ويبين ذلك أنه قال عقيب هذا: { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى }. فأخبر أنه مثلهم لولا الوحي.
ثم عطف عليه بحمد المؤمنين به المصدقين له، فقال: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون }. ومعناه: الذين آمنوا بهذا الوحي والتنزيل، وعرفوا هذه الحجة.
ثم تصرف في الاحتجاج على الوحدانية والقدرة، إلى أن قال: { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }. فتوعدهم بما أصاب من قبلهم من المكذبين بآيات الله من قوم عاد وثمود في الدنيا. ثم توعدهم بأمر الآخرة، فقال: { ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون }، إلى انتهاء ما ذكره فيه.
ثم رجع إلى ذكر القرآن، فقال: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون }.
ثم أثنى بعد ذلك على من تلقاه بالقبول، فقال: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا }. ثم قال: { وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم }.
وهذا ينبه على أن النبي يعرف إعجاز القرآن، وأنه دلالة له على جهة الاستدلال، لأن الضروريات لا يقع فيها نزع الشيطان. ونحن نبين ما يتعلق بهذا الفصل في موضعه.
ثم قال: { إن الذين يلحدون في آياتنا }، إلى أن قال: { إن الذين كفرا بالذكر لما جاءهم، وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه }. وهذا وإن كان متأولا على أنه لا يوجد فيه غير الحق مما يتضمنه من أقاصيص الأولين وأخبار المرسلين، وكذلك لا يوجد خلف فيما يتضمنه من الإخبار عن الغيوب وعن الحوادث التي أنبأ أنها تقع في الآتي - فلا يخرج عن أن يكون متأولا على ما يقتضيه نظام الخطاب، مع أنه لا يأتيه ما يبطله من شبهة سابقة تقدح في معجزته أو تعارضه في طريقه. وكذلك لا يأتيه من بعده قط أمر يشكك في وجه دلالته [ وإعجازه ]. وهذا أشبه بسياق الكلام ونظامه.
ثم قال: { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته، أأعجمي وعربي } فأخبر أنه لو كان أعجميا لكانوا يحتجون في رده: إما بأن ذلك خارج عن عرف خطابهم، أو كانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفة معناه وبأنهم لا يبين لهم وجه الإعجاز فيه. لأنه ليس من شأنهم ولا من لسانهم، أو بغير ذلك من الأمور، وأنه إذا تحداهم إلى ما هو من لسانهم وشأنهم فعجزوا عنه - وجبت الحجة عليهم به، على ما نبينه في وجه هذا الفصل. إلى أن قال: { قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به، من أضل ممن هو في شقاق بعيد }.
والذي ذكرناه من نظم هاتين السورتين ينبه على غيرهما من السور، فكر هنا سرد القول فيها. فليتأمل المتأمل ما دللناه عليه يجده كذلك.
ثم مما يدل على هذا قوله عز وجل: { وقالوا: لولا أنزل عليه آيات من ربه، قل إنما الآيات عند الله، وإنما أنا نذير مبين. أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } فأخبر أن الكتاب آية من آياته، وعلم من أعلامه، وأن ذلك يكفى في الدلالة، ويقوم مقام معجزات غيره وآيات سواه من الأنبياء، صلوات الله عليهم.
ويدل عليه قوله عز وجل: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الذي له ملك السموات والأرض }.
ويدل عليه قوله: { أم يقولون افترى على الله كذبا، فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمحو الله الباطل ويحق الحق بكلماته }.
فدل على أنه جعل قلبه مستودعا لوحيه، ومستنزلا لكتابه، وأنه لو شاء صرف ذلك إلى غيره. وكان له حكم دلالته على تحقيق الحق، وإبطال الباطل مع صرفه عنه. ولذلك أشباه كثيرة تدل على نحو الدلالة التي وصفناها.
فبان بهذا وبنظائره ما قلناه من أن بناء نبوته على دلالة القرآن ومعجزته، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه وصدقه أنه يمكن أن يعلم أنه كلام الله تعالى، وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء، لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد عليها، ووصف منضاف إليها، لأن نظمها ليس معجزا، وإن كان ما تتضمنه من الإخبار عن الغيوب معجزا.
وليس كذلك القرآن، لأنه يشاركها في هذه الدلالة، ويزيد عليها في أن نظمه معجز، فيمكن أن يستدل به عليه، وحل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم سبحانه وتعالى، لأن موسى عليه السلام لما سمع كلامه علم أنه في الحقيقة كلامه.
وكذلك من يسمع القرآن يعلم أنه كلام الله، وإن اختلف الخال في ذلك من بعض الوجوه، لأن موسى عليه السلام سمعه من الله عز وجل، وأسمعه نفسه متكلما، وليس كذلك الواحد منا. وكذلك قد يختلفان في غير هذا الوجه، وليس ذلك قصدنا بالكلام في هذا الفصل.
والذي نرومه الآن ما بيناه من اتفاقهما في المعنى الذي وصفناه، وهو: أنه عليه السلام يعلم أن ما يسمعه كلام الله من جهة الاستدلال، وكذلك نحن نعلم ما نقرؤه من هذا على جهة الاستدلال.
فصل في الدلالة على أن القرآن معجز

قد ثبت بما بينا في الفصل الأول أن نبوة نبينا مبنية على دلالة معجزة القرآن. فيجب أن نبين وجه الدلالة من ذلك:
قد ذكر العلماء أن الأصل في هذا هو أن يعلم أن القرآن، الذي هو متلو محفوظ مرسوم في المصاحف، هو الذي جاء به النبي ، وأنه هو الذي تلاه على من في عصره ثلاثا وعشرين سنة.
والطريق إلى معرفة ذلك هو النقل المتواتر، الذي يقع عنده العلم الضروري به.
وذلك أنه قام به في المواقف، وكتب به إلى البلاد، وتحمله عنه إليها من تابعه، وأورده على غيره ممن لم يتابعه، حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه على أحد، ولا يخيل أنه قد خرج من أتى بقرآن يتلوه، ويأخذه على غيره، ويأخذه غيره على الناس، حتى انتشر ذلك في أرض العرب كلها، وتعدى إلى الملوك المصاقبة لهم، كملك الروم والعجم والقبط والحبش، وغيرهم من ملوك الأطراف.
ولما ورد ذلك مضادا لأديان أهل ذلك العصر كلهم، ومخالفا لوجوه اعتقاداتهم المختلفة في الكفر - وقف جميع أهل الخلاف على جملته، ووقف جميع أهل دينه الذين أكرمهم الله بالايمان على جملته وتفاصيله، وتظاهر بينهم، حتى حفظه الرجال، وتنقلت به الرحال، وتعلمه الكبير والصغير، إذ كان عمدة دينهم، وعلما عليه، والمفروض تلاوته في صلواتهم، والواجب استعماله في أحكامهم.
ثم تناقله خلف عن سلف هم مثلهم في كثرتهم وتوفر دواعيهم على نقله، حتى انتهى إلينا، على ما وصفناه من حاله.
فلن يتشكك أحد، ولا يجوز أن يتشكك، مع وجود هذه الأسباب، في أنه أتى بهذا القرآن من عند الله تعالى. فهذا أصل.
وإذا ثبت هذا الأصل وجودا، فإنا نقول: إنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله، وقرعهم على ترك الإتيان به، طول السنين التي وصفناها، فلم يأتوا بذلك. [ وهذا أصل ثان ].
والذي يدل على هذا الاصل: أنا قد علمنا أن ذلك مذكور في القرآن في المواضع الكثيرة، كقوله: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين }.
وكقوله: { أم يقولون افتراه، قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون }.
فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلا على أنه منه ودليلا على وحدانيته.
وذلك يدل عندنا على بطلان قول من زعم أنه لا يمكن أن تُعلم بالقرآن الوحدانية، وزعم أن ذلك مما لا سبيل إليه إلا من جهة العقل، لأن القرآن كلام الله عز وجل، ولا يصح أن يعلم الكلام حتى يعلم المتكلم أولا.
فقلنا: إذا ثبت بما نبينه إعجازه، وأن الخلق لا يقدرون عليه - ثبت أن الذي أتى به غيرهم، وأنه إنما يختص بالقدرة عليه من يختص بالقدرة عليهم، وأنه صدق. وإذا كان كذلك كان ما يتضمنه صدقا، وليس إذا أمكن معرفته من جهة العقل امتنع أن يعرف من [ طريق القرآن، بل يمكن عندنا أن يعرف من ] الوجهين.
وليس الغرض تحقيق القول في هذا الفصل لأنه خارج عن مقصود كلامنا، ولكنا ذكرناه من جهة دلالة الآية عليه.
ومن ذلك قوله عز وجل: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } وقوله: { أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون. فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } فقد ثبت بما بيناه أنه تحداهم إليه ولم يأتوا بمثله.