فصار هؤلاء القواد إلى هيت في آخر شعبان من هذه السنة.
وبلغ الأعراب خبرهم، فارتحلوا عن موضعهم من سواد الأنبار، وتوجهوا نحو عين التمر، فنزلوهما ودخل القواد الأنبار، فأقاموا بها، وعاث الأعراب بعين التمر ونواحي الكوفة؛ مثل عيثهم بنواحي الأنبار، وذلك بقين شعبان وشهر رمضان.
وفيها وجه المعتضد إلى راغب مولى أبي أحمد وهو بطرسوس، يأمره بالمصير إليه بالرقة، فصار إليه وهو بها، فلما وصل إليه تركه في عسكره يومًا ثم أخذه من الغد فحبسه؛ وأخذ جميع ما كان معه؛ ورد الخبر بذلك مدينة السلام يوم الاثنين لتسع خلون من شعبان، ثم مات راغب بعد أيام، وقبض على مكنون غلام راغب وعلى أصحابه، وأخذ ماله بطرسوس يوم الثلاثاء لست بقين من رجب، وكان المتولي أخذهم ابن الإخشاد.
ولعشر بقين من شهر رمضان منها وجه المعتضد مؤنسًا الخازن إلى الأعراب بنواحي الكوفة وعين التمر، وضم إليه العباس بن عمرو وخفيفًا الاذكرتكيني وغيرهما من القواد، فسار مؤنس ومن معه حتى بلغ الموضع المعروف بنينوى فوجد الأعراب قد ارتحلوا عن موضعهم، ودخل بعضهم إلى برية طريق مكة وبعضهم إلى برية الشأم، فأقام بموضعه أيامًا، ثم شخص إلى مدينة السلام.
وفي شوال منها قلد المعتضد وعبيد الله بن سليمان ديوان المشرق محمد بن داود ابن الجراح، وعزل عنه أحمد بن محمد بن الفرات، وقلد ديوان المغرب علي بن عيسى بن داود بن الجراح، وعزل عنه ابن الفرات.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من قبض المعتضد على محمد بن أحمد بن عيسى بن شيخ وعلى جماعة من أهله وتقييده إياهم، وحبسه لهم في دار ابن طاهر؛ وذلك أنه صار بعض أقربائه - فيما ذكر - إلى عبيد الله بن سليمان، فأعلمه أن محمدًا على الهرب في جماعة من أصحابه وأهله، فكتب بذلك عبيد الله إلى المعتضد، فكتب إليه المعتضد يأمره بالقبض عليه، ففعل ذلك يوم الأربعاء لأربع خلون من المحرم منها.
وفي هذا الشهر من هذه السنة ورد كتاب أبي الأغر على السلطان أن طيئًا تجمعت له، وحشدوا واستعانوا بمن قدروا عليه من الأعراب، واعترضوا قافلة الحاج، فواقعوهم لما جاوزوا المعدن منصرفين إلى مدينة السلام من مكة ببضعة عشر ميلًا، وأقبل إليهم فرسان الأعراب ورجالتهم ومعهم بيوتهم وحرمهم وإبلهم؛ وكانت رجالتهم أكثر من ثلاثة ألاف، فالتحمت الحرب بينهم، ولم تزل الحرب بينهم يومهم أجمع، وهو يوم الخميس لثلاث بقين من ذي الحجة، فلما جنهم الليل باينوهم؛ فلما أصبحوا غادوهم الحرب غداة يوم الجمعة إلى حين انتصاف النهار.
ثم أنزل الله النصر على أوليائه وولى الأعراب منهزمين، فما اجتمعوا بعد تفرقهم، وأنه سار هو وجميع الحاج سالمين، وأنفذ كتابه مع سعيد بن الأصفر بن عبد الأعلى، وهو أحد وجوه بني عمه والمتولي كان للقبض على صالح بن مدرك.
وفي يوم السبت لثلاث بقين من المحرم وافى أبو الأغر مدينة السلام، وبين يديه رأس صالح بن مدرك، ورأس جحنش، ورأس غلام لصالح أسود، وأربعة أسارى من بني عم صالح، فمضى إلى دار المعتضد، فخلع عليه، وطوق بطوق من ذهب، ونصبت الرءوس على رأس الجسر الأعلى بالجانب الشرقي، وأدخل الأسرى المطامير.
ولأربع ليال بقين من صفر منها، دخل المعتضد من متنزهه ببراز الروز إلى بغداد، وأمر ببناء قصر في موضع اختاره من براز الروز، فحمل إليه الآلات، وابتدأ في عمله.
وفي شهر بيع الأول منها غلظ أمر القرامطة بالبحرين، فأغاروا على نواحي هجر، وقرب بعضهم من نواحي البصرة، فكتب أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي يسأل المدد، فوجه إليه في آخر هذا الشهر بثماني شذوات، فيها ثلثمائة رجل، وأمر المعتضد باختيار جيش لينفذه إلى البصرة.
وفي يوم الأحد لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، قعد بدر مولى المعتضد في داره، ونظر في أمور الخاصة والعامة من الناس والخراج والضياع والمعاون.
وفي يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت من شهر ربيع الآخر، مات محمد بن عبد الحميد الكاتب المتولى ديوان زمام المشرق والمغرب.
وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة منه ولي جعفر بن محمد بن حفص هذا الديوان، فصار من يومه إلى الديوان وقعد فيه.
وفي شهر ربيع الأخر منها ولي المعتضد بن عباس بن عمرو الغنوي اليمامة والبحرين ومحاربة أبي سعيد الجنابي ومن معه من القرامطة، وضم إليه زهاء ألفي رجل، فعسكر العباس بالفرك أيامًا حتى اجتمع إليه أصحابه، ثم مضى إلى البصرة، ثم شخص منها إلى البحرين واليمامة.
وفيها - فيما ذكر - وافى العدو باب قلمية من طرسوس، فنفر أبو ثابت وهو أمير طرسوس بعد موت ابن الإخشاد - وكان استخلفه على البلد حين غزا - فمات وهو على ذلك؛ فبلغ في نفيره إلى نهر الريحان في طلب العدو، فأسر أبو ثابت وأصيب الناس؛ فكان ابن كلوب غازيًا في درب السلامة؛ فلما قفل من غزاته جمع المشايخ من أهل الثغر ليتراضوا بأمير يلي أمورهم، فاتفق رأيهم على علي بن الأعرابي، فولوه أمرهم بعد اختلاف من ابن أبي ثابت.
وذكر أن أباه استخلفه، وجمع جمعًا لمحاربة أهل البلد حتى توسط الأمر ابن كلوب، فرضى ابن ثابت؛ وذلك في شهر ربيع الآخر، وكان النغيل حينئذ غازيًا ببلاد الروم، فانصرف إلى طرسوس، وجاء الخبر أن أبا ثابت حمل إلى القسطنطينية من حصن قونية، ومعه جماعة من المسلمين.
وفي شهر ربيع الآخر مات إسحاق بن أيوب الذي كان إليه المعاون بديار ربيعة، فقلد ما كان إليه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمر.
وفي يوم الأربعاء لخمس بقين من جمادى الأولى، ورد كتاب - فيما ذكر - على السلطان بأن إسماعيل بن أحمد أسر عمرًا الصفار، واستباح عسكره؛ وكان من خبر عمرو وإسماعيل، ان عمرًا سأل السلطان أن يوليه ما وراء النهر، فولاه ذلك، ووجه إليه وهو مقيم بنيسابور بالخلع، واللواء على ما وراء النهر، فخرج لمحاربة إسماعيل بن أحمد، فكتب إليه إسماعيل بن أحمد: إنك قد وليت دنيا عريضة، وإنما في يدي ما وراء النهر، وأنا ثغر؛ فاقنع بما في يدك، واتركني مقيمًا بهذا الثغر.
فأبى إجابته إلى ذلك؛ فذكر له أمر نهر بلخ وشدة عبوره، فقال: لو أشاء أن أسكره ببدر الأموال وأعبره لفعلت؛ فلما أيس إسماعيل من انصرافه عنه جمع من معه والتناء والدهاقين، وعبر النهر إلى الجانب الغربي؛ وجاء عمرو فنزل بلخ، وأخذ إسماعيل عليه النواحي، فصار كالمحاصر، وندم على ما فعل، وطلب المحاجزة - فيما ذكر - فأبى إسماعيل عليه ذلك، فلم يكن بينهما كثير قتال حتى هزم فولى هاربًا، ومر بأجمة في طريقه، قيل له أنها أقرب، فقال لعامة من معه: امضوا في الطريق الواضح.
ومضى في نفر يسير، فدخل الأجمة، فوحلت دابته؛ فوقعت، ولم يكن له في نفسه حيلة، ومضى من معه، ولم يلووا عليه، وجاء أصحاب إسماعيل، فأخذوه أسيرًا.
ولما وصل الخبر إلى المعتضد بما كان من أمر عمرو وإسماعيل، مدح إسماعيل - فيما ذكر - وذم عمرًا.
ولليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، ورد الخبر على السلطان أن وصيفًا خادم ابن أبي الساج، هرب من برذعة، ومضى إلى ملطية مراغمًا لمحمد بن أبي الساج في أصحابه، وكتب إلى المعتضد يسأله أن يوليه الثغور، ليقوم بها، فكتب إليه المعتضد يأمره بالمصير إليه، ووجه إليه رشيقًا الحرمي.
ولسبع خلون من رجب من هذه السنة توفيت ابنة خمارويه بن أحمد بن طولون، زوجة المعتضد، ودفنت داخل قصر الرصافة.
ولعشر خلون من رجب وفد على السلطان ثلاثة أنفس وجههم وصيف خادم ابن أبي الساج إلى المعتضد، يسأله أن يوليه الثغور، يوجه إليه الخلع، فذكر أن المعتضد أمر بتقرير الرسل بالسبب الذي من أجله فارق وصيف صاحبه ابن أبي الساج، وقصد الثغور، فقرروا بالضرب، فذكروا أنه فارقه على مواطأة بينه وبين صاحبه، على أنه متى صار إلى الموضع الذي هو به متى لحق به صاحبه، فصار جميعًا إلى مضر وتغلبًا عليها، وشاع ذلك في الناس وتحدثوا به.
ولإحدى عشرة خلت من رجب من هذه السنة ولي حامد بن العباس الخراج والضياع بفارس؛ وكانت في يد عمرو بن الليث الصفار، ودفعت كتبه بالولاية إلى أخيه أحمد بن العباس، وكان حامد مقيمًا بواسط، لأنه كان يليها وكور دجلة، وكتب إلى عيسى النوشري وهو بإصبهان بالمصير إلى فارس واليًا على معونتها.
خروج العباس بن عمرو الغنوي من البصرة

وفي هذه السنة كان خروج العباس بن عمرو الغنوي - فيما ذكر - من البصرة بمن ضم إليه من الجند، مع من خف معه من مطوعة البصرة نحو أبي سعيد الجناني ومن انضوى إليه من القرامطة، فلقيهم طلائع لأبي سعيد، فخلف العباس سواده، وسار نحوهم، فلقي أبا سعيد ومن معه مساء، فتناوشوا القتال، ثم حجز بينهم الليل، فانصرف كل فريق منهما إلى موضعهم.
فلما كان الليل انصرف من كان مع العباس من أعراب بني ضبة - وكانوا زهاء ثلثمائة - إلى البصرة، ثم تبعهم مطوعة البصرة؛ فلما أصبح العباس غادي القرامطة الحرب، فاقتتلوا قتالًا شديدًا.
ثم إن صاحب ميسرة العباس - وهو نجاح غلام أحمد بن عيسى بن شيخ - حمل في جماعة من أصحابه زهاء مائة رجل على ميمنة أبي سعيد؛ فوغلوا فيهم، فقتل وجميع من معه، وحمل الجنابي وأصحابه على أصحاب العباس، فانهزموا، فاستأسر العباس، وأسر من أصحابه زهاء سبعمائة رجل، واحتوى الجنابي على ما كان في عسكر العباس؛ فلما كان من غد يوم الوقعة أحضر الجنابي من كان أسر من أصحاب العباس، فقتلهم جميعًا، ثم أمر بحطب فطرح عليهم، وأحرقهم.
وكانت هذه الوقعة - فيما ذكر - في آخر رجب، وورد خبرها بغداد لأربع خلون من شعبان.
وفيها - فيما ذكر - صار الجنابي إلى هجر، فدخلها وآمن أهلها؛ وذلك بعد منصرفه من وقعة العباس، وانصرف فل أصحاب العباس بن عمرو يريدون البصرة، ولم يكن أفلت منهم إلا القليل بغير أزواد ولا كسًا، فخرج إليهم من البصرة جماعة بنحو من أربعمائة راحلة، عليها الأطعمة والكسا والماء، فخرج عليهم - فيما ذكر - بنو أسد، فأخذوا تلك الرواحل بما عليها، وقتلوا جماعة ممن كان مع تلك الرواحل ومن أفلت من أصحاب العباس؛ وذلك في شهر رمضان فاضطربت البصرة لذلك اضطرابًا شديدًا وهموا بالإنتقال عنها، فمنعهم أحمد بن محمد الواثقي المتولي لمعاونها من ذلك، وتخوفوا هجوم القرامطة عليهم.
ولثمان خلون من شهر رمضان منها - فيما ذكر - وردت خريطة على السلطان من الأبلة بموافاة العباس بن عمرو في مركب من مراكب البحر، وأن أبا سعيد الجنابي أطلقه وخادمًا له.
ولإحدى عشرة خلت من شهر رمضان، وافى العباس بن عمرو مدينة السلام وصار إلى دار المعتضد بالثريا، فذكر أنه بقي عند الجنابي أيامًا بعد الوقعة، ثم دعا به، فقال له: أتحب أن أطلقك؟، قال: نعم، قال: امض وعرف الذي وجه بك إلى ما رأيت.
وحمله على رواحل، وضم إليه رجالًا من أصحابه، وحملهم ما يحتاجون إليه من الزاد والماء، وأمر الرجال الذين وجههم معه أن يؤدوه إلى مأمنه، فساروا به حتى وصل إلى بعض السواحل، فصادف به مركبًا، فحمله، فصار إلى الأبلة، فخلع عليه المعتضد وصرفه إلى منزله.