ولما عقدت الرئاسة لعبد الله بن وهب الراسبي على الخوارج أرادوه على الكلام، فقال: "لا خير في الرأي الفطير "، وقال: "دعوا الرأي يُغِبُّ".
وقال أعرابي في شكر نعمة: "ذاك عنوان نعمة الله عز وجل". [23]
ووصف أعرابي قوما فقال: "إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام، وإذا تصافحوا بالسيوف قعد الحمام". [24]
وسئل أعرابي عن رجل فقال: "صفرت عياب الود بيني وبينه بعد امتلائها، واكفهرت وجوه كانت بمائها". [25]
وقال آخر: "من ركب ظهر الباطل نزل دار الندامة".
وقيل لرؤبة: كيف خلفت ما وراءك؟ فقال: "التراب يابس، والمال عابس".





ومن البديع في الشعر طرق كثيرة، قد نقلنا منها جملة، لتستدل بها على ما بعدها:
فمن ذلك قول امرئ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها * بمنجرد قيد الأوابد هيكل [26]
قوله: "قيد الأوابد" عندهم من البديع ومن الاستعارة، ويرونه من الألفاظ الشريفة، [27] وعنى بذلك أنه إذا أرسل هذا الفرس على الصيد صار قيدا لها، وكانت بحالة المقيد من جهة سرعة إحضاره.
واقتدى به الناس، واتبعه الشعراء، فقيل: قيد النواظر، وقيد الألحاظ، وقيد الكلام، وقيد الحديث، وقيد الرهان.
وقال الأسود بن يعفر:
بمقلص عتد جهيز شده * قيد الأوابد والرهان جواد [28]
وقال أبو تمام:
لها منظر قيد الأوابد لم يزل * يروح ويغدو في خفارته الحب
وقال آخر:
ألحاظه قيد عيون الورى * فليس طرف يتعداه
وقال آخر: * قيد الحسن عليه الحدقا *
وذكر الأصمعي وأبو عبيد وحماد وقبلهم أبو عمرو: أنه أحسن في هذه اللفظة وأنه اتبع فلم يلحق، وذكروه في باب الاستعارة البليغة.
وسماها بعض أهل الصنعة باسم آخر، وجعلوها من باب الإرداف، وهو أن يريد الشاعر دلالة على معنى فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى، بل بلفظ هو تابع له ورِدف.
قالوا: ومثله قوله: * نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل * وإنما أراد ترفُّهها بقوله: "نؤوم الضحى". [29]
ومن هذا الباب قول الشاعر: [30]
بعيدةُ مَهوَى القُرط إما لنوفلٍ * أبوها وإما عبدُ شمسٍ وهاشمُ
وإنما أراد أن يصف طول جيدها، فأتى بردفه. [31]
ومن ذلك قول امرئ القيس: * وليل كموج البحر أرخى سدوله * وذلك من الاستعارة المليحة.
ويجعلون من هذا القبيل ما قدمنا ذكره من القرآن: { واشتعل الرأس شيبا }، { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة }.
ومما يعدونه من البديع التشبيه الحسن، كقول امرئ القيس:
كأن عيون الوحش حول خبائنا * وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب [32]
وقوله:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالي
واستبدعوا تشبيه شيئين بشيئين على حسن تقسيم، ويزعمون أن أحسن ما وجد في هذا للمحْدَثين قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسهم * وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
وقد سبق امرؤ القيس إلى صحة التقسيم في التشبيه، ولم يتمكن بشار إلا من تشبيه إحدى الجملتين بالاخرى، دون صحة التقسيم والتفصيل.
وكذلك عدوا [33] من البديع قول امرئ القيس في أذني الفرس:
وسامعتان يُعرف العِتق فيهما * كسامعتي مذعورة وسط رَبرَبِ [34]
واتبعه طرفة، فقال فيه:
وسامعتان يعرف العتق فيهما * كسامعتي شاة بحومل مفرد [35]
ومثله قول امرئ القيس في وصف الفرس:
وعينان كالماويتين ومحجر * إلى سند مثل الصفيح المنصب [36]
وقال طرفة في وصف عيني ناقته:
وعينان كالماويتين استكنتا * بكهفي حجاجي صخرة قَلْتِ مورِد [37]
ومن البديع في التشبيه قول امرئ القيس:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة * وإرخاء سرحان وتقريب تتفل [38]
وذلك في تشبيه أربعة أشياء بأربعة أشياء، أحسن فيها.