعيب: فمضينا حتى قاربنا الحجاجية، فعرضت لنا في النهر صلغة فيها عشرة زنوج؛ فأسرعنا إليها، فألقى الزنوج أنفسهم في الماء، وصارت الصلغة في أيدينا، فإذا هي مملوءة شعيرًا، وأدركنا فيها زنجيًا فأخذناه، فسألناه عن خبر نصير وشذواته فقال: ما دخل هذا النهر شئ من الشذا والسميريات، فأصابتنا حيرة، وذهب الزنج الذين أفلتوا من أيدينا فأعلموا أصحابهم بمكاننا، وعرض للملاحين الذين كانوا معنا غنم فخرجوا لانتهابها.
قال محمد بن شعيب: وبقيت مع أبي العباس وحدي، فلم نلبث أن وافاناقائد من قواد الزنج، يقال له منتاب، في جماعة من الزنج من أحد جانبي النهر، ووافانا من الجانب الآخر عشرة من الزنج، فما رأينا ذلك خرج أبو العباس، ومعه قوسه وأسهمه، وخرجت برمح كان في يدي، وجعلت أحميه بالرمح وهو يرمي الزنج، فجرح منهم زنجيين، وجعلوا يثوبون ويكثرون، وأدركنا زيرك في الشذا ومعه الغلمان؛ وقد كان أحاط بنا زهاء ألفي زنجي من جانبي مازروان، وكفى الله أمرهم وردهم بذلة وصغار، ورجع أبو العباس إلى عسكره، وقد غنم أصحابه من الغنم والبقر والجواميس شئيئًا كثيرًا، وأمر أبو العباس بثلاثة من الملاحين الذين كانوا معه، فتركوه لانتهاب الغنم، فضربت أعنقاقهم، وأمر لمن بقى بالأرزاق لشهر وأمر بالنداء في الملاحين ألا يبرح أحدٌ من السميريات في وقت الحرب؛ فمن فعل ذلك فقد حل دمه.
وانهزم الزنج أجمعون حتى لحقوا بطهيثًا وأقام أبو العباس بمعسكره في العمر، وقد بث طلائعه في جميع النواحي، فمكث بذلك حينًا، وجمع سليمان بن جامع عسكره وأصحابه، وتحصن بطهيثًا، وفعل الشعراني مثل ذلك بسوق الخميس؛ وكان بالصينية لهم جيش كثيف أيضًا، يقود أهله رجل منهم يقال له نصر السندي، وجعلوا يخربون كل ما وجدوا إلى خرابه سبيلًا، ويحملون ما قدروا على حمله من الغلات، ويعمرون مواضعهم التي هم مقيمون بها، فوجه أبو العباس جماعة من قواده، منهم الشاه وكمشحور والفضل بن موسى بن بغا، وأخوه محمد على الخيل إلى ناحية الصينية، وركب أبو العباس ومعه نصير وزيرك في الشذا والسميريات، وأمر بخيل فعبر بها من برمساور إلى طريق الظهر.
وسار الجيش حتى صار إلى الهرث، فأمر أبو العباس بتغيير الدواب إلى الهرث، فعبرت، فصارت إلى الجانب الغربي من دجلة، وأمر بأن يسلك بها طريق دير العمال. فلما أبصر الزج الخيل دخلتهم منها رهبة شديدة، فلجئوا إلى الماء والسفن، ولم يلبثوا أن وافتهم الشذا والسميريات، فلم يجدوا ملجأ واستسلموا، فقتل منهم فريق، وأسر فريق، وألقى بعضهم نفسه في الماء، فأخذ أصحاب أبي العباس سفنهم؛ وهي مملوءة أرزًا، فصارت في أيديهم، وأخذوا سميرية رئيسهم المعروف بنصر السندي، وانهزم الباقون، فصارت طائفة منهم إلى طهيثا وطائفة إلى سوق الخميس، ورجع أبو العباس غانمًا إلى عسكره، وقد فتح الصينية وأجلى الزنج عنها.
قال محمد بن شعيب: وبينا نحن في حرب الزنج بالصينية إذ عرض لأبي العباس كركي طائر، فرماه بسهم، فشكه فسقط بين أيدي الزنج، فأخذوه، فلما رأوا موضع السهم منه، وعلموا أنه سهم أبي العباس زاد ذلك في رعبهم؛ فكان سببًا لانهزامهم يومئذ.
وقد ذكر عمن لا يتهم أن خبر السهم الذي رمى به أبو العباس الكركي في غير هذا اليوم، وانتهى إلى أبي العباس أن بعبد سي جيشًا عظيمًا يرأسهم ثابت بن أبي دلف ولؤلؤ الزنجيان، فصار أبو العباس إلى عبد سي قاصدًا للإيقاع بهما ومن معهما في خيا جريدة، قد انتخبت من غلمانه وحماة أصحابه، فوافى الموضع الذي فيه جمعهم في السحر، فأوقع بهم وقعة غليظة، قتل فيها من أبطالهم، وجلد من رجالهم خلق كثير، وانهزموا. وظفر أبو العباس برئيسهم ثابت بن أبي دلف، فم عليه واسبقاه، وضمه إلى بعض قواده، وأصاب لؤلؤًا سهم فهلك منه، واستنفذ يومئذ من النساء اللواتي كن في أيدي الزنج خلق كثير، فأمر أبو العباس بإطلاقهن ورد إلى أهلهن، وأخذ كل ما كان الزنج جمعوه.
ثم رجع أبو العباس إلى معسكره، فأمر أصحابه أن يريحوا أنفسهم ليسير بهم إلى سوف الخميس، ودعا نصيرًا فأمره بتعبئة أصحابه للمسير إليها، فقال له نصير: إن نهر سوق الخميس ضيق، فأقم أنت وائذن لي في المسير إليه حتى أعاينه، فأبى أن يدعه حتى يعاينه، ويقف على علم ما يحتاج إليه منه قبل موافاة أبيه أبي أحمد؛ وذلك عند ورود كتاب أبي أحمد عليه بعزمه على الانحدار.
قال محمد بن شعيب: فدعاني أبو العباس، فقال لي، إنه لابد لي من دخول سوق الخميس، فقلت: إن كنت لا بد فاعلًا ما تذكر فلا تكثر عدد من تحمل معك في الشذا، ولا تزد على ثلاثة عشر غلامًا عشرة رماة وثلاثة في أيديهم الرماح، فإني أكره الكثرة في الشذا مع ضيق النهر، فاستعد أبو العباس لذلك وسار إليه ونصير بين يديه حتى وافى فم برمساور، فقال له نصير: قدمني أمامك، ففعل ذلك، فدخل نصير في خمس عشرة شذاة.
واستأذنه رجل من قواد الموالي يقال له موسى دالجويه في التقدم بين يديه، فأذن له، فسار وسار أبو العباس حتى انتهى به مسيرة إلى بسامي، ثم إلى فوهة براطق ونهر الرق النهر الذي ينفذ إلى رواطا وعبدسى، وهذه الأنهار الثلاثة تؤدي إلى ثلاث طرق مفترقة، فأخذ نصير في طريق نهر براطق وهو النهر المؤدي إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني التي سماها المنيعة بسوق الخميس. وأقام أبو العباس على فوهة هذا النهر، وغاب عنه نصير حتى خفي عنه خبره. وخرج علينا في ذلك الموضع من الزنج خلق كثير، فمنعونا من دخول النهر، وحالوا بينا وبين الانتهاء إلى السور - وبين هذا الموضع الذي انتهينا إليه والسور المحيط بمدينة الشعراني مقدار فرسخين - وأقاموا هناك يحاربوننا، واشتدت الرب بينا وبينهم وهم على الأرض؛ وحن في السفن من أول النهار إلى وقت الظهر، وخفي علينا خبر نصير، وجعل الزنج يهتفون بنا: قد أخذنا نصيرًا فماذا تصنعون؟ ونحن تابعوكم حيثما ذهبتم. فاغتنم أبو العباس لما سمع منهم هذا القول، فأستأذنه محمد بن شعيب فيالمسير ليتعرف خبر نصير، فأذن له، فمضى في سميرية بعشرين جذاقًا حتى وافى نصيرًا أبا حمزة، وقد قرب من سكر كان الفسقة سكروه، وحده قد أضرم النار فيه وفي مدينتهم، وحارب حربًا شديدًا ورزق الظفر بهم، وكان الزنج ظفروا ببعض شذوات أبي حمزة، فقاتل حتى انتزع ما كانوا أخذوا من بين أيديهم، فرجع محمد بن شعيب إلى أبي العباس، فبشره بسلامة نصير ومن معه، وأخبره خبره. فسر بذلك وأسر نصير يومئذ من الزنج جماعة كثيرة، ورجع حتى وافى أبا العباس بالموضع الذي كان واقفًا به. فلما رجع نصير قال أبو العباس: لست زائلًا عن موضعي هذا حتى أرواحهم القتال في عشي هذا اليوم؛ ففعل ذلك، وأمر بإظهار شذاة واحدة من الشذوات التي كانت معه لهم، وأخفى باقيها عنهم، فطمعوا في الشذاة التي رأوها، فتبعوها، وجعل من كان فيها يسيرو سيرًا ضعيفًا حتى أدركوها، فعلقوا بسكانها، وجعل الملاحون يسيرو حتى وافوا المكان الذي كانت فيه الشذوات المكمنة.