فحاربوه حربًا شديدًا، فساءلهم: وقال: أفيكم السلطان؟ قالوا: ليس معنا سلطان، ونحن الحاج، فقال لهم: فامضوا فلست أريدكم. فلما سارت القافلة تبعها فأوقع بها، وجعل أصحابه ينخسون الجمال بالرماح، ويبعجونها بالسيوف، فنفرت، واختلطت القافلة، وأكب أصحاب الخبيث على الحاج يقتلونهم كيف شاءوا، فقتلوا الرجال والنساء، وسبوا من النساء من أرادو، واحتووا على ما كان في القافلة، وقد كان لقي بعض من أفلت من هذه القافلة علان بن كشمرد، فسأله عن الخبر، فأعلمه ما نزل بالقافلة الخراسانية، وقال له: ما بينك وبين القوم إلا قليل، والليلة أو في غد توافى القافلة الثانية، فإن رأوا علما للسلطان قويت أنفسهم. والله الله فيهم! فرجع علان من ساعته، وأمر من معه بالرجوع، وقال: لا أعرض أصحاب السلطان للقتل، ثم أصعد زكرويه، ووافته القافلة الثانية.
وقد كان السلطان كتب إلى رؤساء القافلتين الثانية والثالثة ومن كان فيهما من القواد والكتاب مع جماعة من الرسل الذين تنكبوا طريق الجادة بخبر الفاسق وفعله بالحاج، ويأمرهم بالتحرز منه، والعدول عن الجادة نحو واسط والبصرة، أو الرجوع إلى فيد أو إلى المدينة، إلى أن يلحق بهم الجيوش. ووصلت الكتب إليهم فلم يسمعوا ولم يقيموا، ولم يلبثوا.
وتقدم أهل القافلة الثانية وفيها المبارك القمى وأحمد بن نصر العقيلي وأحمد بن علي بن الحسين الهمداني، فوافوا الفجرة، وقد رحلوا عن واقصة، وعوروا مياهها، ومثلوا بركها وبئارها بجيف الإبل والدواب التي كانت معهم، مشققة بطونها، ووردوا منزل العقبة في يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من المحرم، فحاربهم أصحاب القافلة الثانية.
وكان أبو العشائر مع أصحابه في أول القافلة ومبارك القمى فيمن معه في ساقتها، فجرت بينهم حرب شديدة حتى كشفوهم، وأشرفوا على الظفر بهم، فوجد الفجرة من ساقتهم غرة، فركبوهم من جهتها، ووضعوا رماحهم في جنوب إبلهم وبطونها، فطحنتهم الإبل وتمكنوا منهم، فوضعوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم، إلا من استعبدوه.
ثم أنفذوا إلى ما دون العقبة بأميال فوارس لحقوا المفلتة من السيف، فأعطوهم الأمان، فرجعوا فقتلوهم أجمعين، وسبوا من النساء ما أحبوا، واكتسحوا الأموال والأمتعة.
وقتل المبارك القمى والمظفر ابنه، وأسر أبو العشائر، وجمع القتلى، فوضع بعضهم على بعض، حتى صاروا كالتل العظيم.
ثم قطعت يدا أبي العشائر ورجلاه، وضربت عنقه، وأطلق من النساء من لم يرغبوا فيه، وأفلت من الجرحى قوم وقعوا بين القتلى، فتحاملوا في الليل ومضوا؛ فمنهم من مات، ومنهم من نجا وهم قليل.
وكان نساء القرامطة يطفن مع صبيانهم في القتلى يعرضون عليهم الماء، فمن كلمهم أجازوا عليه.
وقيل أنه كان في القافلة من الحاج زهاء عشرين ألف رجل، قتل جميعهم غير نفر يسير ممن قوى على العدو، فنجا بغير زاد ومن وقع في القتل وهو مجروح، وأفلت بعد، أو من استعبدوه لخدمتهم.
وذكر أن الذي أخذوا من المال والأمتعة الفاخرة في هذه القافلة قيمة ألفي ألف دينار.
وذكر عن بعض الضرابين أنه قال: وردت علينا كتب الضرابين بمصر أنكم في هذه السنة تستغنون، قد وجه آل ابن طولون والقواد المصريون الذين أشخصوا إلى مدينة السلام، ومن كان في مثل حالهم في حمل ما لهم بمصر إلى مدينة السلام، وقد سبكوا آنية الذهب والفضة والحلى نقارًا، وحمل إلى مكة ليوافوا به مدينة السلام مع الحاج، فحمل، في القوافل الشاخصة إلى مدينة السلام، فذهب ذلك كله.
وذكر أن القرامطة بينا هم يقتلون وينهبون هذه القافلة يوم الاثنين، إذ أقبلت قافلة الخراسانية، فخرج إليهم جماعة من القرامطة، فراقعوهم، فكان سبيلهم سبيل هذه.
فلنا فرغ زكرويه من أهل القافلة الثانية من الحاج.
وأخذ أموالهم، واستباح حريمهم، رحل من وقته من العقبة بعد أن ملأ البرك والآبار بها بالجيف من الناس والدواب.
وكان ورد خبر قطعة على القافلة الثانية من قوافل السلطان مدينة السلام في عشية يوم الجمعة لأربع عشرة بقيت من المحرم، فعظم ذلك على الناس جميعًا وعلى السلطان، وندب الوزير العباس بن الحسن بن أيوب محمد بن داود بن الجراح الكاتب المتولي دواوين الخراج والضياع بالمشرق وديوان الجيش للخروج إلى الكوفة، والمقام بها لإنفاذ الجيوش إلى القرمطي.
فخرج من بغداد لإحدى عشرة بقيت من المحرم، وحمل معه أموالًا كثيرة لإعطاء الجند.
ثم سار زكرويه إلى زبالة فنزلها، وبث الطلائع أمامه ووراءه خوفًا من أصحاب السلطان المقيمين بالقادسية أن يلحقوه، ومتوقعًا ورود القافلة الثالثة التي فيها الأموال والتجار.
ثم سار إلى الثعلبية، ثم إلى الشقوق، وأقام بها بين الشقوق والبطان في طرف الرمل في موضع يعرف بالطليح، ينتظر القافلة الثالثة، وفيها من القواد نفيس المولدي وصالح الأسود، ومعه الشمسة والخزانة.
وكانت الشمسة جعل فيها المعتضد جوهرًا نفيسًا.
وفي هذه القافلة، كان إبراهيم ابن أبي الأشعث - وإليه كان قضاء مكة والمدينة وأمر طريق مكة والنفقة فيه لمصالحه - وميمون بن إبراهيم الكاتب - وكان إليه أمر ديوان زمام الخراج والضياع - وأحمد بن محمد بن أحمد المعروف بابن الهزلج، والفراتبن أحمد بن محمد بن الفرات، والحسن بن إسماعيل قرابة العباس بن الحسن - وكان يتولى بريد الحرمين - وعلي بن العباس النهيكي.
فلما صار أهل هذه القافلة إلى فيد بلغهم خبر الخبيث زكرويه وأصحابه، وأقاموا بفيد أيامًا ينتظرون تقوية لهم من قبل السلطان.
وقد كان ابن كشمرد رجع من الطريق إلى القادسية في الجيوش التي أنفذها السلطان معه وقبله وبعد.
ثم سار زكرويه إلى فيد وبها عامل السلطان، يقال له حامد بن فيروز، فالتجأ منه حامد إلى أحد حصنيها في نحو من مائة رجل كانوا معه في المسجد، وشحن الحصن الأخر بالرجال، فجعل زكرويه يراسل أهل فيد، ويسألهم أن يسلموا إليه عاملهم ومن فيها من الجند، وأنهم إن فعلوا ذلك آمنهم.
فلم يجيبوه إلى ما سأل.
ولما لم يجيبوه حاربهم، فلم يظفر منهم بشيء.
قال: فلما رأى أنه لا طاقة له بأهلها، تنحى فصار إلى النباح، ثم إلى حفير أبي موسى الأشعري.
وفي أول شهر ربيع الأول أنهض المكتفى وصيف صوارتكين - ومعه من القواد جماعة - فنفذوا من القادسية على طريق خفان، فلقيه وصيف يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الأول، فاقتتلوا يومهم، ثم حجز بينهم الليل، فباتوا يتحارسون، ثم عادوهم الحرب، فقتل جيش السلطان منهم مقتلة عظيمة، وخلصوا إلى عدو الله زكرويه، فضربه بعض الجند بالسيف على قفاه وهو مول ضربة اتصلت بدماغه.
فأخذ أسيرًا وخلفته وجماعة من خاصته وأقربائه، فيهم ابنه وكاتبه وزوجته، واحتوى الجند على ما في عسكره.
وعاش زكرويه خمسة أيام ثم مات، فشق بطنه، ثم حمل بهيئته، وانصرف بمن كان بقي حيًا في يديه من أسرى الحاج.
وفيها غزا ابن كيغلغ من طرسوس، فأصاب من العدو أربعة آلاف رأس سبي ودواب ومواشي كثيرة ومتاعًا.
ودخل بطريق من البطارقة إليه في الأمان، وأسلم.
وكان شخوصه من طرسوس لهذه الغزاة في أول المحرم من هذه السنة.
وفيها كاتب أندور نقس البطريق السلطان يطلب الأمان، وكان على حرب أهل الثغور من قبل صاحب الروم، فأعطى ذلك، فخرج، وأخرج نحوًا من مائتي نفس من المسلمين كانوا أسرى في حصنه، وكان صاحب الروم قد وجه إليه من يقبض عليه، فأعطى المسلمين الذين كانوا في حصنه أسرى السلاح، وأخرج معهم بعض بنيه، فكبسوا البطريق الموجه إليه للقبض عليه ليلًا؛ فقتلوا ممن معه خلقًا كثيرًا، وغنموا ما في عسكره.
وكان رستم قد خرج في أهل الثغور في جمادى الأولى قاصدًا أندرونقس ليتخلصه، فرافى رستم قونية بعقب الوقعة.
وعلم البطارقة بمسير المسلمين إليهم فانصرفوا، ووجه أندرونقس ابنه إلى رستم، ووجه رستم كاتبه وجماعة من البحرين، فباتوا في الحصن، فلما أصبحوا خرج أندرونقس وجميع من معه من أسارى المسلمين، ومن صار إليهم منهم، ومن وافقه على رأيه من النصارى، وأخرج ماله ومتاعه إلى معسكر المسلمين، وخرب المسلمون قونية، ثم قفلوا إلى طرسوس وأندرونقس وأسارى المسلمين ومن كان مع أندرونقس من النصارى.
وفي جمادى الآخرة منها كانت بين أصحاب حسين بن حمدان بن حمدون وجماعة من أصحاب زكرويه كانوا هربوا من الوقعة التي أصابه فيها ما أصابه، وأخذوا طريق الفرات.
يريدون الشأم، فأوقع بهم الوقعة، فقتل جماعة منهم، وأسر جماعة من نسائهم وصبيانهم.
وفيها وافى رسل ملك الروم أحدهم خال ولده اليون وبسيل الخادم، ومعهم جماعة باب الشماسية بكتاب منه إلى المكتفى يسأله الفداء بمن في بلاده من المسلمين، من في بلاد الإسلام من الروم، وأن يوجه المكتفى رسولًا إلى بلاد الروم ليجمع الأسرى من المسلمين الذين في بلاده، وليجتمع هو معه على أمر يتفقان عليه، ويتخلف بسيل الخادم بطرسوس ليجتمع إليه الأسرى من الروم في الثغور ليصيرهم مع صاحب السلطان إلى موضع الفداء.
فأقاموا بباب الشماسية أيامًا، ثم أدخلوا بغداد ومعهم هدية من صاحب الروم عشرة من أسارى المسلمين، فقبلت منهم.
وأجيب صاحب الروم إلى ما سأل.
وفيها أخذ رجل بالشأم - زعم أنه السفياني - فحمل هو وجماعة معه من الشأم إلى باب السلطان، فقيل إنه موسوس.
وفيها أخذ الأعراب بطريق مكة رجلين يعرف أحدهما بالحداد والآخر بالمنتقم، وذكر أن المعروف بالمنتقم منهما أخو امرأة زكرويه، فدفعوهما إلى نزار بالكوفة، فوجههما نزار إلى السلطان، فذكر عن الأعراب أنهما كانا صار إليهما يدعوانهم إلى الخروج على السلطان.
وفيها وجه الحسين بن حمدان من طريق الشأم رجلًا يعرف بالكيال مع ستين رجل من أصحابه إلى السلطان كانوا استأمنوا إليه من أصحاب زكرويه.
وفيها وصل إلى بغداد أندورنقس البطريق.
وفيها كانت وقعة بين الحسين بن حمدان وأعراب كليب والنمر وأسد وغيرهم، اجتمعوا عليه في شهر رمضان منها، فهزموه حتى بلغوا به باب حلب.
وفيها حاصر أعراب طيىء وصيف بن صوارتكين بفيد، وكان وجه أميرًا على الموسم، فحوصر ثلاثة أيام، ثم خرج إليهم، فواقعوهم فقتل منهم قتلى، ثم انهزمت الأعراب ورحل وصيف من فيد بمن معه من الحاج.
وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من خروج عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن مدينة أصبهان إلى قرية من قراها على فراسخ منها وانضمام نحو من عشرة آلاف من الأكراد وغيرهم - فيما ذكر - إليه مظهرًا الخلاف على السلطان.
فأمر بدر الحمامي بالشخوص إليه، وضم إليه جماعة من القواد ونحو من خمسة آلاف من الجند.
وفيها كانت وقعة للحسين بن موسى على أعراب طيىء الذين كانوا حاربوا وصيف بن صوارتكين على غرة منهم، فقتل من رجالهم - فيما قيل - سبعين، وأسر من فرسانهم جماعة.
وفيها توفي أبو إبراهيم إسماعيل بن احمد عامل خراسان وما وراء النهر في صفر منها، لأربع عشرة خلت منه، وقام ابنه أحمد بن إسماعيل بن أحمد في عمل أبيه مقامه، وولى أعمال أبيه.
وذكر أن المكتفي لأربع ليال خلون من شهر ربيع الآخر قعد، فقعد بيده لواء ودفعه إلى طاهرين علي بن وزير، وخلع عليه وأمره بالخروج باللواء إلى أحمد بن إسماعيل.
وفيها وجه منصور بن عبد الله بن منصور الكاتب إلى عبد الله بن إبراهيم المسمعي، وكتب إليه يخوفه عاقبة الخلاف إليه، فتوجه إليه، فلما صار إليه ناظره، فرجع إلى طاعة السلطان، وشخص في نفر من غلمانه، واستخلف على عمله بأصبهان خليفة، وعه منصور بن عبد الله، حتى صار إلى باب السلطان، فرضى عنه المكتفى ووصله وخلع عليه وعلى ابنه.
وفيها أوقع الحسين بن موسى بالكردي المتغلب كان على نواحي الموصل، فظفر بأصحابه، واستباح عسكره وأمواله، وأفلت الكردي فتعلق بالجبال فلم يدرك.
وفيها فتح المظفر بن حاج بعض ما كان غلب عليه بعض الخوارج باليمن، وأخذ رئيسًا من رؤسائهم يعرف بالحكيمي.
وفيها لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة أمر خاقان المفلحي بالشخوص إلى أذربيجان لحرب يوسف بن أبي الساج، وضم إليه نحو أربعة آلاف رجل من الجند.
ولثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان دخل بغداد رسول أبي مضر زيادة الله بن الأعلف، ومعه فتح الأعجمي، ومعه هدايا وجه بها إلى المكتفي.
وفيها تم الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة؛ وكانت عدة من فودى به من الرجال والنساء ثلاثمائة آلاف نفس.
وفي ذي القعدة لاثنتي ليلة خلت منها توفي المكتفى بالله، وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يومًا، وكان يوم توفي ابن اثنتين وثلاثين سنة يومئذ، وكان ولد سنة أربع وستين ومائتين، ويكنى أبا محمد، وأمه أم ولد تركية تسمى جيجك.
وكان ربعة جميلًا، رقيق اللون، حسن الشعر، وافر الحمة، وافر اللحية.
خلافة المقتدر بالله
ثم بويع جعفر عبد المعتضد بالله؛ ولما بويع جعفر بن المعتضد لقب المقتدر بالله وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وشهر واحد وأحد عشرين يومًا.
وكان مولده ليلة الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان من سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وكنيته أبو الفضل، وأمه أم ولد يقال لها شغب، فذكر كان في بيت المال يوم بويع خمسة عشر ألف ألف دينار.
ولما بويع المقتدر غسل المكتفى وصلي عليه، ودفن في موضع من دار محمد بن عبد الله بن طاهر.
وفيها كانت بين عج بن حاج والجند وقعة في اليوم الثاني من أيام منى، قتل فيها جماعة، وجرح منهم، بسبب طلبهم جائزة بيعة المقتدر، وهرب الناس الذين كانوا بمنى بستان ابن عامر، وانتهب الجند مضرب أبي عدنان ربيعة بن محمد بمنى.
وكان أحد أمراء القوافل، وأصاب المنصرفين من مكة في منصرفهم في الطريق من القطع والعطش أمر غليظ، مات من العطش - فيما قيل - منهم جماعة.
وسمعت بعض من يحكي أن الرجل كان يبول في كفه، ثم يشربه.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من اجتماع جماعة من القواد والكتاب والقضاة على خلع المقتدر، وتناظرهم فيمن يجعل في موضعه، فاجتمع رأيهم على عبد الله بن المعتز وناظره في ذلك، فأجابهم إلى ذلك على ألا يكون في سفك ذلك دم ولا حرب، فأخبروه أن الأمر يسلم عفوًا، وأن جميع من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا به.
فبايعهم على ذلك، وكان الرأس في ذلك محمد بن داود ابن الجراح وأبو المثنى أحمد بن يعقوب القاضي، وواطأ محمد بن داود بن الجراح جماعة من القواد على الفتك بالمقتدر والبيعة لعبد الله بن المعتز، وكان العباس بن الحسن على مثل رأيهم.
فلما رأى العباس أمره مستوثقًا له مع المقتدر، بدا له فيما كان عزم عليه من ذلك، فحينئذ وثب به الأخرون فقتلوه، وكان الذي تولى قتله بدر الأعجمي والحسين بن حمدان ووصيف بن صوارتكين، وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول.
ولما كان من غد هذا اليوم - وذلك يوم الأحد - خلع المقتدر القواد والكتاب وقضاة بغداد، وبايعوا عبد الله بن المعتز، ولقبوه الراضي بالله.
وكان الذي أخذ له البيعة على القواد وتولى استحلافهم والدعاء بأسماءهم محمد بن سعيد الأزرق كاتب الجيش.
وفي هذا اليوم كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار حرب شديدة من غدوه إلى انتصاف النهار.
وفيه انتفضت الجموع التي كان محمد بن داود جمعها لبيعة ابن المعتز عنه؛ وذلك أن الخادم الذي يدعى مؤنسًا حمل غلمانًا من غلمان الدار في شذوات، فصاعد بها وهم فيها في دجلة فلما حاذوا الدار التي فيها ابن المعتز ومحمد بن داود صاحاو بهم، ورشقوهم بالنشاب، فتفرقوا، وهرب من في الدار من الجند والقواد والكتاب، وهرب ابن المعتز، ولحق بعض الذين بايعوا ابن المعتز بالمقتدر، فاعتذروا بأنه منع من المصير إليه، واختفى بعضهم فأخذوا وقتلوا وانتهب العامة دور ابن داود بن الحسن؛ وأخذ ابن المعتز فيمن أخذ.
وفي يوم السبت لأربع بقين من شهر ربيع الأول منها سقط الثلج ببغداد من غدوة إلى قدر صلاة العصر، حتى صار في الدور والسطوح منه نحو من أربعة أصابع، وذكر أنه لم ير ببغداد مثل ذلك قط.
وفي يوم الاثنين لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول منها، سلم محمد بن يوسف القاضي ومحمد بن عمرويه وأبو المثنى وابن الحصاص والأزرق كاتب الجيش في جماعة غيرهم إلى مؤنس الخازن، فترك أبا المثنى في دار السلطان، ونقل الآخرين إلى منزله، فافتدى بعضهم نفسه، وقتل بعضهم، وشفع في بعض فأطلق.
وفيها كانت وقعة بين طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث وسبكرى غلام عمرو بن الليث، فأسر سبكرى طاهرًا، ووجهه مع أخيه يعقوب بن محمد إلى السلطان.
وفيها وجه القاسم بن سيما مع جماعة من القواد والجند في طلب حسين بن حمدان بن حمدون، فشخص لذلك حتى صار إلى قرقيسيا والرحبة والدالية، وكتب إلى أخي الحسين عبد الله بن حمدان بن حمدون بطلب أخيه، فالتقى هو وأخوه بموضع يعرف بالأعمى بين تكريت والسودقانية بالجانب الغربي من دجلة، فانهزم عبد الله، وبعث الحسين يطلب الأمان، فأعطى ذلك.
ولسبع بقين من جمادى الآخرة منها وافى الحسين بن حمدان بغداد، فنزل باب حرب، ثم صار إلى دار السلطان من غد ذلك اليوم، فخلع عليه وعقد له على قم وقاشان.
ولست بقين من جمادى الآخرة، خلع على ابن دليل النصراني كاتب يوسف ابن أبي الساج ورسوله، وعقد ليوسف بن أبي الساج على المراغة وأذربيجان، وحملت إليه الخلع، وأمر بالشخوص إلى عمله.
وللنصف من شعبان منها خلع على مؤنس الخادم، وأمر بالشخوص إلى طرسوس لغزو الصائفة، فنفذ لذلك وخرج في عسكر كثيف وجماعة من القواد وغلمان الحجر.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك من غزو مؤنس الخادم الصائفة بلاد الروم من ثغر ملطية في جيش كثيف، ومعه أبو الأغر السلمي وظفر بالروم، وأسر أعلاجًا في آخر سنة ست وتسعين ومائتين، وورد الخبر بذلك على السلطان لست خلون من المحرم.
وفيها صار الليث بن علي بن الليث الصفار إلى فارس في جيش، فتغلب عليها، وطرد سبكري، وذلك بعد ما ولى السلطان سبكري بعد ما بعث سبكري طاهر بن محمد إلى السلطان أسيرًا، فأمر المقتدر مؤنسًا الخادم بالشخوص إلى فارس لحرب الليث بن علي، فشخص إليها في شهر رمضان منها.
وفيها وجه أيضًا المقتدر القاسم بن سيما لغزوة الصائفة ببلاد الروم في جمع كثير من الجند في شوال منها.
وفيها كانت بين مؤنس الخادم والليث بن علي بن الليث وقعة هزم فيها الليث، ثم أسر وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، واستأمن منهم إلى مؤنس جماعة كثيرة، ودخل أصحاب السلطان النوبندجان، وكان الليث قد تغلب عليها.
وأقام الحج فيها للناس الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن عبيد الله ابن العباس بن محمد.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان فيها من غزو القاسم بن سيما أرض الروم الصائفة.
وفيها وجه المقتدر وصيف كامه الديلمي في جيش وجماعة من القواد لحرب سبكري غلام عمرو بن الليث.
وفيها كانت بين سبكري ووصيف كامه وقعة هزمه فيها وصيف، وأخرجه من عمل فارس، ودخل وصيف كامه ومن معه فارس، واستأمن إليه من أصحاب سبكري جماعة كثيرة، فأسر رئيس عسكره المعروف بالقتال، ومضى سبكري هاربًا إلى أحمد بن إسماعيل بن أحمد بما معه من الأموال والذخائر فأخذ ما معه إسماعيل بن أحمد، وقبض عليه فحبسه.
وفيها كانت بين أحمد بن إسماعيل بن أحمد ومحمد بن علي بن الليث وقعة بناحية بست والرخج، أسره فيها أحمد بن إسماعيل.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من غزو رستم بن بردوا الصائفة من ناحية طرسوس، وهو وإلى الثغور من قبل بني نفيس، ومعه دميانة، فحاصر حصن مليح الأرمني، ثم رحل عنه، وأحرق أرباض ذي الكلاع.
وفيها ورد رسول أحمد بن إسماعيل بن أحمد بكتاب منه إلى السلطان يخبر فيه أنه فتح سجستان، وأن أصحابه دخلوها، وأخرجوا من كان بها من أصحاب الصفار، وأن المعدل بن علي بن الليث صار إليه بمن معه من أصحابه في الأمان، وكان المعدل يومئذ مقيمًا بزرنج، فصار إلى أحمد بن إسماعيل وهو مقيم ببست والرخج، فوجه به ابن إسماعيل وبعياله ومن معه إلى هراة، وبين سجستان وبست الرخج ستون فرسخًا، فوردت الخريطة بذلك على السلطان يوم الاثنين لعشر خلون من صفر.
وفيها وافى بغداد العطير صاحب زكرويه ومعه الأغر - وهو أيضًا أحد قواد زكرويه - مستأمنًا.
وفي ذي الحجة منها غضب على علي بن محمد بن الفرات لأربع خلون منه، وحبس ووكل بدوره ودور أهله وأخذ كل ما وجد له ولهم، وانتهت دوره ودور بني إخوته وأهلهم، واستوزر محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.
ثم دخلت سنة ثلثمائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من ورود بغداد رسول من العامل على برقة، وهي من عمل مصر، إلى ما خلفها بأربع فرسخ، ثم ما بعد ذلك من عمل المغرب بخير خارجي خرج عليه، وأنه ظفر بعسكره، وقتل خلقًا من أصحابه، ومعه آذان وأنوف من قتله في خيوط وأعلام الخارجي.
وفي هذه السنة كثرت الأمراض والعلل ببغداد في الناس، وذكر أن الكلاب والذئاب كلبت فيها بالبادية، فكانت تطلب الناس والدواب والبهائم، فإذا عضت إنسانًا أهلكته.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
ثم دخلت سنة إحدى وثلثمائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك عزل المقتدر محمد بن عبيد الله عن الوزارة وحبسه إياه مع ابنيه عبد الله وعبد الواحد وتصييره علي بن عيسى بن داود بن الجراح له وزيرًا.
وفيها كثر أيضًا الوباء ببغداد، فكان بها منه نوع سموه حنينًا، ومنه نوع سموه الماسرا؛ فأما الحنين فكانت سليمة، وأما الماسرا فكانت طاعونًا قتالة.
وفيها أحضر دار الوزير علي بن عيسى رجل - ذكر انه يعرف بالحلاج ويكنى أبا محمد - مشعوذ، ومعه صاحب له، سمعت جماعة من الناس يزعمون أنه يدعى الربوبية فصلب هو وصاحبة ثلاثة أيام، كل يوم من ذلك من أوله إلى انتصافه، ثم ينزل بهما، فيؤمر بهما إلى الحبس، فحبس مدة طويلة، فافتتن به جماعة منهم نصر القشوري وغيره، إلى أن ضج الناس، ودعوا على من يعيبه، وفحش أمره، وأخرج من الحبس، فقطعت يداه ورجلاه، ثم ضربت عنقه، ثم أحرق بالنار.
وفيها غزا الصائفة الحسين بن حمدان بن حمدون، فورد كتاب من طرسوس يذكر فيه أنه فتح حصونًا كثيرة، وقتل من الروم خلقًا كثيرًا.
وفيها قتل أحمد بن إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر؛ قتله غلام له تركي - أخص غلمانه به - ذبحًا، وهو غلامان معه، ودخلوا عليه في قبته، ثم هربوا فلم يدركوا.
وفيها وقع الاختلاف بين نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد وعم أبيه إسحاق بن أحمد، فكان مع نصر بن أحمد غلمان أبيه وكتابه وجماعة من قواده والأموال والكراع السلاح، وانحاز بعد قتل أبيه إلى بخارى وإسحاق بن أحمد بسمرقند وهو عليل من نقرس به، فدعا الناس بسمرقند إلى مبايعته على الرئاسة عليهم، وبعث كل واحد منهما إلى السلطان كتبه خاطبًا على نفسه، عمل إسماعيل بن أحمد، وأنفذ إسحاق كتبه - فيما ذكر - إلى عمران المرزباني لإيصالها إلى السلطان، ففعل ذلك، وأنفذ نصر بن أحمد ابن إسماعيل كتبه إلى حماد ابن أحمد؛ ليتولى إيصالها إلى السلطان، ففعل.
وفيها كانت وقعة بين نصر بن إسماعيل وأصحابه من أهل بخارى وإسحاق بن أحمد عم أبيه وأصحابه من أهل سمرقند، لأربع عشرة بقيت من شعبان منها، هزم فيها نصر وأصحابه إسحاق وأهل سمرقند ومن كان قد انضم إليه من أهل النواحي، وتفرقوا عنه هاربين، وكانت هذه الوقعة بينهم على باب بخارى.
وفيها زحف أهل بخارى إلى أهل سمرقند بعدما هزموا إسحاق بن أحمد ومن معه، فكانت بينهم وقعة أخرى ظفر فيها أيضًا أهل بخارى بأهل سمرقند، فهزموهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ودخلوا سمرقند قسرًا، وأخذوا إسحاق بن أحمد أسيرًا، وولوا ما كان إليه من عمل ابنًا لعمرو بن نصر بن أحمد.
وفيها أصحاب ابن البصرى من أهل المغرب بالرقة، وطرد عنها عامل السلطان.
وولى أبو بكر محمد بن علي بن أحمد بن أبي زنبور الماذرائي أعمال مصر وخراجها.
وفيها قتل أبو سعيد الجنابي كان بناحية البحرين وهجر، قتله - فيما قيل - خادم له.
وفيها كثرت الأمراض والعلل ببغداد، وفشا الموت في أهلها، وكان أكثر ذلك - فيما قيل - في الحربية وأهل الأرباض.
وفيها وافى قائد من قواد ابن البصرى في البرابرة والمغاربة الإسكندرية.
وفيها ورد كتاب تكين عامل السلطان من مصر يسأله المدد.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلثمائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من إشخاص الوزير بن عيسى بن عبد الباقي في ألفي فارس فيها لغزو الصائفة، معونة لبشر خادم ابن أبي الساج وهو والى طرسوس من قبل السلطان، فلم يتيسر لهم غزو الصائفة، فغزوها شاتية في برد وثلج.
وفيها تنحى الحسن بن علي العلوي الأطروس بعد غلبته على طبرستان عن آمل، وصار إلى سالوس فأقام بها.
ووجه صعلوك صاحب الرى إلى جيشًا، فلم يكن لجيشه بها ثبات، وعاد الحسن بن علي إليها، ولم ير الناس مثل عدل الأطروش وحسن سيرته وإقامته الحق.
وفيها دخل حباسة صاحب ابن البصرى الإسكندرية، وغلب عليها، وذكر أنه وردها في مائتي مركب في البحر.
وفيها وافى حباسة صاحب ابن البصرى موضعًا من فسطاط مصر على مرحلة، يقال لها سفط، ثم رجع منه إلى وراء ذلك، فنزل منزلًا بين الفسطاط والإسكندرية.
وفيها شخص مؤنس الخادم إلى مصر لحرب حباسة، وقوي بالرجال والسلاح والمال.
وفيها لسبع بقين من جمادى الأولى قبض على الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص وعلى ابنية، واستصفى كل شيء له، ثم حبس وقييد.
وفيها كانت وقعة بمصر بين أصحاب السلطان وحباسة وأصحابه لست بقين من جمادى الأولى منها، فقتل من الفريقين جماعة، وجرحت منهم جماعة، ثم أخرى ذلك بيوم نحو التي كانت في هذه، ثم ثالثة بعد ذلك في جمادى منها.
ولأربع عشرة بقيت من عشرة من جمادى الآخرة، ورد كتاب بوقعة كانت بينهم، هزم أصحاب السلطان فيها المغاربة.
وفيها ورد كتاب من بشر عامل السلطان على طرسوس على السلطان، يذكر فيه غزوة أرض الروم، وما فتح فيها من الحصون، وما غنم وسبي، وأنه أسر من البطارقة مائة وخمسين، وأن مبلغ السبي نحو من ألفي رأس.
ولإحدى عشرة بقيت من رجب ورد الخبر من مصر أن أصحاب السلطان لقوا حباسة وأهل المغرب يقاتلونهم.
فكانت الهزيمة على المغاربة، فقتلوا منهم وأسروا سبعة آلاف رجل، وهرب الباقون مفلولين، وكانت الوقعة يوم الخميس بسلخ جمادى الآخرة.
وفيها انصرف حباسة ومن معه من المغاربة عن الإسكندرية راجعين إلى المغرب بعد ما ناظر - فيما ذكر - حباسة عامل السلطان بمصر على الدخول إليه بالأمان، وجرت بينهما في ذلك كتب.
وكان انصرافه - فيما ذكر - لاختلاف حدث بين أصحابه في الموضع الذي شخص منه.
وفيها أوقع يانس الخادم بناحية وادي الذئاب، وما قرب من ذلك الموضع بمن هنالك من الأعراب، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وذكر أنه قتل منهم سبعة آلاف رجل، ونهب بيوتهم، وأصاب في بيوتهم من أموال التجار وأمتعتهم التي كانوا أخذوها بقطع الطريق عليهم ما لا يحصى كثرته.
ولست خلون من ذي الحجة هلكت بدعة مولاة المأمون.
وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)