خبر عبور الموفق إلى مدينة صاحب الزنج لحربه

وفي ذي الحجة لست بقين منه عبر الموفق بنفسه إلى مدينة الفاسق وجيشه لحربه.
ذكر السبب الذي من أجله كان عبوره إليها: وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن الرؤساء من أصحاب الفاسق، لما رأوا ما قد حل بهم من البلاء من قتل من يظهر منهم وشدة الحصار على من لزم المدينة؛ فلم يظهر منهم أحد، وحال من خرج منهم بالأمان من الإحسان إليه، والصفح عن جرمه، مالوا إلى الأمان، وجعلوا يهربون في كل وجه، ويخرجون إلى أبي أحمد في الأمان كلما وجدوا إليه السبيل فملىء الخبيث من ذلك رعبًا، وأيقن الهلاك، فوكل بكل ناحية كان يرى أن فيها طريقًا للهرب من عسكره أحراسًا وحفظة، وأمرهم بضبط تلك النواحي، ووكل بفوهة الأنهار من يمنع السفن من الخروج منها، واجتهد في سد كل مسلك وطريق وثلمة؛ لئلا يطمع في الخروج عن مدينته.
وأرسل جماعة من قواد الفاجر صاحب الزنج إلى الموفق يسألونه الأمان، وأن يوجه لمحاربة الخبيث جيشًا ليجدوا إلى المصير إليه سبيلًا، فأمر الموفق أبا العباس بالمصير في جماعة من أصحابه إلى الموضع المعروف بنهر الغربي، وعلي بن أبان حينئذ يحوط ذلك النهر؛ فنهض أبو العباس في المختارين من أصحابه، ومعه الشذا والسميريات والمعابر، فقصد النهر الغربي، وانتدب المهلبي وأصحابه لحربه، فاستعرت الحرب بين الفريقين، وعلا أصحاب أبي العباس، وقهر الزنج، وأمد الفاسق المهلبي بسليمان بن جامع في جمع من الزنج كثير، واتصلت الحرب يومئذ من أول النهار إلى وقت العصر؛ وكان الظفر في ذلك اليوم لأبي العباس وأصحابه، وصار إليه القوم الذين كانوا طلبوا الأمان من قواد الخبيث، ومعهم جمع كثير من الفرسان وغيرهم من الزنج، فأمر أبو العباس عند ذلك أصحابه بالرجوع إلى الشذا والسفن، وانصرف فاجتاز في منصرفه بمدينة الخبيث، حتى انتهى إلى الموضع المعروف بنهر الأتراك، فرأى أصحابه من قلة عدد الزنج في هذا الموضع من النهر ما طمعوا له فيمن كا هناك، فقصدوا نحوهم، وقد انصرف أكثر أصحابهم إلى المدينة الموفقية، فقربوا إلى الأرض، وصعدوا وأمنعوا في دخول تلك المسالك، وعلت جماعةٌ منهم السور، وعليه فريق من الزنج وأشياعهم، فقتلوا من أصابوا منهم هنالك، ونذر الفاسق بهم، فاجتمعوا لحربهم، وأنجد بعضهم بعضًا.
فلما رأى أبو العباس اجتماع الخبثاء وتحاشدهم وكثرة من ثاب إلى ذلك الموضع منهم، مع قلة عدد من هنالك من أصحابه، كر راجعًا إليهم فيمن كان معه في الشذا، وأرسل إلى الموفق يستمده، فوافاه لمعونته من خف لذلك من الغلمان في الشذا والسميريات، فظهروا على الزنج وهزموهم؛ وقد كان سليمان بن جامع لما رأى ظهور أصحاب أبي العباس على الزنج، وغل في النهر مصاعدًا في جمع كثير؛ فانتهى إلى النهر المعروف بعبد الله، واستدبر أصحاب أبي العباس وهم في حربهم، مقبلين على من بإزائهم ممن يحاربهم، فيمنعون في طلب من انهزم عنهم من الزنج. فخرج عليهم من ورائهم، وخفقت طبوله، فانكشف أصحاب أبي العباس، ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج، فأصيب جماعة من غلمان الموفق وغيرهم من جنده، وصار في أيدي الزنج عدة أعلام ومطارد، وحامى أبو العباس عن الباقين من أصحابه، فسلم أكثرهم فانصرف بهم؛ فأطعت هذه الوقعة الزنج وتباعهم، وشدت قلوبهم، فأجمع الموفق على العبور بجيشه أجمع لمحاربة الخبيث، وأمر أبا العباس وسائر القواد والغلمان بالتأهب للعبور، وأمر بجمع السفن والمعابر وتفريقها عليهم، ووقف على يوم بعينه أراد العبور فيه، فعصفت رياحٌ منعت من ذلك، واتصل عصوفها أيامًا كثيرة؛ فأمهل الموفق حتى انقضى هبوب تلك الرياح، ثم أخذ في الاستعداد للعبور ومناجزة الفاجر.
فلما تهيأ له ما أراد من ذلك عبر يوم الأربعاء لست ليال بقين من ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين في أكثف جمع وأكمل عدة، وأمر بحمل خيل كثيرة في السفن، وتقدم إلى أبي العباس في المسير في الخيل ومعه جميع قواده الفرسان ورجالتهم، ليأتي الفجرة من ورائهم من مؤخر النهر المعروف بمنكى، وأمر مسرورًا البلخي مولاه بالقصد إلى نهر ليضطر الخبيث بذلك إلى تفريق أصحابه، وتقدم إلى نصير المعروف بأبي حمزة ورشيق غلام أبي العباس وهو من أصحابه - وشذواته في مثل العدة التي فيها نصر - بالقصد لفوهة نهر أبي الخصيب والمحاربة لما يظهر من شذوات الخبيث، وقد كان استكثر منها، وأعد فيها المقاتلة وانتخبهم. وقصد أبو أحمد بجميع من معه لركن من أركان مدينة الخبيث قد كان حصنه بابنه المعروف بأنكلاي، وكنفه بعلي بن أبان وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمذاني وحفه بالمجانيق والعرادات والقسي الناكية، وأعد فيه الناشبة وجمع فيه أكثر جيشه.
فلما التقى الجمعان أمر الموفق غلمانه: الناشبة والرامحة والسودان، بالدنو من الركن الذي فيه جمع الفسقة، وبينه وبينهم النهر المعروف بنهر الأتراك؛ وهو نهر عريض غزير الماء. فلما انتهوا إليه أحجموا عنه، فصيح بهم، وحرضوا على العبور فعبروا سباحة، والفسقة يرمونهم بالمجانيق والعرادات والمقاليع والحجارة عن الأيدي، وبالسهام عن القسي الناوكية، وقسي الرجل وصنوف الآلات التي يرمى عنها؛ فصبروا على جميع ذلك حتى جاوزوا النهر، وانتهوا إلى السور، ولم يكن لحقهم من الفعلة من كان أعد لهدمه. فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من سلاحهم ويسر الله ذلك، وسهلوا لأنفسهم السبيل إلى علوه، وحضرهم بعض السلاليم التي كانت أعدت لذلك، فعلوا الركن، ونصبوا هنالك علمًا من أعلام الموفق، وأسلم الفسقة سورهم، وخلوا عنه بعد أن حوربوا عليه أشد حرب، وقتل من الفريقين خلقٌ كثير، وأصيب غلامٌ من غلمان الموفق يقال له ثابت بسهم في بطنه فمات، وكان من قواد الغلمان وجلتهم.
ولما تمكن أصحاب الموفق من سور الفسقة، أحرقوا ما كان عليه من منجنيق وعرادة وقوس ناوكية، وخلوا عن تلك الناحية وأسلموها. وقد كان أبو العباس قصد بأصحابه في الخيل النهر المعروف بمكنى، فمضى علي بن أبان المهلبي في أصحابه، قاصدًا لمعارضته ودفعه عما صمد له، والتقيا، فظهر أبو العباس عليه وهزمه، وقتل جميعًا كثيرًا من أصحابه، وأفلت المهلبي راجعًا، وانتهى أبو العباس إلى الموضع الذي قدر أن يصل منه إلى مدينة الفاسق من مؤخر نهر منكى، وهو يرى أن المدخل من ذلك الموضع سهلٌ، فدخل إلى الخندق فوجده عريضًا ممتنعًا، فحمل أصحابه على أن يعبروه بخيولهم، وعبره الرجالة سباحةً حتى وافوا السور، فثلموا فيه ثلمًا اتسع لهم منه الدخول فدخلوا، فلقي أوائلهم سليمان بن جامع، وقد أقبل للمدافعة عن تلك الناحية لما انتهى إليه انهزام المهلبي عنها، فحاربوه، وكان إمام القوم عشرة من غلمان الموفق، فدافعوا سليمان وأصحابه؛ وهم خلق كثير، وكشفوهم مرارًا كثيرة، وحاموا عن سائر أصحابهم حتى رجعوا إلى مواضعهم.
وقال محمد بن حماد: لما غلب أصحاب الموفق على الموضع الذي كان الفاسق حرسه بابنه والمذكورين من أصحابه وقواده، وشعثعوا من السور الذي أفضوا إليه ما أمكنهم تشعيثه، وافاهم الذين كانوا أعدوا للهدم بمعاولهم وآلاتهم، فثلموا في السور عدة ثلم، وقد كان الموفق أعد لخندق الفسقة جسرًا يمد عليه، فمد عليه، وعبر جمهور الناس. فلما عاين الخبثة ذلك، ارتاعوا فانهزموا عن سور لهم ثان قد كانوا اعتصموا به، ودخل أصحاب الموفق مدينة الخائن، فولى الفاجر وأشياعه منهزمين، وأصحاب الموفق يتبعونهم ويقتلون من انتهوا منهم؛ حتى انتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان، وصارت دار ابن سمعان في أيدي أصحاب الموفق، وأحرقوا ما كان فيها وهدموها، ووقف الفجرة على نهر ابن سمعان وقوفًا طويلًا، ودافعوا مدافعة شديدة، وشد بعض غلمان الموفق على علي بن أبان المهلبي، فأدبر عنه هاربًا فقبض على مئزره، فخلى عن المئزر، ونبذه إلى الغلام، ونجا بعد أن أشفى على الهلكة، وحمل أصحاب الموفق على الزنج حملةً صادقة، فكشفوهم عن النهر المعروف بابن سمعان، حتى وافوا بهم طرف ميدان الفاسق، وانتهى إليه خبر هزيمة أصحابه ودخول أصحاب الموفق مدينته من أقطارها، فركب في جمع من أصحابه، فتلقاه أصحاب الموفق، وهم يعرفونه في طرف ميدانه، فحملوا عليه، فتفرق عنه أصحابه ومن كان معه وأفردوه، وقرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه فرسه بترسه؛ وكان ذلك مع مغيب الشمس، فأمر الموفق أصحابه بالرجوع إلى سفنهم، فرجعوا سالمين، قد حملوا من رءوس الخبثاء شيئًا كثيرًا، ونالوا كلالذي أحبوا منهم من قتل وجراح وتحريق منازل وأسواق، وقد كان استأمن إلى أبي العباس في أول النهار عدد من قواد الفاجر وفرسانه، فاحتاج إلى التوقف على حملهم في السفن، وأظلم الليل، وهبت ريح شمال عاصف، وقوى الجزر، فلصق أكثر السفن بالطين.
وحرض الخبيث أشياعه واستنجدهم، فبانت منهم جماعة، وشدوا على السفن المتخلفة، فنالوا منها نيلًا، وقتلوا فيها نفرًا؛ وقد كان بهبوذ بإزاء مسرور البلخي وأصحابه في هذا اليوم في نهر الغربي، فأوقع بهم، وقتل جماعة منهم، وأسر أسارى، وصارت في يده دواب من دوابهم، فكسر ذلك نشاط أصحاب الموفق. وقد كان الخبيث أخرج في هذا اليوم جميع شذواته إلى دجلة محاربين فيها رشيقًا، وضرب منها رشيق على عدة شذوات، وغرق منها وحرق، وانهزم الباقون إلى نهر أبي الخصيب.
وذكر أنه نزل في هذا اليوم بالفاسق وأصحابه ما دعاهم إلى التفرق والهرب على وجوههم نحو نهر الأمير والقندل وإبرسان وعبادان وسائر القرى، وهرب يومئذ أخوا سليمان بن موسى الشعراني: محمد وعيسى، فمضيا يؤمان البادية، حتى انتهى إليهما رجوع أصحاب الموفق، فرجعا، وهرب جماعة من العرب الذين كانوا في عسكر الفاسق، وصاروا إلى البصرة، وبعثوا يطلبون الأمان من أبي أحمد، فآمنهم، ووجه إليهم السفن، فحملهم إلى الموفقية، وأمر أن يخلع عليهم، ويوصلوا، ويجري عليهم الأرزاق والأنزال، ففعل ذلك بهم.
وكان فيمن رغب في الأمان من جلة قواد الفاجر ريحان بن صالح المغربي، وكانت له رياسة وقيادة، وكان يتولى حجبة ابن الخبيث المعروف بأنكلاي، فكتب ريحان يطلب الأمان لنفسه ولجماعة من أصحابه، فأجيب إلى ذلك، وأنفذ إليه عدد كثير من الشذا والسميريات والمعابر مع زيرك القائد صاحب مقدمة أبي العباس، فسلك النهر المعروف باليهودي؛ حتى وافى الموضع المعروف بالمطوعة، فألفى به ريحان ومن معه من أصحابه، وقد كان الموعد تقدم في موافاة ذلك الموضع زيرك ريحان ومن معه، فوافى بهم دار الموفق، فأمر لريحان بخلع وحمل على عدة من أفراس بآلتها، وأجيز بجائزة سنية، وخلع على أصحابه، وأحيزوا على أقدراهم، وضم إلى أبي العباس، وأمر بحمله وحمل أصحابه والمصير بهم إلى إزاء الخبيث، فوقفوا هنالك في الشذا، فرفعوا خروج ريحان وأصحابه في الأمان، وما صاروا إليه من الإحسان، فأستامن في ساعتهم تلك من أصحاب ريحان الذين كانوا تخلفوا وغيرهم جماعة، فألحقوا في البر والإحسان بأصحابهم، وكان خروج ريحان بعد الوقعة التي كانت يوم الأربعاء في يوم الأحد لليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وستين ومائتين.