خطبة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه
أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى؛ خير الملل ملة إبراهيم، وأحسن السنن سنة النبي محمد ؛ خير الأمور أوساطها، وشر الأمور محدثاتها؛ ما قل وكفى خير مما كثر وألهى؛ خير الغنى غنى النفس، وخير ما أُلقي في القلب اليقينُ؛ الخمر جماع الإثم، النساء حِبَالة الشيطان، الشباب شُعبة من الجنون؛ حب الكفاية مفتاح المَعجَزة؛ مِن الناس من لا يأتي الجماعة إلا دبرا، ولا يذكر الله إلا هُجرا؛ أعظم الخطايا اللسان الكذوب؛ سباب المؤمن فسق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية؛ مَن يَتَأَلَّ على الله يكذبه؛ [161] من يغفر يغفر له، مكتوب في ديوان المحسنين: من عفا عفي عنه. الشقي من شَقِيَ في بطن أمه، والسعيد من وُعظ بغيره، الأمور بعواقبها. ملاك العمل خواتيمه، أشرف الموت الشهادة؛ من يعرف البلاء يصبر عليه، ومن لا يعرف البلاء ينكره.
خطبة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
قال الراوي: لما حضرته الوفاة قال لولي له: من بالباب؟ فقال: نفر من قريش يتباشرون بموتك! فقال: ويحك، ولم؟ ثم أذن للناس، فحمد الله وأثنى عليه فأوجز، ثم قال:
أيها الناس، إنا قد أصبحنا في دهر عنود وزمن شديد، يعد فيه المحسن مسيئا، ويزداد الظالم فيه عتوا؛ لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا. فالناس على أربعة أصناف:
منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه وكلال حده ونضيض وفره.
ومنهم المصلت لسيفه، [162] والمجلب برجله، [163] والمعلن بشره، قد أشرط نفسه، [164] وأوبق دينه لحطام ينتهزه أو مقنب [165] يقوده أو منبر يفرعه، [166] وبئس المتجر أن تراها لنفسك ثمنا، ومما لك عند الله عوضا.
ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا؛ قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه، وشمر من ثوبه، وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية.
ومنهم من أقعده عن الملك ضئولة في نفسه وانقطاع سببه، فقصر به الحال عن حال، فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس الزهاد، وليس من ذلك في مراح ولا مَغدًى.
وبَقي رجالٌ أغض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نادٍّ، [167] وخائف منقمع، [168] وساكت مكعوم، [169] وداع مخلص، وموجع ثكلان، قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة، في بحر أجاج، أفواههم دامية، وقلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلوا.
فلتكن الدنيا في عيونكم أقل من حتاتة القرظ، [170] وقراضة الجلم، [171] واتعظوا بمن كان قبلكم، قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، فارفضوها ذميمة، فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم
خطبة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
أيها الناس، إنكم ميتون، ثم إنكم مبعوثون، ثم إنكم محاسبون؛ فلعمري لئن كنتم صادقين لقد قصرتم، ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم.
يا أيها الناس، إنه من يقدر له رزق برأس جبل أو بحضيض أرض يأته، فأجملوا في الطلب. [172]
خطبة للحجاج بن يوسف
حمد الله وأثنى عليه، [173] ثم قال:
يا أهل العراق، ويا أهل الشقاق والنفاق، ومساوي الأخلاق، وبني اللكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والفقع بالقرقر؛ [174] إني سمعت تكبيرا لا يراد به الله وإنما يراد به الشيطان، وإنما مثلي ومثلكم ما قاله ابن براقة الهمداني:
وكنتُ إذا قوم غزوني غزوتُهم * فهل أنا في ذا، يا لهمدان، ظالمُ
متى تجمعِ القلبَ الذكي وصارِما * وأنفا حميا، تجتنبك المظالمُ
أما والله لا تَقرعُ عصًا عصًا إلا جعلتُها كأمس الدابر.
خطبة لقس بن ساعدة الإيادي
أخبرني محمد بن على الأنصاري بن محمد بن عامر، قال: حدثنا علي بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن داود بن عبد الرحمن العمري، قال: حدثنا الأنصاري علي بن محمد الحنظلي - من ولد حنظلة الغسيل - حدثنا جعفر بن محمد، عن محمد بن حسان، [175] عن محمد بن حجاج اللخمي، [176] عن مجالد، [177] عن الشعبي، عن ابن عباس، قال:
لما وفد وفد عبد القيس على رسول الله قال: أيكم يعرف قُسّ بن ساعدة؟ قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله. [178]
قال: لست أنساه بعكاظ، إذ وقف على بعير له أحمر، فقال: أيها الناس اجتمعوا، وإذا اجتمعتم فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فقولوا، وإذا قلتم فاصدقوا؛ من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت.
أما بعد، فإن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، أَقسَم بالله قُسٌّ قسما حقا لا كاذبا فيه ولا آثما، لئن كان في الأرض رضًا ليكونن سخطا، إن لله تعالى دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، وقد أتاكم أوانه، ولحقتكم مدته.
ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا؟
ثم قال رسول الله : أيكم يروي شعره؟ فأنشدوه:
في الذاهبين الأوليـ * ن من القرون لنا بصائرْ
لما رأيت مواردا * للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها * يسعى الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إليْـ * يَ ولا من الباقين غابر
أيقنتُ أني لا محا * لة حيثُ صار القوم صائر
أخبرني الحسن بن عبد الله بن سعيد، حدثنا علي بن الحسين بن إسماعيل، حدثنا محمد بن زكريا، حدثنا عبيد الله بن الضحاك، عن هشام عن أبيه: أن وفدا من إياد قدموا على رسول الله ، فسألهم عن حال قس ابن ساعدة، فقالوا: قال قس:
يا ناعي الموت والأموات في جدث * عليهم من بقايا بَزِّهِم خِرَقُ
دَعهُم فإن لهم يوما يصاح بهم * كما ينبه من نوماته الصَّعِق
منهم عراة ومنهم في ثيابهم * منها الجديد ومنها الأورَقُ الخَلَق
مطر ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت. وآيات في إثر آيات، وأموات بعد أموات. ضوء وظلام، وليال وأيام، وغني وفقير، وشقي وسعيد، ومحسن ومسئ. أين الارباب الفعلة؟ ليصلحن كل عامل عمله.
كلا، بل هو الله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المآب غدا.
أما بعد، يا معشر إياد، أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والاجداد؟ أين الحسن الذي لم يشكر؟ أين الظلم الذي لم ينقم؟ كلا ورب الكعبة ليعودن ما بدا، ولئن ذهب يوم ليعودن يوم.
قال: وهو قس بن ساعدة بن حذاق بن ذهل بن إياد بن نزار، أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ على عصا، وأول من تكلم ب "أما بعد".
خطبة لأبي طالب
الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعل لنا بلدا حراما وبيتا محجوجا، وجعلنا الحكام على الناس.
وإن محمد بن عبد الله، ابن أخي، لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به بركة وفضلا وعدلا ومجدا ونبلا، وإن كان في المال مُقِلا، فإن المال عارية مسترجعة وظل زائل، وله في خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أردتم من الصداق فعليَّ. [179]
قد نسخت لك جملا من كلام الصدر الأول ومحاوراتهم وخطبهم، وأحيلك فيما لم أنسخ على التواريخ والكتب المصنفة في هذا الشأن. فتأمل ذلك وسائر ما هو مسطر من الأخبار المأثورة عن السلف، وأهل البيان واللسن، والفصاحة والفطن، والألفاظ المنثورة، والمخاطبات الدائرة بينهم، والأمثال المنقولة عنهم.
ثم انظر - بسكون طائر، وخفض جناح، وتفريغ لب، وجمع عقل - في ذلك، فسيقع لك الفصل بين كلام الناس وبين كلام رب العالمين، وتعلم أن نظم القرآن يخالف نظم كلام الآدميين، وتعلم الحد الذي يتفاوت بين كلام البليغ والبليغ، والخطيب والخطيب، والشاعر والشاعر، وبين نظم القرآن جملة.
فإن خيل إليك أو شبه عليك، وظننت أنه يحتاج أن يوازن بين نظم الشعر والقرآن، لأن الشعر أفصح من الخطب، وأبرع من الرسائل، وأدق مسلكا من جميع أصناف المحاورات - ولذلك قالوا له : هو شاعر أو ساحر - وسوّل إليك الشيطان أن الشعر أبلغ وأعجب، وأرق وأبرع، وأحسن الكلام وأبدع - فهذا فصلٌ فيه نظرٌ بين المتكلمين، وكلام بين المحققين.
باب
سمعت أفضل من رأيت من أهل العلم بالأدب والحذق بهذه الصناعة مع تقدمه في الكلام يقول:
إن الكلام المنثور يتأتى فيه من الفصاحة والبلاغة ما لا يتأتى في الشعر، لأن الشعر يضيّق نطاق الكلام، ويمنع القول من انتهائه، ويصده عن تصرفه على سَنَنه.
وحَضَره من يتقدم في صنعة الكلام، فراجعه في ذلك، وذكر أنه لا يمتنع أن يكون الشعر أبلغ إذا صادف شروط الفصاحة، وأبدع إذا تضمن أسباب البلاغة.
ويشهد عندي للقول الأخير: أن معظم براعة كلام العرب في الشعر، ولا نجد في منثور قولهم ما نجد في منظومه، وإن كان قد أحدثت البراعة في الرسائل على حد لم يعهد في سالف أيام العرب، ولم ينقل في دواوينهم وأخبارهم.
وهو، وإن ضيّق نطاق القول، فهو يجمع حواشيه ويضم أطرافه ونواحيه، فهو إذا تهذب في بابه ووفى له جميع أسبابه - لم يقاربه من كلام الآدميين كلام، ولم يعارضه من خطابهم خطاب.
وقد حُكي عن المتنبي أنه كان ينظر في المصحف، فدخل إليه بعض أصحابه، فأنكر نظره فيه لما كان رآه عليه من سوء اعتقاده، فقال له: هذا المكي على فصاحته كان مُفحما.
فإن صحت هذه الحكاية عنه في إلحاده عُرِف بها أنه كان يعتقد أن الفصاحة في قول الشعر [ أمكن و ] أبلغ.
وإذا كانت الفصاحة في قول الشعر أو لم تكن، وبينا أن نظم القرآن يزيد في فصاحته على كل نظم ويتقدم في بلاغته على كل قول، بما يتضح به الأمر اتضاح الشمس ويتبين به بيان الصبح - وقفت على جلية هذا الشأن. فانظر فيما نعرضه عليك، وتصور بفهمك ما نصوره، ليقع لك موقع عظيم شأن القرآن، وتأمل ما نرتبه، ينكشف لك الحق.
إذا أردنا تحقيق ما ضمناه لك، فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة متفق على كبر محلها، وصحة نظمها، وجودة بلاغتها، ورشاقة معانيها، وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها، مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة والمعروفين بالحذق في البراعة، فنقفك على مواضع خللها، وعلى تفاوت نظمها، وعلى اختلاف فصولها، وعلى كثرة فضولها، وعلى شدة تعسفها، وبعض تكلفها، وما تجمع من كلام رفيع، يقرن بينه وبين كلام وضيع، وبين لفظ سوقي، يقرن بلفظ ملوكي، وغير ذلك من الوجوه التي يجئ تفصيلها، ونبين ترتيبها وتنزيلها.
فأما كلام مسيلمة الكذاب وما زعم أنه قرآن، فهو أخس من أن نشتغل به وأسخف من أن نفكر فيه.
وإنما نقلنا منه طرفا ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر، فإنه على سخافته قد أضَلَّ، وعلى ركاكته قد أزل، وميدان الجهل واسع! ومن نظر فيما نقلناه عنه وفهم موضع جهله، كان جديرا أن يحمد الله على ما رزقه من فهم وآتاه من علم.
فمما كان يزعم أنه نزل عليه من السماء: "والليل الأضخم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم "! وذلك قد ذكر في خلاف وقع بين قوم أتوه من أصحابه!
وقال أيضا: "والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس"!
وكان يقول: "والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبهانها، والشاة السوداء، واللبن الابيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تجتمعون"!
وكان يقول: "ضِفدَع بنت ضفدعين، نِقّي ما تَنِقّين، أعلاكِ في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين. لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم يعتدون "!
وكان يقول: "والمبديات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المَدَر، ريفكم فامنعوه، والمُعتَرَّ فآووه، والباغي فناوئوه."
وقالت سجاح بنت الحارث بن عقبان - وكانت تتنبأ، فاجتمع مسيلمة معها - فقالت له: ما أوحي إليك؟
فأما كلام مسيلمة الكذاب وما زعم أنه قرآن، فهو أخس من أن نشتغل به وأسخف من أن نفكر فيه. وإنما نقلنا منه طرفا ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر، فإنه على سخافته قد أضَلَّ، وعلى ركاكته قد أزل، وميدان الجهل واسع! ومن نظر فيما نقلناه عنه وفهم موضع جهله، كان جديرا أن يحمد الله على ما رزقه من فهم وآتاه من علم.
فمما كان يزعم أنه نزل عليه من السماء: "والليل الأضخم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم "! وذلك قد ذكر في خلاف وقع بين قوم أتوه من أصحابه!
وقال أيضا: "والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس"!
وكان يقول: "والشاء وألوانها، وأعجبها السود وألبهانها، والشاة السوداء، واللبن الابيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تجتمعون"!
وكان يقول: "ضِفدَع بنت ضفدعين، نِقّي ما تَنِقّين، أعلاكِ في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين. لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم يعتدون "!
وكان يقول: "والمبديات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المَدَر، ريفكم فامنعوه، والمُعتَرَّ فآووه، والباغي فناوئوه."
وقالت سجاح بنت الحارث بن عقبان - وكانت تتنبأ، فاجتمع مسيلمة معها - فقالت له: ما أوحي إليك؟
فقال: "ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، ما بين صفاق وحَشا"!
وقالت: فما بعد ذلك؟ قال: أوحي إلى: "إن الله خلق النساء أفواجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فنولج فيهن قَعسا إيلاجا، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا، فينتجن لنا سِخالا نِتاجا"!
فقالت: أشهد أنك نبي!
ولم ننقل كل ما ذكر من سخفه كراهية التثقيل.
وروى: أنه سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقواما قدموا عليه من بنى حنيفة، عن هذه الألفاظ؟ فحكوا بعض ما نقلناه، فقال أبو بكر: سبحان الله! ويحكم، إن هذا الكلام لم يخرج عن إلٍّ، فأين كان يذهب بكم؟
ومعنى قوله: "لم يخرج عن إل": أي عن ربوبية.
ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام. [180]
فنرجع الآن إلى ما ضمناه من الكلام على الاشعار المتفق على جودتها وتقدم أصحابها في صناعتهم، ليتبين لك تفاوت أنواع الخطاب وتباعد مواقع أنواع البلاغة، وتستدل على مواضع البراعة.
وأنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس ولا ترتاب في براعته، ولا تتوقف في فصاحته، وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورا اتبع فيها، من ذكر الديار والوقوف عليها، إلى ما يصل بذلك: من البديع الذي أبدعه، والتشبيه الذي أحدثه، والمليح الذي تجد في شعره، والتصرف الكثير الذي تصادفه في قوله، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه: من صناعة وطبع، وسلاسة وعفو، ومتانة ورقة، وأسباب تحمد، وأمور تؤثر وتمدح. وقد ترى الأدباء أولا يوازنون بشعره فلانا وفلانا، ويضمون أشعارهم إلى شعره، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقيناه وبين شعره في أشياء لطيفة وأمور بديعة، وربما فضلوهم عليه، أو سوّوا بينهم وبينه، أو قربوا موضع تقدمه عليهم، وبرزوه بين أيديهم.
ولما اختاروا قصيدته في السبيعيات، [181] أضافوا إليها أمثالها وقرنوا بها نظائرها، ثم تراهم يقولون: لفلان لامية مثلها، ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته، وتساويه في طريقته، وربما غبّرت في وجهه في أشياء كثيرة، وتقدمت عليه في أسباب عجيبة.
وإذا جاءوا إلى تعداد محاسن شعره، كان أمرا محصورا، وشيئا معروفا. أنت تجد من ذلك البديع أو أحسن منه في شعر غيره، وتشاهد مثل ذلك البارع في كلام سواه، وتنظر إلى المحدثين كيف توغلوا إلى حيازة المحاسن، منهم من جمع رصانة الكلام إلى سلاسته، ومتانته إلى عذوبته، والإصابة في معناه إلى تحسين بهجته، حتى إن منهم من إن قصر عنه في بعض تقدم عليه في بعض، [ وإن وقف دونه في حال، سبقه في أحوال، وإن تشبه به في أمر، ساواه في أمور ]؛ لأن الجنس الذي يرمون إليه والغرض الذي يتواردون عليه، هو مما للآدمي فيه مجال، وللبشرى فيه مثال؛ فكل يضرب فيه بسهم، ويفوز فيه بقدح، ثم قد تتفاوت السهام تفاوتا، وتتباين تباينا، وقد تتقارب تقاربا، على حسب مشاركتهم في الصنائع، ومساهمتهم في الحرف.
ونظم القرآن جنس متميز، وأسلوب متخصص، وقَبيلٌ عن النظير متخلص. فإذا شئت أن تعرف عظم شأنه، فتأمل ما نقوله في هذا الفصل لامرئ القيس في أجود أشعاره، وما نبين لك من عواره، على التفصيل. وذلك قوله:
قَفا نَبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ * بسِقْط اللِّوى بين الدخول فَحَوْمَل
فَتُوضِحَ فالمِقراةِ لم يَعفُ رسمُها * لِما نَسَجَتْها مِن جنوبٍ وشَمأَلِ
الذين يتعصبون له ويدعون محاسن الشعر، يقولون: هذا من البديع، لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر العهد والمنزل والحبيب، وتوجع واستوجع، كله في بيت؛ ونحو ذلك.
وإنما بينا هذا لئلا يقع لك ذهابنا على مواضع المحاسن، إن كانت، ولا غفلتنا عن مواضع الصناعة، إن وجدت.
تأمل أرشدك الله وانظر هداك الله: أنت تعلم أنه ليس في البيتين شئ قد سبق في ميدانه شاعرا، ولا تقدم به صانعا. وفي لفظه ومعناه خلل:
فأول ذلك: أنه استوقف من يبكي لذكر الحبيب، وذكراه لا تقتضي بكاء الخَلِيِّ، وإنما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا، على أن يبكي لبكائه ويرق لصديقه في شدة بُرَحائه، فأما أن يبكي على حبيب صديقه وعشيق رفيقه، فأمر محال.
فإن كان المطلوب وقوفه وبكاؤه أيضا عاشقا، صح الكلام [ من وجه ]، وفسد المعنى من وجه آخر! لأنه من السخف أن لا يغار على حبيبه، وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه، والتواجد معه فيه!
ثم في البيتين ما لا يفيد، من ذكر هذه المواضع، وتسمية هذه الأماكن: من "الدَّخول" و "حومل" و "تُوضِح" و "المِقراة" و "سِقْط اللوى"، وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا. وهذا التطويل إذا لم يفد كان ضربا من العي.
ثم إن قوله: "لم يعف رسمها"، ذكر الأصمعي من محاسنه: أنه باق فنحن نحزن على مشاهدته، فلو عفا لاسترحنا.
وهذا بأن يكون من مساويه أولى، لأنه إن كان صادق الود، فلا يزيده عَفاءُ الرسوم إلا جِدّة عهد، وشدة وَجْد. وإنما فزع الأصمعي إلى إفادته هذه الفائدة خشيةَ أن يعاب عليه فيقال: أي فائدة لأن يُعرفنا أنه لم يعفُ رسم منازل حبيبه، وأي معنى لهذا الحشو؟ فذكر ما يمكن أن يذكر، ولكن لم يخلصه - بانتصاره له - من الخلل.
ثم في هذه الكلمة خلل آخر، لأنه عقّب البيت بأن قال: * فهل عند رسم دارس من معول * فذكر أبو عبيدة: أنه رجع فأكذب نفسه، كما قال زهير:
قِف بالديار التي لم يَعفُها القِدم * نعم، وغيَّرها الأرواحُ والديَم [182]
وقال غيره: أراد بالبيت الأول أنه لم ينطمس أثره كله، وبالثاني أنه ذهب بعضه، حتى لا يتناقض الكلامان.
وليس في هذا انتصار، لأن معنى "عفا" و "درس" واحد، فإذا قال: "لم يعف رسمها" ثم قال: "قد عفا"، فهو تناقض لا محالة.
واعتذار أبي عبيدة أقرب لو صح، ولكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك كما قاله زهير، فهو إلى الخلل أقرب.
وقوله: "لما نسجتها"، كان ينبغى أن يقول: "لما نسجها " ولكنه تعسف فجعل "ما" في تأويل تأنيث، لأنها في معنى الريح، والأولى التذكير دون التأنيث، وضرورة الشعر قد قادته إلى هذا التعسف.
وقوله: "لم يعف رسمها" كان الأولى أن يقول: "لم يعف رسمه" لأنه ذكر المنزل، فإن كان رد ذلك إلى هذه البقاع والأماكن التي المنزل واقع بينها فذلك خلل، لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيبه، بعفائه، أو بأنه لم يعف دون ما جاوره.
وإن أراد بالمنزل الدار حتى أنث، فذلك أيضا خلل.
ولو سَلِمَ من هذا كله ومما نكره ذكره كراهية التطويل لم نشك في أن شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين، بل يزيد عليهما ويفضلهما.
ثم قال: وقوفا بها صحبي على مطيهم * يقولون: لا تهلك أسًى وتحملِ وإن شفائي عبرة مهراقة * فهل عند رسم دارس من معول
وليس في البيتين أيضا معنى بديع، ولا لفظ حسن كالأولين.
والبيت الأول منهما متعلق بقوله: "قفا نبك" فكأنه قال: قفا وقوف صحبي بها على مطيهم، أو: قفا حال وقوف صحبي.
وقوله "بها": متأخر في المعنى وإن تقدم في اللفظ، ففي ذلك تكلف وخروج عن اعتدال الكلام.
والبيت الثاني مختل من جهة أنه قد جعل الدمع في اعتقاده شافيا كافيا، فما حاجته بعد ذلك إلى طلب حيلة أخرى، وتحمل ومعول عند الرسوم؟
ولو أراد أن يحسن الكلام لوجب أن يدل على أن الدمع لا يشفيه لشدة ما به من الحزن، ثم يسائل: هل عند الربع من حيلة أخرى؟
وقوله:
كدأبك من أم الحويرث قبلها * وجارتها أم الرباب بمأسل
إذا قامتا تضوع المسك منهما * نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل [183]
أنت لا تشك في أن البيت الأول قليل الفائدة، ليس له مع ذلك بهجة، فقد يكون الكلام مصنوع اللفظ، وإن كان منزوع المعنى!
وأما البيت الثاني فوجه التكلف فيه قوله: * إذا قامتا تضوع المسك منهما * ولو أراد أن يجود أفاد أن بهما طيبا على كل حال، فأما في حال القيام فقط، فذلك تقصير.
ثم فيه خلل آخر، لأنه بعد أن شبه عرفها بالمسك شبه ذلك بنسيم القرنفل، وذكر ذلك بعد ذكر المسك نقص.
وقوله: "نسيم الصبا"، في تقدير المنقطع عن المصراع الأول، لم يصله به وُصْلَ مِثلِه.
وقوله:
ففاضت دموع العين منى صبابة * على النحر حتى بل دمعي محملي
ألا رُبَّ يوم لك منهن صالح * ولا سيما يومٍ بدارةَ جُلْجُلِ
قوله: "ففاضت دموع العين"، ثم استعانته بقوله: "مني" استعانة ضعيفة عند المتأخرين في الصنعة، وهو حشو غير مليح ولا بديع.
وقوله: "على النحر"، حشو آخر، لأن قوله: "بل دمعي محملي" يغني عنه ويدل عليه، وليس بحشو حسن. ثم قوله: "حتى بل محملي" إعادة ذكره الدمع حشو آخر، وكان يكفيه أن يقول: حتى بلت محملي، فاحتاج لإقامة الوزن إلى هذا كله.
ثم تقديره أنه قد أفرط في إفاضة الدمع حتى بل محمله، تفريط منه وتقصير، ولو كان أبدع لكان يقول: حتى بل دمعي مغانيهم وعِراصَهم. ويشبه أن يكون غرضه إقامة الوزن والقافية: لأن الدمع يبعد أن يبل المِحْمَل، وإنما يقطر من الواقف والقاعد على الأرض أو على الذيل، وإن بله فلِقلّته وأنه لا يقطر.
وأنت تجد في شعر الخُبْزَرُزّي ما هو أحسن من هذا البيت وأمتن وأعجب منه.
والبيت الثاني خال من المحاسن والبديع، خاوٍ من المعنى، وليس له لفظ يروق، ولا معنى يروع، من طباع السوقة. فلا يرعك تهويلُه باسم موضع غريب.
وقال:
ويوم عقرتُ للعذارى مَطِيّتي * فيا عجبا من رَحلِها المُتَحَمَّلِ
فظلَّ العذارى يرتمين بلحمها * وشحمٍ كهُدّاب الدِّمَقس المُفَتَّلِ
تقديره: اُذكر يوم عقرت مطيتي، أو يرده على قوله: "يوم بدارة جلجل"، وليس في المصراع الأول من هذا البيت إلا سفاهته.
قال بعض الأدباء: قوله "يا عجبا" يعجبهم من سفهه في شبابه: من نحره لهن. وإنما أراد أن لا يكون الكلام من هذا المصراع منقطعا عن الأول، وأراد أن يكون الكلام ملائما له.
وهذا الذي ذكره بعيد. وهو منقطع عن الأول، وظاهره أنه يتعجب من تحمل العذارى رَحلَه! وليس في هذا تعجب كبير، ولا في نحر الناقة لهن تعجب.
وإن كان يعني به أنهن حملن رحله، وأن بعضهن حملته، فعبر عن نفسه برحله، فهذا قليلا يشبه أن يكون عجبا، لكن الكلام لا يدل عليه، ويتجافى عنه.
ولو سلم البيت من العيب لم يكن فيه شئ غريب، ولا معنى بديع، أكثر من سفاهته، مع قلة معناه، وتقارب أمره، ومشاكلته طبع المتأخرين من أهل زماننا.
وإلى هذا الموضع لم يمر له بيت رائع، وكلام رائق.
وأما البيت الثاني فيعدونه حسنا، ويعدون التشبيه مليحا واقعا. وفيه شئ: وذلك أنه عرف اللحم ونكر الشحم، فلا يعلم أنه وصف شحمها، وذكر تشبيه أحدهما بشئ واقع [ للعامة، ويجري على ألسنتهم ]، وعجز عن تشبيه القسمة الأولى فمرت مرسلة! وهذا نقص في الصنعة، وعجز عن إعطاء الكلام حقه.
وفيه شئ آخر من جهة المعنى: وهو أنه وصف طعامه الذي أطعم من أضاف بالجودة، وهذا قد يعاب. وقد يقال: إن العرب تفتخر بذلك ولا يرونه عيبا، وإنما الفرس هم الذين يرون هذا عيبا شنيعا.
وأما تشبيه الشحم بالدمقس، فشئ يقع للعامة ويجري على ألسنتهم، فليس بشئ قد سبق إليه، وإنما زاد "المفتل" للقافية، وهذا مفيد؛ ومع ذلك فلست أعلم العامة تذكر هذه الزيادة، ولم يعد أهل الصنعة ذلك من البديع، ورأوه قريبا.
وفيه شئ آخر [ من جهة المعنى ]: وهو أن تبجحه بما أطعم للأحباب مذموم، وإن سوغ التبجح بما أطعم للاضياف، إلا أن يورد الكلام مورد المُجُون، وعلى طريق أبي نواس في المزاح والمداعبة!
وقوله:
ويوم دخلتُ الخدر خدر عنيزة * فقالت: لك الويلاتُ إنك مُرْجِلِي
تقول وقد مال الغَبِيط بنا معا: * عقرتَ بعيرى يا امرأ القيس فانزلِ
قوله: "دخلت الخدر خدر عنيزة"، ذكره تكريرا لإقامة الوزن، لا فائدة فيه غيره، ولا ملاحة له ولا رونق.
وقوله في المصراع الأخير من هذا البيت: "فقالت لك الويلات إنك مرجلي" كلام مؤنث من كلام النساء، نقله من جهته إلى شعره، وليس فيه غير هذا.
وتكريره بعد ذلك: "تقول وقد مال الغبيط"، يعني قَتَب الهَودَج، بعد قوله: "فقالت لك الويلات إنك مرجلي": لا فائدة فيه غير تقدير الوزن. وإلا فحكاية قولها الأول كاف، وهو في النظم قبيح، لأنه ذكر مرة: "فقالت"، ومرة: "تقول"، في معنى واحد، وفصل خفيف.
وفي مصراع الثاني أيضا تأنيث من كلامهن.
وذكر أبو عبيدة أنه قال: "عقرت بعيري"، ولم يقل ناقتي، لأنهم يحملون النساء على ذكور الإبل، لأنها أقوى.
وفي ذلك نظر، لأن الأظهر أن البعير اسم للذكر والانثى، واحتاج إلى ذكر البعير لإقامة الوزن.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 4 (0 من الأعضاء و 4 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)