وفي يوم الاثنين لأربع من شوال منها دخل بغداد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف قادمًا من أصبهان، فأمر المعتضد - فيما ذكر - القواد باستقباله، فاستقبله القاسم بن عبيد الله والقواد، وقعد له المعتضد، فوصل إليه، وخلع عليه، وحمله على دابة بسرج ولجام محلى بذهب، وخلع معه على ابنين له وعلى ابن أخيه أحمد بن عبد العزيز وعلى نفسين من قواده، وأنزل في الدار التي كانت لعبيد الله بن عبد الله عند رأس الجسر؛ وكانت قد فرشت له.
وفي هذه السنة قرىء على القواد في دار المعتضد كتاب ورد من عمرو بن الصفار بن الليث الصفار؛ بأنه واقع رافع بن هرثمة وهزمه، وأنه مر هاربًا، وأنه على أن يتبعه.
وكانت الوقعة لخمس بقين من شهر رمضان، وقرىء الكتاب يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة.
وفي يوم الأحد لثلاث عشرة بقين من ذي القعدة، وردت خريطة - فيما ذكر - من عمرو بن الليث على المعتضد، وهو في الحلبة، فانصرف إلى دار العامة، وقرىء الكتاب على القواد من عمرو بن الليث يخبر فيه أنه وجه في أثره رافع بعد الهزيمة محمد بن عمرو البلخي مع قائد آخر من قواده، وقد كان رافع صار إلى طوس فواقعوه، فانهزم واتبعوا أثره، فلحق بخوارزم، فقتل بخوارزم، فأرسل بخاتمه مع الكتاب، وذكر أنه قد حمل الرسول في أمر الرأس ما يخبر به السلطان.
وفي يوم الجمعة لثمان بقين من ذي القعدة منها قرئت الكتب على المنابر بقتل رافع بن هرثمة.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من قدوم رسول عمرو بن الليث الصفار برأس رافع بن هرثمة يوم الخميس لأربع خلون من المحرم على المعتضد، فأمر بنصبه في المجلس بالجانب الشرقي إلى الظهر، ثم تحويله إلى الجانب الغربي، ونصبه هنالك إلى الليل، ثم رده إلى دار السلطان.
وخلع على الرسول وقت وصوله إلى المعتضد بالرأس.
وفي يوم الخميس لسبع خلون من صفر كانت ملحمة بين راغب ودميانة بطرسوس، وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن راغبًا مولي الموفق ترك الدعاء لخمارويه بن أحمد، ودعا لبدر مولى المعتضد، فوقع بينه وبين أحمد بن طغان الخلاف؛ فلما انصرف ابن طغان من الفداء الذي في سنة ثلاث وثمانين ومائتين ركب البحر ولم يدخل طرسوس، ومضى وخلف دميانة للقيام بأمر طرسوس؛ فلما كان في صفر من هذه السنة، وجه يوسف الباغمردي ليخلفه إلى طرسوس؛ فلما دخلها وقوى به دميانة، كرهوا ما يفعله راغب من الدعاء لبدر، فوقعت بينهم الفتنة، وظفر بهم راغب، فحمل دميانة وابن الباغمردي وابن اليتيم مقيدين إلى المعتضد.
ولعشر بقين من صفر في يوم الاثنين من هذه السنة وردت خريطة من الجبل، بأن عيسى النوشري أوقع ببكر بن عبد العزيز بن أبي دلف في حدود أصبهان، فقتل رجاله، واستباح عسكره، وأفلت في نفر يسير.
وفي يوم الخميس لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول منها، خلع على أبي عمر يوسف بن يعقوب، وقلد قضاء مدينة أبي جعفر المنصور مكان علي ابن محمد بن أبي الشوارب، وقضاء قطر بل ومسكن وبزرجسابور والرذانين.
وقعد للخصوم في هذا اليوم في المسجد الجامع، ومكثت مدينة أبي جعفر من لدن مات ابن أبي الشوارب إلى أن وليها أبو عمر بغير قاض، وذلك خمسة أشهر وأربعة أيام.
وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت منه في هذه السنة، أخذ خادم نصراني لغالب النصراني متطبب السلطان يقال له وصيف، فرفع إلى الحبس، وشهد عليه أنه شم النبي فحبس، ثم اجتمع من غد هذا اليوم ناس من العامة بسبب هذا الخادم، فصاحوا بالقاسم بن عبيد الله، وطالبوه بإقامة الحد عليه.
بسبب ما شهد عليه؛ فلما كان يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت منه اجتمع أهل باب الطاق إلى قنطرة البردان وما يليها من الأسواق، وتداعوا، ومضوا إلى باب السلطان، فلقيهم أبو الحسين ابن الوزير، فصاحوا به، فأعلمهم أنه قد أنهى خبره إلى المعتضد، فكذبوه وأسمعوه ما كره، ووثبوا بأعوانه ورجاله حتى هربوا منهم، ومضوا إلى دار المعتضد بالثريا، فدخلوا من الباب الأول والثاني فمنعوا من الدخول، فوثبوا على من منعهم، فخرج إليهم من سألهم عن خبرهم، فأخبروه.
فكتب به إلى المعتضد، فأدخل إليه منهم جماعة، وسألهم عن الخبر فذكروه له، فأرسل معهم خفيفًا السمرقندي إلى يوسف القاضي، وتقدم إلى خفيف أن يأمر يوسف بالنظر في أمر الخادم، وأن ينهي إليه ما يقف عليه من أمره، فمضى معهم خفيف إلى يوسف، فكادوا يقتلونه ويقتلون يوسف لما دخلوا عليه مما ازدحموا، حتى أفلت يوسف منهم، ودخل بابًا وأغلقه دونهم، ولم يكن بعد ذلك للخادم ذكر، ولا كان للعامة في أمره اجتماع.
وفي هذا الشهر من هذه السنة قدم - فيما ذكر - قوم من أهل طرسوس على السلطان يسألونه أن يولى عليهم وال، ويذكرون أن بلدهم بغير وال؛ وكانت طرسوس قبل في يدي ابن طولون، فأساء إليهم، فأخرجوا عامله عن البلد، وأرسلهم في ذلك، ووعدهم الإحسان، فأبوا أن يتركوا له غلامًا يدخل بلدهم، وقالوا: من جاءنا من قبلك حاربناه، فكف عنهم.
وفي يوم الخميس لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر من هذه السنة - فيما ذكر - ظهرت ظلمة بمصر، وحمرة في السماء شديدة؛ حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الآخر، فيراه أحمر، وكذلك الحيطان وغير ذلك، ومكثوا كذلك من العصر إلى العشاء الآخرة، وخرج الناس من منازلهم يدعون الله ويتضرعون إليه.
وفي يوم الأربعاء لثلاث خلون من جمادى الأولى، ولإحدى عشرة ليلة خلت من حزيران، نودي في الأرباع والأسواق ببغداد بالنهي عن وقود النيران ليلة النيروز، وعن صب الماء في يومه، ونودي بمثل ذلك في يوم الخميس، فلما كان عشية يوم الجمعة نودي على باب سعيد بن يكسين صاحب الشرطة بالجانب الشرقي من مدينة السلام، بأن أمير المؤمنين قد أطلق للناس في وقود النيران وصب الماء، ففعلت العامة من ذلك ما جاوز الحد، حتى صبوا الماء على أصحاب الشرطة في مجلس الجسر - فيما ذكر.
وفيها أغريت العامة بالصياح بمن رأوا من الخدم السود: يا عقيق فكانوا يغضبون من ذلك، فوجه المعتضد خادمًا أسود عشية الجمعة برقعة إلى ابن حمدون النديم؛ فلما بلغ الخادم رأس الجسر من الجانب الشرقي صاح به صائح من العامة: يا عقيق! فشم الخادم الصائح، وقنعه، فاجتمعت جماعة من العامة على الخادم فنكسوه وضربوه، وضاعت الرقعة التي كانت معه.
فرجع إلى السلطان فأخبره بما صنع به، فأمر المعتضد طريفًا المخلدي الخادم بالركوب والقبض على كل من تولع بالخدم وضربه بالسياط.
فركب طريف يوم السبت لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى في جماعة من الفرسان والرجالة، وقدم بين يديه خادمًا أسود؛ فصار إلى باب الطاق لما أمر به من القبض على من صاح بالخادم: يا عقيق، فقبض فيما ذكر بباب الطابق على سبعة أنفس؛ ذكر أن بعضهم كان بزيًا؛ فضربوا بالسياط في مجلس الشرطة بالجانب الشرقي.
وعبر طريف ومضى إلى الكرخ، ففعل مثل ذلك، وأخذ خمسة أنفس فضربهم في مجلس الشرطة بالشرقية، وحمل الجميع على جمال، ونودي عليهم: هذا جزاء من أولع بخدم السلطان، وصاح بهم: يا عقيق، وحبسوا يومهم، وأطلقوا بالليل.
وفي هذه السنة عزم المعتضد بالله على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب بذلك يقرأ على الناس، فخوفه عبيد الله بن سليمان بن وهب اضطراب العامة، وأنه لا يأمن أن تكون فتنة، فلم يلتفت إلى ذلك من قوله.
وذكر أن أول شيء بدأ به المعتضد حين أراد ذلك الأمر بالتقدم إلى العامة بلزوم أعمالهم، وترك الاجتماع والقضية والشهادات عند السلطان، إلا أن يسألوا عن شهادة إن كانت عندهم، وبمنع القصاص من القعود على الطرقات، وعملت بذلك نسخ قرئت بالجانبين بمدينة السلام في الأرباع والمحال والأسواق، فقرئت يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى من هذه السنة، ثم منع يوم الجمعة لأربع بقين منها القصاص من القعود في الجامعين، ومنع أهل الحلق في الفتيا أو غيرهم من القعود في المسجدين، ومنع الباعة من القعود في رحابهما.
وفي جمادى الآخرة نودي في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع على قاص أو غيره، ومنع القصاص وأهل الحلق من القعود.
وفي يوم الحادي عشر - وذلك يوم الجمعة - نودي في الجامعين بأن الذمة برية ممن اجتمع من الناس على مناظره أو جدل، وأن من فعل ذلك أحل بنفسه الضرب، وتقدم إلى الشراب والذين يسقون الماء في الجامعين ألا يترحموا على معاوية، ولا يذكروه بخير.
ذكر كتاب المعتضد في شأن بني أمية

وتحدث الناس أن الكتاب الذي أمر المعتضد بإنشائه بلعن معاوية يقرأ بعد صلاة الجمعة على المنبر، فلما صلى الناس بادروا إلى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب فلم يقرأ.
فذكر أن المعتضد أمر بإخراج الكتاب الذي كان المأمون أمر بإنشائه بلعن معاوية، فأخرج له من الديوان، فأخذ من جوامعه نسخة هذا الكتاب، وذكر أنها نسخة الكتاب الذي أنشىء للمعتضد بالله:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله العلي العظيم، الحليم الحكيم، العزيز الرحيم، المنفرد بالوحدانية، الباهر بقدرته، الخالق بمشيئته وحكمته؛ الذي يعلم سوابق الصدور، وضمائر القلوب، لا يخفى عليه خافية، ولا يغرب عنه مثقال ذرة في السموات العلا، ولا في الارضين السفلى؛ قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وضرب لكل شيء أمدًا، وهو العليم الخبير، والحمد لله الذي برأ خلقه لعبادته، وخلق عباده لمعرفته، على سابق علمه في طاعة مطيعهم، وماضى أمره في عصيان عاصيهم؛ فبين لهم ما يأتون وما يتقون، ونهج لهم سبل النجاة، وحذرهم مسالك الهلكة، وظاهر عليهم الحجة، وقدم إليهم المعذرة، واختار لهم دينه الذي ارتضى لهم، وأكرمهم به، وجعل المعتصمين بحبله والمتمسكين بعروته أولياءه وأهل طاعته، والعاندين عنه والمخالفين له أعداءه وأهل معصيته؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم. والحمد لله الذي اصطفى محمدًا رسوله من جميع بريته، وأختاره لرسالته، وابتعثه بالهدى والدين المرتضى إلى عباده أجمعين، وأنزل عليه الكتاب المبين المستبين، وتأذن له بالنصر والتمكين، وأيده بالعز والبرهان المتين، فاهتدى به من اهتدى واستنقذ به من استجاب له من العمى، وأضل من أدبر وتولى، حتى أظهر الله أمره، وأعز نصره، وقهر من خالفه، وأنجز له وعده، وختم به رسله، وقبضه مؤديًا لأمره، مبلغًا لرسالته، ناصحًا لأمته، مرضيًا مهتديًا إلى أكرم مآب المنقلبين، وأعلى منازل أنبيائه المرسلين، وعباده الفائزين؛ فصلى الله عليه أفضل صلاة وأتمها، وأجلها وأعظمها، وأزكاها وأطهرها، وعلى آله الطيبين.
والحمد لله الذي جعل أمير المؤمنين وسلفه الراشدين المهتدين ورثة خاتم النبيين وسيد المرسلين والقائمين بالدين، والمقومين لعبادة المؤمنين، والمستحفظين ودائع الحكمة، ومواريث النبوة، والمستخلفين في الأمة، والمنصورين بالعز والمنعة، والتأييد والغلبة؛ حتى يظهر الله دينه على الدين كله ولو كره المشركون.