فلا صُرْمُه يبدوا وفى اليأس راحة * ولا وصلُه يَصفُو لنا فنكارمه [82]
ونظير ذلك من القرآن ما حكى الله تعالى عن إبراهيم الخليل من قوله: { اعبدوا الله واتقوه، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا } إلى قوله: { فما كان جواب قومه }.
وقوله عز وجل: { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز، وبرزوا لله جميعا }.
ومثله قوله: { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين }.
ومثله قوله: { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث }.
ومثله قوله: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم. فمن تاب من بعد ظلمه }.
ومنهم من لا يعد الاعتراض والرجوع [83] من هذا الباب. ومنهم من يفرده عنه، كقول زهير:
قِفْ بالديار التي لم يعفُها القِدم * نعمْ، وغيّرها الأرواحُ والدِّيَمُ
وكقول الأعرابي:
أليس قليلا نظرةٌ إن نظرتُها * إليكِ، وكلا ليس منكِ قليلُ
وكقول ابن هَرْمة:
ليت حظي كلحظة العين منها * وكثيرٌ منها القليلُ المهَنّا
ومن الرجوع قول القائل:
بكل تداوينا فلم يُشفَ ما بنا * على أن قرب الدار خير من البعد [84]
وقال الأعشى:
صَرَمتُ ولم أصرِمكم وكصارمٍ * أخٌ قد طوى كَشحًا وأبَّ ليذهبا
وكقول بشار:
لي حيلة فيمن ينمـ * مُ وليس في الكذاب حيله
من كان يخلق ما يقو * ل فحيلتي فيه قليله
وقال آخر:
وما بي انتصار إن عدا الدهر ظالما * عليَّ، بلى إن كان من عندك النصر
وباب آخر من البديع يسمى: التذييل، وهو ضرب من التأكيد، وهو ضد ما قدمنا ذكره من الإشارة، [85] كقول أبي دواد:
إذا ما عقدنا له ذمة * شددنا العِناج وعقد الكَرَبْ [86]
وأخذه الحطيئة فقال:
[ قومٌ إذا عقدوا عقدا لجارهم * شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا [87]
وكقول الآخر ]:
فدعوا نزالِ فكنتُ أول نازل * وعلامَ أركبُه إذا لم أنزلِ؟ [88]
وكقول جرير:
لقد كنت فيها يا فرزدقُ تابعا * وريشُ الذُّنابي تابعٌ للقوادم
ومثله قوله عز وجل: { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا.
يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم، إنه كان من المفسدين. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين }، إلى قوله: { كانوا خاطئين }.
وباب من البديع يسمى الاستطراد. [89] فمن ذلك ما كتب إلي الحسن بن عبد الله قال: أنشدني أبو بكر بن دريد، قال: أنشدنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، لحسان بن ثابت رضي الله عنه:
إن كنتِ كاذبةَ الذي حدثتِني * فنجوتِ منجى الحارث بن هشام [90]
ترك الاحبة أن يقاتل دونهم * ونجا برأس طِمِرّة ولجام [91]
وكقول السموأل:
وإنا لقوم لا نرى القتل سُبّة * إذا ما رأته عامرٌ وسَلول
وكقول الآخر:
خليليّ من كعب أعينا أخاكما * على دهره، إن الكريم معينُ
ولا تبخلا بخل ابن قَزْعَةَ، إنه * مخافة أن يُرجى نداه حزينُ
وكقول الآخر:
فما ذرَّ قرنُ الشمسِ حتى كأننا * من العِيّ نحكي أحمد بن هشام
وكقول زهير:
إن البخيل ملوم حيث كان ولـ * كنّ الجواد على علاته هَرِمُ
وفيما كتب إلي الحسن بن عبد الله، قال: أخبرني محمد بن يحيى [ قال ]: حدثني محمد بن على الأنباري، قال: سمعت البحتري يقول: أنشدني أبو تمام لنفسه:
وسابحٍ هَطِلٍ التَّعْداءِ هَتّانِ * على الجِراء أمينٍ غيرِ خَوّان
أظمى الفصوص ولم تظمأ قوائمه * فخَلِّ عينيك في ريان ظمآن
ولو تراه مُشيحا والحصى فِلَق * بين السنابك من مثنى ووُحدان
أيقنتَ - إن لم تثبت - أن حافره * من صخر تدمرَ أو من وجه عثمان [92]
وقال لي: ما هذا من الشعر؟ قلت لا أدري، قال: هذا المستطرد أو قال الاستطراد. قلت: وما معنى ذلك؟ قال: يُري أنه يصف الفرس، ويريد هجاء عثمان.
وقال البحتري:
ما إن يعافُ قَذًى ولو أوردتَه * يوما خلائق حَمدَويهِ الأحولِ
قال: فقيل للبحتري: إنك أخذت هذا من أبي تمام، فقال: ما يعاب علي أن آخذ منه وأتبعه فيما يقول.
ومن هذا الباب قول أبي تمام:
صُبَّ الفراقُ علينا صُبَّ من كَثَبٍ * عليه إسحاقُ يوم الروع منتقما [93]
ومنه قول السري الرفّاء:
نزع الوشاة لنا بسهم قطيعةٍ * يُرمى بسهم الحينِ من يرمي به
ليت الزمان أصاب حب قلوبهم * بقَنا ابن عبد الله أو بحرابه
ونظيره من القرآن: { أولم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون، ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون } كأنه كان المراد من أن يجري بالقول الأول إلى الإخبار عن أن كل شئ يسجد لله عز وجل، وإن كان ابتداء الكلام في أمر خاص.
ومن البديع عندهم: التكرار، كقول الشاعر:
هلا سألت جموعَ كنـ * دةَ يوم ولّوا أين أينا؟
وكقول الآخر:
وكانت فَزارة تَصلى بنا * فأولى فزارةُ أولى فَزارا
ونظيره من القرآن [ كثير، كقوله تعالى ]: { فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا }.
وكالتكرار في قوله: { قل يا أيها الكافرون }.
وهذا فيه معنى زائد على التكرار، لأنه يفيد الإخبار عن الغيب.
ومن البديع عندهم ضرب من الاستثناء، كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب
وكقول النابغة الجعدي:
فتًى كملت أخلاقه غير أنه * جواد فلا يبقى من المال باقيا
فتى تمّ فيه ما يَسُرُّ صديقه * على أن فيه ما يسوء الأعاديا
وكقول الآخر:
حليمٌ إذا ما الحلم زَيَّن أهلَه * معَ الحلم في عين العدو مَهيبُ
وكقول أبي تمام:
تَنصَّل ربُّها من غير جُرم * إليكَ سوى النصيحة والوِدادِ
ووجوه البديع كثيرة جدا، فاقتصرنا على ذكر بعضها ونبهنا بذلك على ما لم نذكر كراهة التطويل، فليس الغرض ذكر جميع أبواب البديع.
وقد قدر مقدرون أنه يمكن استفادة إعجاز القرآن من هذه الأبواب التي نقلناها، وأن ذلك مما يمكن الاستدلال به عليه.
وليس كذلك عندنا، لأن هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصل إليها بالتدريب والتعوّد والتصنع لها، وذلك كالشعر الذي إذا عرف الإنسان طريقه صح منه التعمل له وأمكنه نظمه.
والوجوه التي نقول إن إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها فليس مما يقدر البشر على التصنع له والتوصل إليه بحال. ويبين ما قلنا أن كثيرا من المحدثين [94] قد تصنع لأبواب الصنعة، حتى حشى جميع شعره منها، واجتهد أن لا يفوته بيت إلا وهو يملؤه من الصنعة، كما صنع أبو تمام في لاميته:
متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل * * وصدرك منها مدة الدهر آهل [95]
تطل الطلول الدمع في كل موقف * وتمثل بالصبر الديار المواثل
دوارس لم يجف الربيع ربوعها * ولا مر في أغفالها وهو غافل [96]
فقد سحبت فيها السحاب ذيولها * وقد أخملت بالنور تلك الخمائل
تعفين من زاد العفاة إذا انتحى * على الحى صرف الازمة المتماحل
لهم سلف سمر العوالي وسامر * وفيهم جمال لا يغيض وجامل [97]
ليالي أضللت العزاء وخزلت * بعقلك آرام الخدور العقائل
من الهيف لو أن الخلاخيل صيرت * لها وشحا جالت عليه الخلاخل
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس * قنا الخط إلا أن تلك ذوايل
هوى كان خلسا إن من أطيب الهوى * هوى جلت في أفيائه وهو خامل
ومن الأدباء من عاب عليه هذه الأبيات ونحوها على ما قد تكلف فيها من البديع وتعمّل من الصنعة، فقال: قد أذهب ماء هذا الشعر ورونقه وفائدته، اشتغالا بطلب التطبيق وسائر ما جمع فيه. [98]
وقد تعصب عليه أحمد بن عبيد الله بن عمار وأسرف حتى تجاوز إلى الغض من محاسنه.
ولِما قد أولع به من الصنعة ربما غُطّي على بصره حتى يبدع في القبيح، وهو يريد أن يبدع في الحسن. كقوله في قصيدة له أولها:
سَرتْ تستجير الدمع خوف نَوَى غَدِ * وعاد قَتادًا عندها كل مَرقَدِ
فقال فيها:
لعمري لقد حُرِّرت يوم لقيته * لو أن القضاءَ وحدَه لم يُبّرِّدِ
وكقوله:
لو لم تدارك مُسنّ المجد مذ زمن * بالجود والبأس كان المجد قد خَرِفا
فهذا من الاستعارات القبيحة والبديع المقيت.
وكقوله:
تسعون ألفا كآساد الشرى نَضِجَت * أعمارُهم قبل نُضج التين والعنبِ
وكقوله:
لو لم يمت بين أطراف الرماح إذا * لمات، إذ لم يمت، من شدة الحزن [99]
وكقوله: * خشنتِ عليه أختَ بني خشين * [100]
وكقوله:
ألا لا يمدّ الدهر كفا بسيءٍ * إلى مجتدي نصر فتقطعْ من الزندِ
وقال في وصف المطايا:
لو كان كلفها عبيد حاجة * يوما لزنّى شَدقما وجَديلا [101]
وكقوله:
فضربتَ الشتاءَ في أخدعيه * ضربة غادرتْهُ عَودا رَكوبا [102]
فهذا وما أشبهه إنما يحدث من غلوه في محبة الصنعة، حتى يعميه عن وجه الصواب. وربما أسرف في المطابق والمجانس ووجوه البديع من الاستعارة وغيرها حتى استثقل نظمه واستوخم رصفه، وكان التكلف باردا والتصرف جامدا. وربما اتفق مع ذلك في كلامه النادر المليح، كما يتفق البارد القبيح.
وأما البحتري فإنه لا يرى في التجنيس ما يراه أبو تمام، ويقلُّ التصنع له. فإذا وقع في كلامه كان في الأكثر حسنا رشيقا، وظريفا جميلا. وتصنعه للمطابق كثير حسن، وتعمقه في وجوه الصنعة على وجه طلب السلامة والرغبة في السلاسة، فلذلك يخرج سليما من العيب في الأكثر. وأما وقوف الألفاظ به عن تمام الحسنى وقعود العبارات عن الغاية القصوى، فشئ لا بد منه وأمر لا محيص عنه. كيف وقد وقف على من هو أجل منه وأعظم قدرا في هذه الصنعة وأكبر في الطبقة، كامرئ القيس وزهير والنابغة وابن هرمة. ونحن نبين تميز كلامهم وانحطاط درجة قولهم ونزول طبقة نظمهم عن بديع نظم القرآن في باب مفرد، يتصور به ذو الصنعة ما يجب تصوره ويتحقق وجه الإعجاز فيه، بمشيئة الله وعونه.
ثم رجع الكلام بنا إلى ما قدمناه من أنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادعوه في الشعر ووصفوه فيه.
وذلك أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة، ويخرج عن العرف، بل يمكن استدراكه بالتعلم والتدرب به والتصنع له، كقول الشعر، ورصف الخطب، وصناعة الرسالة، والحذق في البلاغة.
وله طريق يسلك، ووجه يقصد، وسلم يرتقى فيه إليه، ومثال قد يقع طالبه عليه. فرب إنسان يتعود أن ينظم جميع كلامه شعرا، وآخر يتعود أن يكون جميع خطابه سجعا، أو صنعة متصلة، لا يسقط من كلامه حرفا، وقد يتأتي له لما قد تعوده. وأنت ترى أدباء زماننا يضعون المحاسن في جزء. وكذلك يؤلفون أنواع البارع، ثم ينظرون فيه إذا أرادوا إنشاء قصيدة أو خطبة فيحسنون به كلامهم. ومن كان قد تدرب وتقدم في حفظ ذلك - استغنى عن هذا التصنيف، ولم يحتج إلى تكلف هذا التأليف، وكان ما أشرف عليه من هذا الشأن باسطا من باع كلامه، وموشحا بأنواع البديع ما يحاوله من قوله.
وهذا طريق لا يتعذر وباب لا يمتنع، وكل يأخذ فيه مأخذا ويقف منه موقفا، على قدر ما معه من المعرفة، وبحسب ما يمده من الطبع.
فأما شأو نظم القرآن، فليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدى به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا، كما يتفق للشاعر البيت النادر، والكلمة الشاردة، والمعنى الفذ الغريب، والشئ القليل العجيب، وكما يلحق من كلامه، بالوحشيات، ويضاف من قوله إلى الأوابد، لأن ما جرى هذا المجرى ووقع هذا الموقع، فإنما يتفق للشاعر في لمع من شعره، وللكاتب في قليل من رسائله، وللخطيب في يسير من خطبه. ولو كان كل شعره نادرا، ومثلا سائرا، ومعنى بديعا، ولفظا رشيقا، وكل كلامه مملوءا من رونقه ومائه، ومحلى ببهجته وحسن روائه، ولم يقع فيه المتوسط بين الكلامين، والمتردد بين الطرفين، ولا البارد المستثقل، والغث المستنكر - لم يبن الإعجاز في الكلام، ولم يظهر التفاوت العجيب بين النظام والنظام.
وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل، ومبهم قد يحتاج في بعضه إلى تفسير. وسنذكر ذلك بمشيئة الله وعونه.
ولكن قد يمكن أن يقال في البديع الذي حكيناه وأضفناه إليهم: إن ذلك باب من أبواب البراعة، وجنس من أجناس البلاغة، وإنه لا ينفك القرآن عن فن من فنون بلاغاتهم، ولا وجه من وجوه فصاحاتهم، وإذا أورد هذا المورد، ووضع هذا الموضع، كان جديرا.
وإنما لم نطلق القول إطلاقا، لأنا لا نجعل الإعجاز متعلقا بهذه الوجوه الخاصة ووقفا عليها، ومضافا إليها، وإن صح أن تكون هذه الوجوه مؤثرة في الجملة، آخذة بحظها من الحسن والبهجة، متى وقعت في الكلام على غير وجه التكلف المستبشع والتعمل المستشنع.
فصل في كيفية الوقوف على إعجاز القرآن
قد بينا أنه لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية، من العجم والترك وغيرهم، أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا بأن يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك. فإذا عرفوا هذا - بأن علموا أنهم قد تُحدوا إلى أن يأتوا بمثله، وقرعوا على ترك الإتيان بمثله، ولم يأتوا به - تبينوا أنهم عاجزون عنه. وإذا عجز أهل ذلك اللسان، فهم عنه أعجز.
وكذلك نقول: إن من كان من أهل اللسان العربي - إلا أنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام ووجوه تصرف اللغة، وما يعدونه فصيحا بليغا بارعا من غيره - فهو كالأعجمي في أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن، إلا بمثل ما بينا أن يعرف به الفارسي الذي بدأنا بذكره، وهو ومن ليس من أهل اللسان، سواء.
فأما من كان قد تناهى في معرفة اللسان العربي ووقف على طرقها ومذاهبها - فهو يعرف القدر الذي ينتهى إليه وسع المتكلم من الفصاحة، ويعرف ما يخرج عن الوسع، ويتجاوز حدود القدرة - فليس يخفى عليه إعجاز القرآن، كما يميز بين جنس الخطب والرسائل والشعر، وكما يميز بين الشعر الجيد والردئ، والفصيح والبديع، والنادر والبارع والغريب.
وهذا كما يميز أهلُ كل صناعة صنعتهم، فيعرف الصيرفي من النقد ما يخفى على غيره، ويعرف البزاز من قيمة الثوب وجودته ورداءته ما يخفى على غيره، وإن كان يبقى مع معرفة هذا الشأن أمر آخر، وربما اختلفوا فيه: لأن من أهل الصنعة من يختار الكلام المتين، والقول الرصين.
ومنهم من يختار الكلام الذي يروق ماؤه، وتروع بهجته ورواؤه، ويسلس مأخذه، ويسلم وجهه ومنفذه، ويكون قريب المتناول، غير عويص اللفظ، ولا غامض المعنى.
كما [ قد ] يختار قوم ما يغمض معناه، ويغرب لفظه، ولا يختار ما سهل على اللسان، وسبق إلى البيان.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصف زهيرا فقال: كان لا يمدح الرجل إلا بما فيه.
وقال لعبد بنى الحسحاس حين أنشده: * كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا *: أما إنه لو قلت مثل هذا لأجزتك عليه.
وروي أن جريرا سئل عن أحسن الشعر؟ فقال: قوله:
إن الشقي الذي في النار منزله * والفوزُ فوزُ الذي ينجو من النار
كأنه فضله لصدق معناه.
ومنهم من يختار الغلو في قول الشعر والإفراط فيه، حتى ربما قالوا: أحسن الشعر أكذبه، كقول النابغة:
يَقُدُّ السَّلُوقيَّ المضاعفَ نَسجُهُ * ويوقدن بالصُّفّاح نارَ الحُباحِبِ
وأكثرهم على مدح المتوسط بين المذهبين: في الغلو والاقتصاد، وفى المتانة والسلاسة.
ومنهم من رأى أن أحسن الشعر ما كان أكثر صنعة، وألطف تعملا، وأن يتخير الألفاظ الرشيقة للمعاني البديعية والقوافي الواقعة، كمذهب البحتري، وعلى ما وصفه عن بعض الكتاب [ في قوله ]:
في نظام من البلاغة ما شكـْ * كَ امرؤٌ أنه نظام فريد
وبديع كأنه الزهر الضا * حكُ في رونق الربيع الجديد
حُزْنَ مستعملَ الكلام اختيارا * وتجنبنَ ظلمةَ التعقيد
وركبن اللفظَ القريب فأدركـ * نَ به غاية المراد البعيد
[ كالعذارى غدون في الحلل الـ * بيض إذا رُحنَ في الخطوط السود ]
ويرون أن من تعدى هذا كان سالكا مسلكا عاميا، ولم يروه شاعرا ولا مصيبا.
وفيما كتب [ إلي ] الحسن بن عبد الله أبو أحمد العسكري، قال: أخبرني محمد بن يحيى، قال: أخبرني عبد الله بن الحسين قال: قال لي البحتري: دعاني علي بن الجهم فمضيت إليه، فأفضنا في أشعار المحدثين، إلى أن ذكرنا شعر أشجع [ السلمي ]، فقال لي: إنه يُخلي، وأعادها مرات، ولم أفهمها، وأنفت أن أسأله عن معناها، فلما انصرفت أفكرت في الكلمة ونظرت في شعره، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة ليس فيها بيت رائع، وإذا هو يريد هذا بعينه: أن يعمل الأبيات فلا يصيب فيها ببيت نادر، كما أن الرايى إذا رمى برشقة فلم يصب بشئ، قيل: قد أخلى. قال: وكان علي بن الجهم أحسن الناس علما بالشعر.
وقوم من أهل اللغة يميلون إلى الرصين من الكلام، الذي يجمع الغريب والمعاني، مثل أبي عمرو بن العلاء، وخلف الأحمر، والأصمعي.
ومنهم من يختار الوحشي من الشعر، كما اختار المفضل للمنصور من المفضليات، وقيل: إنه اختار ذلك لميله إلى ذلك الفن.
وذكر الحسن بن عبد الله أنه أخبره بعض الكتاب عن علي بن العباس، قال: حضرت مع البحتري مجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وقد سأل البحتري عن أبي نواس ومسلم بن الوليد: أيهما أشعر؟ فقال البحتري: أبو نواس أشعر. فقال عبيد الله: إن أبا العباس ثعلبا لا يطابقك على قولك، ويفضل مسلما. فقال البحتري: ليس هذا من عمل ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله، إنما يعلم ذلك من دُفع في مسلك الشعر إلى مضايقه، وانتهى إلى ضروراته. فقال له عبيد الله: ورِيَتْ بك زنادي يا أبا عبادة، وقد وافق حكمك حكم أخيك بشار بن برد في جرير والفرزدق، [ فإن دعبلا حدثني عن أبي نواس، أنه حضر بشارا، وقد سئل عن جرير والفرزدق، و ] أيهما أشعر؟ فقال: جرير أشعرهما. فقيل له: بماذا؟ فقال: لأن جريرا يشتد إذا شاء، وليس كذلك الفرزدق، لأنه يشتد أبدا. فقيل له: فإن يونس وأبا عبيدة يفضلان الفرزدق على جرير. فقال: ليس هذا من عمل أولئك القوم، إنما يعرف الشعر من يضطر إلى أن يقول مثله، وفى الشعر ضروب لم يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النوار امرأته فناح عليها بقول جرير:
لولا الحياء لعادني استعبار * ولزرت قبرك والحبيب يزار
وروي عن أبي عبيدة أنه قال للفرزدق: ما لك لا تنسب كما ينسب جرير؟ فغاب حولا، ثم جاء فأنشد:
يا أختَ ناجية بن سامة إننى * أخشى عليك بَنيَّ إن طلبوا دمي
والأعدل في الاختيار ما سلكه أبو تمام من الجنس الذي جمعه في كتاب الحماسة، وما اختاره من الوحشيات، وذلك أنه تنكبَ المستنكر الوحشي والمبتذل العامي، وأتى بالواسطة.
وهذه طريقة من ينصف في الاختيار، ولا يعدل به غرض يخص، لأن الذين اختاروا الغريب فإنما اختاروه لغرض لهم في تفسير ما يشتبه على غيرهم وإظهار التقدم في معرفته وعجز غيرهم عنه، ولم يكن قصدهم جيد الأشعار لشئ يرجع إليها في أنفسها.
ويبين هذا: أن الكلام الموضوع للإبانة عن الأغراض التي في النفوس وإذا كان كذلك وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد، وأوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب، ولم يكن مستكره المطلع على الأذن، و [ لا ] مستنكر المورد على النفس، حتى يتأبى بغرابته في اللفظ عن الإفهام، أو يمتنع بتعويص معناه عن الإبانة. ويجب أن يتنكب ما كان عامى اللفظ، مبتذل العبارة، ركيك المعنى، سفسافى الوضع، مجتلب التأسيس على غير أصل ممهد، ولا طريق موطد.
وإنما فضلت العربية على غيرها، لاعتدالها في الوضع. لذلك وضع أصلها على أن أكثرها [ هو ] بالحروف المعتدلة، فقد أهملوا الألفاظ المستكرهة في نظمها وأسقطوها من كلامهم، وجعلوا عامة لسانهم على الأعدل. ولذلك صار أكثر كلامهم من الثلاثي، لأنهم بدءوا بحرف وسكتوا على آخر، وحعلوا حرفا وُصلةً بين الحرفين، ليتم الابتداء والانتهاء على ذلك. والثنائي أقل. وكذلك الرباعي والخماسي أقل، ولو كان ثنائيا لتكررت الحروف. ولو كان كله رباعيا أو خماسيا لكثرت الكلمات.
وكذلك بني أمر الحروف التي ابتدئ بها السور على هذا: فأكثر هذه السور التي ابتدئت بذكر الحروف، ذكر فيها ثلاثة أحرف. وما هو أربعة أحرف سورتان. وما ابتدئ بخمسة أحرف سورتان.
فأما ما بدئ بحرف واحد فقد اختلفوا فيه؛ فمنهم من لم يجعل ذلك حرفا، وإنما جعله فعلا واسما لشئ خاص. ومن جعل ذلك حرفا قال: أراد أن يحقق الحروف مفردها ومنظومها.
ولضيق ما سوى كلام العرب أو لخروجه عن الاعتدال، يتكرر في بعض الألسنة الحرف الواحد في الكلمة الواحدة والكلمات المختلفة كثيرا، كنحو تكرر الطاء والسين في لسان يونان، وكنحو الحروف الكثيرة التي هي اسم لشئ واحد في لسان الترك، ولذلك لا يمكن أن ينظم من الشعر في تلك الألسنة على الأعاريض التي تمكنُ في اللغة العربية.
والعربية أشدها تمكنا، وأشرفها تصرفا وأعدلها، ولذلك جعلت حلية لنظم القرآن، وعلق بها الإعجاز، وصار دلالة في النبوة.
وإذا كان الكلام إنما يفيد الإبانة عن الأغراض القائمة في النفوس التي لا يمكن التوصل إليها بأنفسها وهي محتاجة إلى ما يعبر عنها، فما كان أقرب في تصويرها وأظهر في كشفها للفهم الغائب عنها وكان مع ذلك أحكم في الإبانة عن المراد وأشد تحقيقا في الإيضاح عن المطلب وأعجب في وضعه وأرشق في تصرفه وأبرع في نظمه - كان أولى وأحق بأن يكون شريفا.
وقد شبهوا النطق بالخط، والخط يحتاج مع بيانه إلى رشاقة وصحة، [ وملاحة ] ولطف، حتى يحوز الفضيلة ويجمع الكمال.
وشبهوا الخط والنطق بالتصوير، وقد أجمعوا أن من أحذق المصورين من صور لك الباكي المتضاحك، والباكي الحزين، والضاحك المتباكي، والضاحك المستبشر. وكما أنه يحتاج إلى لطف يد في تصوير هذه الامثلة، فكذلك يحتاج إلى لطف في اللسان والطبع في تصوير ما في النفس للغير.
وفي جملة الكلام ما تقصر عبارته وتفضل معانيه. وفيه ما تقصر معانيه وتفضل العبارات. وفيه ما يقع كل واحد منهما وفقا للآخر. ثم ينقسم ما يقع وفقا إلى أنه قد يفيدها على [ جملة وقد يفيدها على ] تفصيل. وكل واحد منهما قد ينقسم إلى ما يفيدها على أن يكون كل واحد منهما بديعا شريفا، وغريبا لطيفا. وقد يكون كل واحد منهما مستجلبا متكلفا، ومصنوعا متعسفا، وقد يكون [ كل ] واحد منهما حسنا رشيقا، وبهيجا نضيرا. وقد يتفق أحد الأمرين دون الآخر. وقد يتفق أن يسلم الكلام والمعنى من غير رشاقة ولا نضارة في واحد منهما. [ و ] إنما يميز من يميز، ويعرف من يعرف. والحكم في ذلك صعب شديد، والفصل فيه شأو بعيد.
وقد قل من يميز أصناف الكلام، فقد حكى عن طبقة أبي عبيدة وخلف الاحمر وغيرهما في زمانهما، أنهم قالوا: ذهب من يعرف نقد الشعر.
وقد بينا قبل هذا اختلاف القوم في الاختيار، وما يجب أن يجمعوا عليه ويرجعوا عند التحقيق إليه، فكلام المقتدر نمط، وكلام المتوسط باب، وكلام المطبوع له طريق، وكلام المتكلف له منهاج، والكلام المصنوع المطبوع له باب.
ومتى تقدم الإنسان في هذه الصنعة، لم تخف عليه هذه الوجوه، ولم تشتبه عنده هذه الطرق: فهو يميز قدر كل متكلم بكلامه، وقدر كل كلام في نفسه، ويحله محله، ويعتقد فيه ما هو عليه، ويحكم فيه بما يستحق من الحكم.
وإن كان المتكلم يجود في شئ دون شئ، عرف ذلك منه. وإن كان يعم إحسانه، عرف.
ألا ترى أن منهم من يجود في المدح دون الهجو. ومنهم من يجود في الهجو وحده، ومنهم من يجود في المزح والسخف، ومنهم من يجود في الأوصاف.
والعالم لا يشذ عنه [ شئ من ذلك، ولا تخفى عليه ] مراتب هؤلاء، ولا تذهب عليه أقدارهم، حتى إنه إذا عرف طريقة شاعر في قصائد معدودة، فأُنشِد غيرها من شعره - لم يشك أن ذلك من نسجه، ولم يرتب في في أنها من نظمه، كما أنه إذا عرف خط رجل لم يشتبه عليه خطه حيث رآه من بين الخطوط المختلفة، وحتى يميز بين رسائل كاتب وبين رسائل غيره، وكذلك أمر الخطب.
فإن اشتبه عليه البغض، فهو لاشتباه الطريقين، وتماثل الصورتين، كما قد يشتبه شعر أبي تمام بشعر البحتري: في القليل الذي يترك أبو تمام فيه التصنع، ويقصد فيه التسهل، ويسلك الطريقة الكتابية، ويتوجه في تقريب الألفاظ وترك تعويض المعاني، ويتفق له مثل بهجة أشعار البحتري وألفاظه.
ولا يخفى على أحد يميز هذه الصنعة سَبْكُ أبي نواس [ من سبك مسلم ]، ولا نسجُ ابن الرومي من نسج البحتري؛ وينبهه ديباجة شعر البحتري وكثرة مائه وبديع رونقه وبهجة كلامه، إلا فيما يسترسل فيه، فيشتبه بشعر ابن الرومي؛ ويحركه ما لشعر أبي نواس من الحلاوة والرقة والرشاقة والسلاسة، حتى يفرق بينه وبين شعر مسلم.
وكذلك يميز بين شعر الأعشى في التصرف، وبين شعر امرئ القيس، وبين شعر النابغة وزهير، وبين شعر جرير والأخطل، والبعيث والفرزدق. وكل له منهج معروف، وطريق مألوف.
ولا يخفى عليه في زماننا الفصل بين رسائل عبد الحميد وطبقته وبين طبقة من بعده، حتى إنه لا يشتبه عليه ما بين رسائل ابن العميد وبين رسائل أهل عصره ومن بعده من برع في صنعة الرسائل وتقدم في شأوها، حتى جمع فيها بين طرق المتقدمين وطريقة المتأخرين، [ و ] حتى خلص لنفسه طريقة، وأنشأ لنفسه منهاجا، فسلك تارة طريقة الجاحظ وتارة طريقة السجع، وتارة طريقة الاصل، وبرع في ذلك باقتداره، وتقدم بحذقه؛ ولكنه لا يخفى مع ذلك على أهل الصنعة طريقه من طريق غيره، وإن كان قد يشتبه البعض، ويدق القليل، وتغمض الأطراف، وتشذ النواحي.
وقد يتقارب سبك نفر من شعراء عصر، وتتدانى رسائل كتاب دهر، حتى تشتبه اشتباها شديدا وتتماثل تماثلا قريبا، فيغمض الأصل.
وقد يتشاكل الفرع والأصل، وذلك فيما لا يتعذر دِراك أمَدِه، ولا يتصعب طِلابُ شأوه، ولا يمنع بلوغ غايته والوصول إلى نهايته، لأن الذي يتفق من الفصل بين أهل الزمان إذا تفاضلوا [ في سبق ] وتفاوتوا في مضمار، فصل قريب وأمر يسير.
وكذلك لا يخفى عليهم معرفة سارق الألفاظ و [ لا ] سارق المعاني، ولا من يخترعها، ولا من يلم بها، ولا من يجاهر بالأخذ ممن يكاتم به، ولا من يخترع الكلام اختراعا، ويبتدهه ابتداها، ممن يُروّي فيه، ويجيل الفكر في تنقيحه، ويصبر عليه، حتى يتخلص له ما يريد، وحتى يتكرر نظره فيه.
قال أبو عبيدة: سمعت أبا عمرو يقول: زهير والحُطيئة وأشباههما عبيد الشعر، لأنهم نقحوه، ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين.
وكان زهير يسمي كبر شعره الحوليات المنقحة. وقال عدى ابن الرقاع:
وقصيدة قد بت أجمع بينها * حتى أقوم ميلها وسنادها
نظر المثقف في كعوب قناته * حتى يقيم ثقافة منادها
وكقول سويد بن كُراع:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 4 (0 من الأعضاء و 4 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)