صار الحسين إلى المعتضد، وسلم القلعة فأمر بهدمها، وأغذ وصيف موشكير السير في طلب حمدان؛ وكان قد صار بموضع يعرف بباسورين بين دجلة ونهر عظيم، وكان الماء زائدًا، فعبر أصحاب وصيف إليه ونذر بهم، فركب وأصحابه ودافعوا عن أنفسهم، حتى قتل أكثرهم، فألقى حمدان نفسه في زورق كان معدًا له في دجلة، ومعه كاتب له نصراني يسمى زكرياء بن يحيى، وحمل معه مالًا، وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة من أرض ديار ربيعة، وقدر اللحاق بالأعراب لما حيل بينه وبين أكراده الذين في الجانب الشرقي، وعبر في أثره نفر يسير من الجند فاقتصوا أثره، حتى أشرفوا على دير كان قد نزله؛ فلما بصر بهم خرج من الدير هاربًا ومعه كاتبه، فألقيا أنفسهما في زورق، وخلفا المال في الدير، فحمل إلى المعتضد، وانحدر أصحاب السلطان في طلبه على الظهر وفي الماء، فلحقوه، فخرج عن الزورق خاسرًا إلى ضيعة له بشرقي دجلة، فركب دابة لوكيله، وسار ليلة أجمع إلى أن وافى مضرب إسحاق بن أيوب في عسكر المعتضد، مستجيرًا به، فأحضره إسحاق مضرب المعتضد، وأمر بالاحتفاظ به، وبث الخيل في طلب أسبابه، فظفر بكاتبه وعدة من قراباته وغلمانه، وتتابع رؤساء الأكراد وغيرهم في الدخول في الأمان؛ وذلك في آخر المحرم من هذه السنة.
وفي شهر ربيع الأول منها قبض على بكتمر بن طاشتمر، وقيد وحبس، وقبض ماله وضياعه ودوره.
وفيها انتقلت ابنة خمارويه بن أحمد إلى المعتضد لأربع خلون من شهر ربيع الآخر، ونودي في جانبي بغداد ألا يعبر أحد في دجلة يوم الأحد، وغلقت أبواب الدروب التي تلي الشط، ومد على الشوارع النافذة إلى دجلة شراع، ووكل بحافتي دجلة من يمنع أن يظهروا في دورهم على الشط.
فلما صليت العتمة وافت الشذا من دار المعتضد، وفيها خدم معهم الشمع، فوقفوا بإزاء دار صاعد، وكانت أعدت أربع حراقات شدت مع دار صاعد، فلما جاءت الشذا أحدرت الحراقات، وصارت الشذا بين أيديهم؛ وأقامت الحرة يوم الاثنين في دار المعتضد، وجليت عليه يوم الثلاثاء لخمس خلون من شهر ربيع الأول.
وفيها شخص المعتضد إلى الجبل، فبلغ الكرج، وأخذ أموالًا لابن أبي دلف وكتب إلى عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف يطلب منه جوهرًا كان عنده، فوجه به إليه، وتنحى من بين يديه.
وفيها أطلق لؤلؤ غلام ابن طولون بعد خروج المعتضد، وحمل على دواب وبغال.
وفيها وجه يوسف بن أبي الساج إلى الصيمرة مددًا لفتح القلانسي، فهرب يوسف بن أبي الساج بمن أطاعه إلى أخيه محمد بالمراغة، ولقي مالًا للسلطان في طريقه فأخذه، فقال في ذلك عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
إمام الهدى أنصاركم آل طاهر ** بلا سبب يجفون والدهر يذهب
وقد خلطوا صبرا بشكر ورابطوا ** وغيرهم يعطي ويحيي ويهرب
وفيها وجه المعتضد الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الرى إلى أبي محمد أبنه.
وفيها وجه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين ألف دينار، ليفرقها على أهله ببغداد والكوفة؛ ومكة والمدينة، فسعى به، فأحصر دار بدر، وسئل عن ذلك، فذكر أن يوجه إليه في كل سنة بمثل هذا المال، فيفرقه على من يأمره بالتفرقة عليه من أهله.
فأعلم بدر المعتضد ذلك، وأعلمه أن الرجل في يديه والمال، واستطلع رأيه وما يأمر به.
فذكر عن أبي عبد الله الحسني أن المعتضد قال لبدر: يا بدر، أما تذكر الرؤيا التي خبرتك بها؟ فقال: لا يا أمير المؤمنين، فقال: ألا تذكر أني حدثتك أن الناصر دعاني، فقال لي: أعلم أن هذا الأمر سيصير إليك، فانظر كيف تكون مع آل علي بن أبي طالب! ثم قال: رأيت في النوم كأني خارج من بغداد أريد ناحية النهروان في جيشي، وقد تشوف الناس إلي، إذ مررت برجل واقف على تل يصلي، لا يلتفت إلي، فعجبت منه ومن قلة اكتراثه بعسكري، مع تشوف الناس إلى العسكر، فأقبلت إليه حتى وقفت بين يديه، فلما فرغ من صلاته قال لي: اقبل، فأقبلت إليه، فقال: أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا علي بن أبي طالب؛ خذ هذه المسحاة، فاضرب بها الأرض - لمسحاة بين يديه - فأخذتها فضربت بها ضربات، فقال لي: أنه سبيلي من ولدك هذا الأمر بقدر ما ضربت بها، فأوصهم بولدي خيرًا.
قال بدر: فقلت: بلى يا أمير المؤمنين، قد ذكرت.
قال: فأطلق المال، وأطلق الرجل وتقدم إليه إلى صاحبه بطبرستان أن يوجه ما يوجه به إليه ظاهرًا، وأن يفرق محمد بن ورد ما يفرقه ظاهرًا، وتقدم بمعونة محمد على ما يريد من ذلك.
وفي شعبان لإحدى عشرة بقيت منها، توفي أبو طلحة المنصور بن مسلم في حبس المعتضد.
وفيها لثمان خلون من شهر رمضان منها، وافى عبيد الله بن سليمان الوزير بغداد قادمًا من الرى، فخلع عليه المعتضد.
ولثمان بقين من شهر رمضان منها، ولدت ناعم جارية أم قاسم بنت محمد ابن عبد الله للمعتضد ابنًا سماه جعفر، فسمى المعتضد هذه الجارية شغب.
وفيها قدم إبراهيم ابن أحمد الماذرائي لاثنتي عشرة بقيت من ذي الحجة من دمشق على طريق البر، فوافى بغداد في أحد عشر يومًا، فأخبر المعتضد أن خمارويه بن أحمد ذبح على فراشه، ذبحه بعض خدمه من الخاصة، وقيل: إن قتله كان لثلاث خلون من ذي الحجة.
وقيل أن إبراهيم وافى بغداد من دمشق سبعة أيام، وقتل من خدمه الذين اتهموا بقتله نيف وعشرون خادمًا.
وكان المعتضد كان قد بعث مع ابن الجصاص إلى خمارويه بهدايا، وأودعه إليه رسالة، فشخص ابن الجصاص لما وجه له، فلما بلغ سامرا بلغ المعتضد مهلك خمارويه، فكتب إليه يأمره بالرجوع إليه فرجع، ودخل بغداد لسبع بقين من ذي الحجة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
خبر هارون الشاري والظفر به

فمن ذلك ما كان من شخوص المعتضد لثلاث عشرة بقيت من المحرم منها - بسبب الشاري هارون - إلى ناحية الموصل، فظفر به، وورد كتاب المعتضد بظفره به إلى مدينة السلام يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول.
وكان سبب ظفره به أنه وجه الحسين بن حمدان بن حمدون في جماعة من الفرسان والرجالة من أهل بيته وغيرهم من أصحابه إليه؛ وذكر أن الحسين بن حمدان قال للمعتضد: إن أنا جئت به أمير المؤمنين فلي ثلاث حوائج إلى أمير المؤمنين، فقال: اذكرها، قال: أولها إطلاق أبي، وحاجتان أسأله إياهما بعد مجيء به إليه.
فقال له المعتضد: لك ذلك فامض، فقال الحسين: أحتاج إلى ثلاثمائة فارس أنتخبهم، فوجه المعتضد معه ثلاثمائة فارس مع موشكير، فقال: أريد أن يأمره أمير المؤمنين ألا يخالفني فيما أمره به، فأمر المعتضد موشكير بذلك.
فمضى الحسين حتى انتهى إلى مخاضة دجلة، فتقدم إلى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة، وقال له: ليس لهارون طريق إن هرب غير هذا، فلا تبرحن من هذا الموضع حتى يمر بك هارون؛ فتمنعه العبور، وأجيئك أنا، أو يبلغك أني قد قتلت.
ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعه، وكانت بينهما قتلى، وانهزم الشاري هارون، وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيام، فقال له أصحابه: قد طال مقامنا بهذا المكان القفر، وقد أضر ذلك بنا، ولسنا نأمن أن يأخذ حسين الشاري فيكون الفتح له دوننا؛ والصواب أن نمضي في أثارهم.
فأطاعهم ومضى.
وجاء هارون الشاري منهزما إلى موضع المخاضة، فعبر، وجاء حسين في أثره، فلم ير وصيفًا وأصحابه بالموضع الذي تركهم فيه، ولا عرف هارون خبرًا، ولا رأى له أثرًا، وجعل يسأل عن هارون حتى وقف عبوره، فعبر في أثره، وجاء إلى حي من أحياء العرب، فسألهم عنه فكتموه أمره، فأراد أن يوقع بهم، وأعلمهم أن المعتضد في أثره؛ فأعلموه أنه اجتاز بهم، فأخذ بعض دوابهم، وترك دوابه عندهم - وكانت قد كلت وأعيت - واتبع أثره، فلحقه بعد أيام والشاري في نحو من مائة، فناشده الشاري، وتوعده، فأبى إلا محاربته، فحاربه؛ فذكر أن حسين ابن حمدان رمى بنفسه عليه، فابتدره أصحاب حسين فأخذوه، وجاء به إلى المعتضد سلمًا بغير عقد ولا عهد، فأمر المعتضد بحل قيود حمدان بن حمدون، والتوسعة عليه والإحسان إليه أن يقدم فيطلقه ويخلع عليه؛ فلما أسر الشاري وصار في يد المعتضد، انصرف راجعًا إلى مدينة السلام، فوافاها لثمان بقين من شهر ربيع الأول، فنزل باب الشماسية، وعبأ الجيش هنالك، وخلع المعتضد على الحسين بن حمدان، وطوقه بطوق من ذهب، وخلع على جماعة من رؤساء أهله، وزين الفيل بثياب الديباج، واتخذ للشاري على الفيل كالمحفة، وأقعد فيها، وألبس دراعه الديباج، وجعل على رأسه برنس حرير طويل.
ولعشر بقين من جمادى الأولى منها، أمر المعتضد بالكتاب إلى جميع النواحي برد الفاضل من سهام المواريث على ذوي الأرحام، وإبطال ديوان المواريث، وصرف عمالها؛ فنفذت الكتب بذلك، وقرئت على المنابر.
وفيها خرج عمرو بن الليث الصفار من نيسابور، فخالفه رافع بن هرثمة إليها، فدخلها وخطب بها لمحمد بن زيد الطالبي وأبيه، فقال: اللهم أصلح الداعي إلى الحق؛ فرجع عمرو إلى نيسابور، فعسكر خارج المدينة، وخندق على عسكره لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، فأقام محاصرًا أهل نيسابور.
وفي يوم الاثنين لأربع خلون من جمادى الأخرى منها، وافى بغداد محمد ابن إسحاق ابن كنداجيق وخاقان المفلحي ومحمد بن كمشجور المعزوف ببندقة وبدر بن جف أخو طغج وابن حسنج في جماعة من القواد من مصر في الأمان.
وذكر أن سبب مجيئهم إلى المعتضد في الأمان كان أنهم أرادوا أن يفتكوا بجيش بن خمارويه بن أحمد بن طولون، فسعى بهم إليه، وكان راكبًا وكانوا في موكبه، وعلموا أنه قد وقف على أمرهم، فخرجوا من يومهم وسلكوا البرية، وتركوا أموالهم وأهاليهم، فتاهوا أيامًا، ومات منهم جماعة من العطش وخرجوا على طريق مكة فوق الكوفة بمرحلتين أو ثلاثة.
ووجه السلطان محمد بن سليمان صاحب الجيش إلى الكوفة حتى كتب أسماؤهم، وأقيمت لهم الوظائف من الكوفة فلما قربوا من بغداد، خرجت إليهم الوظائف والخيم والطعام، ووصلوا إلى المعتضد يوم دخلوا، فخلع عليهم وحمل كل قائد منهم على دابة بسرجه ولجامه، وخلع على الباقين، وكان عددهم ستين رجلًا.
وفي يوم السبت لأربع عشرة بقيت منها شخص الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الجبل لحرب ابن أبي دلف بأصبهان.
خبر حصر الصقالبة القسطنطينية

وفيها - فيما ذكر - ورد كتاب من طرسوس أن الصقالبة غزت الروم في خلق كثير، فقتلوا منهم وخربوا لهم قرى كثيرة حتى وصلوا إلى قسطنطينية وألجئوا الروم إليها، وأغلقت أبواب مدينتهم، ثم وجه طاغية الروم إلى ملك الصقالبة أن ديننا ودينكم واحد؛ فعلام نقتل الرجال بيننا! فأجابه ملك الصقالبة أن هذا ملك آبائي، ولست منصرفًا عنك إلا بغلبة أحدنا صاحبه؛ فلما لم يجد ملك الروم خلاصًا من صاحب الصقالبة، جمع من عنده من المسلمين، فأعطاهم السلاح، وسألهم معونته على الصقالبة، ففعلوا، وكشفوا الصقالبة، فلما رأى ذلك ملك الروم خافهم على نفسه، فبعث إليهم فردهم، وأخذ منهم السلاح وفرقهم في البلدان، حذرًا من أن يجنوا عليه.