خلاف جند جيش بن خمارويه عليه

وللنصف من رجب من هذه السنة ورد الخبر من مصر أن الجند من المغاربة والبربر وثبوا على جيش بن خمارويه، وقالوا: لا نرض بك أميرًا علنيًا فتنح عنا حتى نولي عمك، فكلمهم كاتبه علي بن أحمد الماذرائي، وسألهم أن ينصرفوا عنه يومهم ذلك، فانصرفوا وعادوا من غد، فعدا جيش على عمه الذي ذكروا أنهم يؤمرونه، فضرب عنقه وعنق عم له آخر، ورمى بأرؤسهما إليهم، فهجم الجند على جيش بن خمارويه، فقتلوه وقتلوا أمه وانتهبوا داره، وانتهبوا مصر وأحرقوها، وأقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه.
وفي رجب منها أمر المعتضد بكري دجيل والاستقصاء عليه، وقلع صخر في فوهته كان يمنع الماء، فجبني بذلك من أرباب الضياع والإقطاعات أربعة آلاف دينار، وكسر - فيما ذكر - وأنفق عليه، وولى ذلك كاتب زيرك وخادم من خدم المعتضد.
ذكر الفداء بين المسلمين والروم

وفي شعبان منها، كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي أحمد بن طغان، وذكر أن الكتاب الوارد بذلك من طرسوس كان فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم ": أعلمك أن أحمد بن طغان نادي في الناس يحضرون الفداء يوم الخميس لأربع خلون من شعبان سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وأنه قد خرج إلى لامس - وهو معسكر المسلمين - يوم الجمعة لخمس خلون من شعبان، وأمر الناس بالخروج معه في هذا اليوم، فصلى الجمعة، وركب من مسجد الجامع ومعه راغب ومواليه، وخرج معه وجوه البلد والموالي والقواد والمطوعة بأحسن زي، فلم يزل الناس خارجين إلى لامس إلى يوم الاثنين لثمان خلون من شعبان، فجرى الفداء بين الفريقين اثني عشر يومًا؛ وكانت جملة من فودى به من المسلمين من الرجال والنساء والصبيان ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس، وأطلق المسلمون يوم الثلاثاء لسبع بقين من شعبان سميون رسول ملك الروم، وأطلق الروم فيه يحيى بن عبد الباقي رسول المسلمين المتوجه في الفداء، وانصرف الأمير ومن معه.
وخرج - فيما ذكر أحمد بن طغان بعد انصرافه من هذا الفداء في هذا الشهر في البحر، أوخلف دميانه على علمه على طرسوس، ثم وجه بعده يوسف ابن الباغمردي على طرسوس ولم يرجع هو إليها.
ذكر أمر المعتضد مع عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف وأخيه بكر

وفي يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان من هذه السنة قرىء كتاب على المنبر بمدينة السلام في مسجد جامعها؛ بأن عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف صار إلى بدر وعبيد الله بن سليمان في الأمان يوم السبت لثلاث بقين من شعبان سامعًا مطيعًا منقادًا لأمير المؤمنين، مذعنًا بالطاعة والمصير معهما إلى بابه، وأن عبيد الله بن سلمان خرج إليه فتلقاه، وصار به إلى مضرب بدر، وأخذ عليه وعلى أهل بيته وأصحابه البيعة لأمير المؤمنين، وخلع عليه بدر وعلى الرؤساء من أهل بيته، فانصرفوا إلى مضرب قد أعد لهم، وكان قبل ذلك قد دخل بكر بن عبد العزيز في الأمان على بدر وعبيد الله بن سليمان، فولياه عمل أخيه عمر، على أن يخرج إليه ويحاربه، فلما دخل عمر في الأمان قالا لبكر: إن أخاك قد دخل في طاعة السلطان؛ وإنما كنا وليناك عمله على أنه عاص، والآن فأمير المؤمنين أعلى عينًا فيما يرى من أمركما، فامضيا إلى بابه.
وولى عيسى النوشري أصبهان، وأظهر أنه من قبل عمر بن عبد العزيز، فهرب بكر بن عبد العزيز في أصحابه، فكتب بذلك إلى المعتضد، فكتب إلى بدر يأمره بالمقام بموضعه إلى أن يعرف خبر بكر وما إليه يصير أمره؛ فأقام وخرج الوزير عبيد الله بن سليمان إلى محمد علي بن المعتضد بالرى، ولحق بكر بن عبد العزيز بن أبي دلف بالأهواز، فوجه المعتضد في طلبه وصيفًا موشكير، فخرج من بغداد في طلبه حتى بلغ حدود فارس، وقد كان لحقه - فيما ذكر - ولم يواقعه، وباتا؛ وكل واحد منهما قريب من صاحبه، فارتحل بكر بالليل فلم يتبعه وصيف، ومضى بكر إلى أصبهان، ورجع وصيف إلى بغداد، فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بكر وعربه، فتقدم بدر إلى عيسى النوشري بذلك، فقال بكر بن عبد العزيز:
عني ملامك ليس حين ملام ** هيهات أحدث زائدًا للوام
طارت غيايات الصبا عن مفرقي ** ومضى أوان شراستي وعرامي
ألقى الأحبة بالعراق عصيهم ** وبقيت نصب حوادث الأيام
وتقاذفت بأخي النوى ورمت به ** مرمى البعيد الأرحام
وتشعب العرب الذين تصدعوا ** فذببت عن أحسابهم بحسامي
فيه تماسك ما وهي من أمرهم ** والسمر عند تصادم الأقوام
فلأقرعن صفاة دهر نابهم ** قرعًا يهد رواسي الأعلام
ولأضربن الهام دون حريمهم ** ضرب القدار نقيعة القدام
ولأتركن الواردين حياضهم ** بقرارة لمواطىء الأقدام
يا بدر إنك لو شهدت مواقفي ** والموت يلحظ والصفاح دوامي
لذممت رأيك في إضاعة حرمتي ** ولضاق ذرعك في اطراح ذمامي
حركتني بعد السكون وإنما ** حركت من حصني جبال تهام
وعجمتني فعجمت مني مرجمًا ** خشن المناكب كل يوم زحام
قل للأمير أبي محمد الذي ** يخلو بغرته دجى الإظلام
أسكنتني ظل العلا فسكنته ** في عيشة رغد وعز نامي
حتى إذا حلئت عنه نابني ** ما نابني وتنكرت أيامي
فلأشكرن جميل ما أوليتني ** ما غردت في الأيك ورق حمام
هذا أبو حفص يدي وذخيرتي ** للنائبات وعدتي وسنامي
ناديته فأجابني، وهززته ** فهززت حد الصارم الصمصام
من رام أن يغضي الجفون على القذى ** أو يستكين يروم غير مرام
ويخيم حين يرى الأسنة شرعًا ** والبيض مصلته لضرب الهام
وقال بكر بن عبد العزيز يذكر هرب النوشري منبين يديه ويعير وصيفا بالأحجام عنه ويتهدد بدرًا:
قالت البيض قد تغير بكر ** وبدا بعد وصله منه هجر
ليس كالسيف مونس حين يعرو ** حادث معضل ويفدح أمر
أوقدوا الحرب بيننا فاصطلوها ** ثم حاصوا، فأين منها المفر!
وبغوا شرنا فهذا أوان ** قد بدا شره ويتلوه شر
قد رأى النوشري لما التقينا ** من إذا أشرع الرماح يفر
جاء في قسطل لهام فصلنا ** صولة دونها الكماة تهر
ولواء الموشجير أفضى إلينا ** رويت عند ذاك بيض وسمر
غر بدرًا حلمي وفضل أناتي ** واحتمالي، وذاك مما يغر
سوف يأتينه شوذاب قب ** لاحقات البطون جون وشقر
يتبارين كالسعالي عليها ** من بني وائل أسود تكر
لست بكرًا إن لم أدعهم حديثًا ** ما سرى كوكب وما كر دهر
وفي يوم الجمعة لسبع خلون من شوال من هذه السنة مات علي بن محمد ابن أبي الشوارب، فحمل إلى سامرا من يومه في تابوت، وكانت ولايته للقضاء على مدينة أبي جعفر ستة أشهر.