وقوله: فقلتُ لها: سيري وأرخي زمامه * ولا تُبعديني من جناك المعلَّل
فمثلك حُبلى قد طَرَقتُ ومُرضِعٍ * فألهيتُها عن ذي تمائمَ مُحْوِلِ
البيت الأول قريب النسج، ليس له معنى بديع، ولا لفظ شريف، كأنه من عبارات المنحطين في الصنعة.
وقوله: "فمثلك حبلى قد طرقتُ"، عابه عليه أهل العربية، ومعناه عندهم حتى يستقيم الكلام: فرب مثلك حبلى قد طرقت، وتقديره أنه زيرُ نساء، وأنه يفسدهن ويلهيهن عن حبلهن ورضاعهن، لأن الحُبلى والمرضعة أبعد من الغزل وطلب الرجال.
والبيت الثاني في الاعتذار والاستهتار والتَّهْيام، وغير منتظم مع المعنى الذي قدمه في البيت الأول، لأن تقديره: لا تبعديني عن نفسك فإني أغلب النساء، وأخدعهن عن رأيهن، وأفسدهن بالتغازل! وكونه مفسدة لهن لا يوجب له وصلهن وترك إبعادهن إياه، بل يوجب هجره والاستخفاف به، لسخفه ودخوله كل مدخل فاحش، وركوبه كل مركب فاسد.
وفيه من الفحش والتفحش ما يستنكف الكريم من مثله ويأنف من ذكره.
وقوله:
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له * بشق وتحتي شقها لم يحول
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت * على وآلت حلفة لم تحلل
فالبيت الأول غاية في الفحش، ونهاية في السخف، وأي فائدة لذكره لعشيقته كيف كان يركب هذه القبائح، ويذهب هذه المذاهب، ويرد هذه الموارد؟ إن هذا ليبغضه [ إلى ] كل من سمع كلامه، ويوجب له المقت! وهو - لو صدق - لكان قبيحا، فكيف ويجوز أن يكون كاذبا؟
ثم ليس في البيت لفظ بديع، ولا معنى حسن.
وهذا البيت متصل بالبيت الذي قبله، من ذكر المرضع التي لها ولد محول.
فأما البيت الثاني وهو قوله: "ويوما" يتعجب منه بأنها تشددت وتعسرت عليه وحلفت عليه، فهو كلام ردئ النسج، لا فائدة لذكره لنا أن حبيبته تمنعت عليه يوما بموضع يسميه ويصفه! وأنت تجد في شعر المحدثين من هذا الجنس في التغزل ما يذوب معه اللب، وتطرب عليه النفس. وهذا مما تستنكره النفس، ويشمئز منه القلب، وليس فيه شئ من الاحسان والحسن.
وقوله:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل * وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي * وأنك مهما تأمري القلب يفعل
فالبيت الأول فيه ركاكة جدا، وتأنيث ورقة، ولكن فيها تخنيث!
ولعل قائلا [ أن ] يقول: إن كلام النساء بما يلائمهن من الطبع أوقع وأغزل؛ وليس كذلك، لأنك تجد الشعراء في الشعر المؤنث لم يعدلوا عن رصانة قولهم.
والمصراع الثاني منقطع عن الأول، لا يلائمه ولا يوافقه. وهذا يبين لك إذا عرضت معه البيت الذي تقدمه.
وكيف ينكر عليها تدللها، والمتغزل يطرب على دلال الحبيب وتدلُّلِه؟
والبيت الثاني قد عيب عليه، [184] لأنه قد أخبر أن من سبيلها أن لا تغتر بما يريها من أن حبها يقتله، وأنها تملك قلبه فما أمرته فعله، والمحب إذا أخبر عن مثل هذا صدق.
وإن كان المعنى غير هذا الذي عيب عليه، وإنما ذهب مذهبا آخر، وهو أنه أراد أن يظهر التجلد - فهذا خلاف ما أظهر من نفسه فيما تقدم من الأبيات، من الحب والبكاء على الأحبة، فقد دخل في وجه آخر من المناقضة والإحاطة في الكلام.
ثم قوله: "تأمري القلبَ يفعل" معناه تأمريني، والقلب لا يؤمر. والاستعارة في ذلك غير واقعة ولا حسنة. [185]
وقوله:
فإن كنت قد ساءتك منى خليقة * فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي * بسهميك في أعشار قلب مقتل
البيت الأول قد قيل في تأويله: إنه ذكر الثوب وأراد البدن، مثل قول الله تعالى: { وثيابك فطهر }. وقال أبو عبيدة: هذا مثل للهجر. وتنسل: تبين.
وهو بيت قليل المعنى، ركيكه ووضيعه. وكل ما أضاف إلى نفسه ووصف به نفسه سقوط وسفه وسخف، يوجب قطعه. فلم لم يحكم على نفسه بذلك، ولكن يورده مورد أن ليست له خليقة توجب هجرانه والتفصّي من وصله، وأنه مهذب الأخلاق، شريف الشمائل، فذلك يوجب أن لا ينفك من وِصاله.
والاستعارة في المصراع الثاني فيها تواضع وتقارب، وإن كان غريبة.
وأما البيت الثاني فمعدود من محاسن القصيدة وبدائعها.
ومعناه: ما بكيت إلا لتجرحي قلبا معشَّرا - أي مكسرا - من قولهم: "برمة أعشار" إذا كانت قطعا. [186] هذا تأويل ذكره الأصمعي، وهو أشبه عند أكثرهم.
وقال غيره: وهذا مثل للأعشار التي تقسم الجزور عليها. ويعني بسهميك: المُعلّى، وله سبعة أنصباء، والرقيب، وله ثلاثة أنصباء. فأراد أنك ذهبت بقلبي أجمع.
ويعني بقوله: مقتل: مذلل. [187]
وأنت تعلم أنه على ما يعني به فهو غير موافق للأبيات المتقدمة، لما فيها من التناقض الذي بينا.
ويشبه أن يكون من قال بالتأويل الثاني، فزع إليه لأنه رأى اللفظ مستكرها على المعنى الأول، لأن القائل إذا قال: "ضرب فلان بسهمه في الهدف"، بمعنى أصابه - كان كلاما ساقطا مرذولا، وهو يرى أن معنى الكلمة أن عينيها كالسهمين النافذين في إصابة قلبه المجروح، فلما بكتا وذرفتا بالدموع كانتا ضاربتين في قلبه.
ولكن من حمل على التأويل الثاني سلم من الخلل الواقع في اللفظ، ولكنه يفسد المعنى ويختل، لأنه إن كان محبا - على ما وصف به نفسه من الصبابة - فقلبه كله لها، فكيف يكون بكاؤها هو الذي يخلص قلبه لها؟
واعلم بعد هذا أن البيت غير ملائم للبيت الأول، ولا متصل به في المعنى، وهو منقطع عنه، لأنه لم يسبق كلام يقتضى بكاءها، ولا سبب يوجب ذلك، فتركيبه هذا الكلام على ما قبله فيه اختلال.
ثم لو سلم له بيت من عشرين بيتا، وكان بديعا ولا عيب فيه - فليس بعجيب، لأنه لا يُدّعى على مثله أن كلامه كله متناقض، ونظمه كله متباين.
وإنما يكفي أن نبين أن ما سبق من كلامه إلى هذا البيت، مما لا يمكن أن يقال إنه يتقدم فيه أحدا من المتأخرين، فضلا عن المتقدمين.
وإنما قدم في شعره لأبيات قد برع فيها وبان حِذقُه بها.
وإنما أنكرنا أن يكون شعره متناسبا مع الجودة، ومتشابها في صحة المعنى واللفظ، وقلنا: إنه يتصرّف بين وحشي غريب مستنكر، وعربية كالمُهمل مستكرهة، وبين كلام سليم متوسط، وبين عامي سوقي في اللفظ والمعنى، وبين حكمة حسنة، وبين سخف مستشنع. ولهذا قال الله عز اسمه: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }.
فأما قوله: وبيضةِ خِدرٍ لا يُرامُ خِباؤها * تمتعتُ من لهو بها غير مُعجَلِ
تجاوزتُ أحراسا وأهوال معشرٍ * على حِراصٍ لو يُسِرّون مقتلي [188]
فقد قالوا: عنى بذلك أنها كبيضة خِدر في صفائها ورقتها، وهذه كلمة حسنة، ولكن لم يسبق إليها؛ بل هي دائرة في أفواه العرب، وتشبيه سائر.
ويعني بقوله: "غير معجل": أنه ليس ذلك مما يتفق قليلا وأحيانا، بل يتكرر له الاستمتاع بها، وقد يحمله غيره على أنه رابط الجأش، فلا يستعجل إذا دخلها خوف حصانتها ومنعتها.
وليس في البيت كبير فائدة، لأن الذي حكى في سائر أبياته قد تضمن مطاولته في المغازلة واشتغاله بها، فتكريره في هذا البيت مثل ذلك قليل المعنى، إلا الزيادة التي ذكر من منعتها، وهو مع ذلك بيت سليم اللفظ في المصراع الأول دون الثاني.
والبيت الثاني ضعيف.
وقوله: "لو يسرون مقتلي" أراد أن يقول: لو أسروا، فإذا نقله إلى هذا ضعف ووقع في مضمار الضرورة، والاختلال على نظمه بين، حتى إن المتأخر ليَحتَرِزُ من مثله.
وقوله:
إذا ما الثريا في السماء تَعَرَّضَتْ * تعرُّض أثناء الوشاح المُفَصَّلِ
قد أنكر عليه قوم قوله: "إذا ما الثريا في السماء تعرضت"، وقالوا: الثريا لا تتعرض، حتى قال بعضهم: سمى الثريا وإنما أراد الجَوزاء، لأنها تعرض، والعرب تفعل ذلك، كما قال زهير: "كأحمر عاد" [189] وإنما هو أحمر ثمود. [190]
وقال بعضهم في تصحيح قوله: [ إنما ] تعرض أول ما تطلع [ وحين تغرب ]، كما أن الوشاح إذا طرح يلقاك بعرضه، وهو ناحيته. [191] وهذا كقول الشاعر: [192]
تعرَّضتْ لي بمجازٍ خلِّ * تعرُّض المُهرة في الطِّوَلِّ
يقول: تريك عرضها وهي في الرسن.
وقال أبو عمرو: يعني إذا أخذت الثريا في وسط السماء، كما يأخذ الوشاح وسط المرأة.
والأشبه عندنا: أن البيت غير معيب من حيث عابوه به، وأنه من محاسن هذه القصيدة، ولولا أبيات عدة فيه لقابله ما شئت من شعر غيره، ولكن لم يأت فيه بما يفوت الشأو ويستولي على الأمد:
أنت تعلم أنه ليس للمتقدمين ولا للمتأخرين في وصف شئ من النجوم مثل ما في وصف الثريا، وكل قد أبدع فيه وأحسن، فإما أن يكون قد عارضه أو زاد عليه.
فمن ذلك قول ذي الرمة:
وَرَدتُ اعتسافا والثريا كأنها * على قمة الرأس ابنُ ماء محلّق
ومن ذلك قول ابن المعتز:
وترى الثريا في السماء كأنها * بيضاتُ أُدْحيٍّ يَلُحْنَ بفَدْفدِ
وكقوله:
كأن الثريا في أواخر ليلها * تَفَتَّحُ نور أو لجامٌ مفضَّضُ
وقوله أيضا:
فناولنيها والثريا كأنها * جَنى نَرجِسٍ حَيَّى الندامى به الساقي
وقول الأشهب بن رميلة:
ولاحت لساريها الثريا كأنها * لدى الأفق الغربي فرط مسلسل
ولابن المعتز:
وقد هوى النجم والجوزاء تتبعه * كذات قرط أرادته وقد سقطا
أخذه من ابن الرومي في قوله:
طيب ريقه إذا ذقت فاه * والثريا بجانب الغرب قرط
ولابن المعتز:
قد سقاني المدام والـ * صبح بالليل مؤتزر
والثريا كنور غصـ * ن على الأرض قد نثر
وقوله:
وتروم الثريا * في السماء مراما
كانكباب طمر * كاد يلقى لجاما
ولابن الطثرية:
إذا ما الثريا في السماء كأنها * جمان وهي من سلكه فتبددا
ولو نسخت لك كل ما قالوا من البديع في وصف الثريا لطال عليك الكتاب وخرج عن الغرض، وإنما نريد أن نبين لك أن الإبداع في نحو هذا أمر قريب، وليس فيه شئ غريب.
وفي جملة ما نقلناه ما يزيد على تشبيهه في الحسن أو يساويه أو يقاربه. فقد علمت أن ما حلّق فيه، وقدر المتعصب له أنه بلغ النهاية فيه، أمر مشترك، وشريعة مورودة، وباب واسع، وطريق مسلوك. وإذا كان هذا بيت القصيدة، ودرة القلادة، وواسطة العقد وهذا محله - فكيف بما تعداه؟
ثم فيه ضرب من التكلف، لأنه قال: "إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح"، فقوله: "تعرضت": من الكلام الذي يستغنى عنه، لأنه يُشبّهُ أثناءَ الوشاحِ [ بالثريا ]، سواء كان في وسط السماء أو عند الطلوع والمغيب، فالتهويل بالتعرض والتطويل بهذه الألفاظ لا معنى له.
وفيه: أن الثريا كقطعة من الوشاح المفصل، فلا معنى لقوله "تعرض أثناء الوشاح"، وإنما أراد أن يقول: تعرض قطعة من أثناء الوشاح، فلم يستقم له اللفظ، حتى شبه ما هو كالشئ الواحد بالجمع.
وقوله:
فجئت وقد نضّت لنوم ثيابها * لدى الستر إلا لبسة المتفضل
فقالت: يمين الله ما لك حيلة * وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
انظر إلى البيت الأول والأبيات التي قبله، كيف خلط في النظم، وفرّط في التأليف! فذكر التمتع بها، وذكر الوقت والحال والحراس، ثم ذكر كيف كان صفتها لما دخل عليها ووصل إليها، من نزعها ثيابها إلا ثوبا واحد. والمُتَفَضِّلُ: الذي في ثوب واحد، وهو الفَضْل، فما كان من سبيله أن يقدمه إنما ذكره مؤخرا.
وقوله: "لدى الستر": حشو، وليس بحسن ولا بديع، وليس في البيت حُسن، ولا شئ يفضل لأجله.
وأما البيت الثاني ففيه تعليق واختلال، ذكر الأصمعي أن معنى قوله "ما لك حيلة"، أي ليست لك جهة تجئ فيها والناس أحوالي. [193]
والكلام في المصراع الثاني منقطع عن الأول، ونظمه إليه فيه ضرب من التفاوت.
وقوله:
فقمت بها أمشي تجر وراءنا * على إثرنا أذيال مِرطٍ مرجّلِ
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى * بنا بطنَ خَبْتٍ ذي حقاف عَقَنْقَلِ
البيت الأول [ يذكر من محاسنه ]: من مساعدتها إياه، حتى قامت معه ليخلوَا، وأنها كانت تجر على الإثر أذيال مرط مرجل، والمرجل: ضرب من البرود، يقال لوَشْيِه: الترجيل، وفيه تكلف. لأنه قال: "وراءنا على إثرنا"، ولو قال "على إثرنا" كان كافيا، والذيل إنما يجر وراء الماشي، فلا فائدة لذكره "وراءنا"، وتقدير القول: فقمت أمشي بها، وهذا أيضا ضرب من التكلف.
وقوله " أذيال مرط"، كان من سبيله أن يقول: ذيل مرط.
على أنه لو سلم من ذلك كان قريبا ليس مما يفوت بمثله غيره، ولا يتقدم به سواه. وقول ابن المعتز أحسن منه:
فبِتُّ أفرش خدي في الطريق له * ذُلا وأسحبُ أكمامي على الأثرِ
وأما البيت الثاني فقوله "أجزنا" بمعنى "قطعنا"، و "الخبت": بطن من الأرض، و "الحِقْف": رمل منعرج، "العقنقل": المنعقد من الرمل الداخل بعضه في بعض.
وهذا بيت متفاوت مع الأبيات المتقدمة، لأن فيها ما هو سلس قريب يشبه كلام المولدين وكلام البذلة، وهذا قد أغرب فيه وأتى بهذه اللفظة الوحشية المتعقدة، وليس في ذكرها والتفضيل بإلحاقها بكلامه فائدة.
والكلام الغريب واللفظة الشديدة المباينة لنسج الكلام قد تُحمد إذا وقعت موقع الحاجة في وصف ما يلائمها، كقوله عز وجل في وصف يوم القيامة: { يوما عبوسا قمطريرا }. فأما إذا وقعت في غير هذا الموقع، فهي مكروهة مذمومة، بحسب ما تحمد في موضعها.
وروي أن جريرا أنشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته:
بان الخليط برامتين فودعوا * أوَكلما جدوا لبين تجزعُ؟
كيف العزاء ولم أجد مذ بِنْتُمُ * قلبا يقر ولا شرابا ينقعُ
قال: وكان يزحف من حسن هذا الشعر، حتى بلغ قوله:
وتقول بوزع: قد دببت على العصا * هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
فقال: أفسدت شعرك بهذا الاسم.
وأما قوله:
هصرت بغصنيْ دوحة فتمايلت * على هضيم الكشح ريَّا المخلخل
مهفهفة بيضاء غير مفاضة * ترائبها مصقولة كالسجنجل
فمعنى قوله "هَصَرتُ": جذبت وثنيت.
وقوله "بغصني دوحة"، تعسف، ولم يكن من سبيله أن يجعلهما اثنين.
والمصراع الثاني أصح، وليس فيه شئ إلا ما يتكرر على ألسنة الناس من هاتين الصفتين. وأنت تجد ذلك في وصف كل شاعر، ولكنه - مع تكرره على الألسن - صالح.
وأما معنى قوله "مُهَفهَفة": أنها مخففة ليست مثقلة.
و "الُمفاضة": التي اضطرب طولها.
والبيت - مع مخالفته في الطبع الأبيات المتقدمة، ونزوعه فيه إلى الألفاظ المستكرهة، وما فيه من الخلل، من تخصيص الترائب بالضوء، بعد ذكر جميعها بالبياض - فليس بطائل، ولكنه قريب متوسط.
وقوله:
تَصُدُّ وتُبدي عن أسِيلٍ وتتقي * بناظرة من وحش وَجْرَةَ مُطْفَل
وَجِيدٍ كجيد الريم ليس بفاحش * إذا هي نَصَّته ولا بمُعَطَّلِ
معنى قوله "عن أسيل": أي بأسيل، وإنما يريد خدا ليس بكَزٍّ.
وقوله: "تتقي" يقال: اتقاه بحقه أي جعله بينه وبينه.
وقوله: "تصد وتبدي عن أسيل": متفاوت، لأن الكشف عن الوجه مع الوصل دون الصد.
وقوله: "تتقى بناظرة ": لفظة مليحة، ولكن أضافها إلى ما نظم به كلامه، وهو مختل، وهو قوله: "من وحش وجرة"! وكان يجب أن تكون العبارة بخلاف هذا، كان من سبيله أن يضيف إلى عيون الظباء أو المها دون إطلاق الوحش، ففيهن ما تستنكر عيونها.
وقوله: "مُطفل" فسروه على أنها ليست بصبية، وأنها قد استحكمت، وهذا اعتذار متعسف. وقوله "مطفل": زيادة لا فائدة فيها على هذا التفسير الذي ذكره الأصمعي. ولكن قد يحتمل عندي أن يفيد غير هذه الفائدة، فيقال: إنها إذا كانت مطفلا لحظتْ أطفالها بعين رقة، ففي نظر هذه رقة نظر المودة، ويقع الكلام معلقا تعليقا متوسطا.
وأما البيت الثاني فمعنى قوله: "ليس بفاحش": أي ليس بفاحش الطول. ومعنى قوله: "نصته": رفعته. ومعنى قوله: "ليس بفاحش" - في مدح الاعناق - كلام فاحش موضوع منه! وإذا نظرتَ في أشعار العرب رأيت في وصف الأعناق ما يشبه السحر، فكيف وقع على هذه الكلمة، ودُفع إلى هذه اللفظة؟ وهلا قال كقول أبي نواس:
مثل الظباء سَمَتْ إلى * رَوضٍ صَوادِرَ عن غَديرِ
ولست أطول عليك فتسثقل، ولا أكثر القول في ذمه فتستوحش. وأكِلُك الآن إلى جملة من القول، فإن كنت من أهل الصنعة، فطنت وأكتفيت وعرفت ما رمينا إليه واستغنيت.
وإن كنت عن الطبقة خارجا وعن الاتقان بهذا الشأن خاليا، فلا يكفيك البيان، وإن استقرينا جميع شعره، وتتبعنا عامة ألفاظه، ودللنا على ما في كل حرف منه.
اعلم أن هذه القصيدة قد ترددت بين أبيات سوقية مبتذلة، وأبيات متوسطة، وأبيات ضعيفة مرذولة، وأبيات وحشية غامضة مستكرهة، وأبيات معدودة بديعة.
وقد دللنا على المبتذل منها، ولا يشتبه عليك الوحشي المستنكر الذي يروع السمع ويهول القلب ويكد اللسان، ويعبس معناه في وجه كل خاطر، ويكفهر مطلعه على كل متأمل أو ناظر، ولا يقع بمثله التمدح والتفاصح. وهو مجانب لما وضع له أصل الإفهام، ومخالف لما بنى عليه التفاهم بالكلام. فيجب أن يسقط عن الغرض المقصود، ويلحق باللغز والإشارات المستبهمة.
فأما الذي زعموا أنه من بديع الشعر، فهو قوله:
ويُضْحي فتيتُ المسك فوق فراشها * نَؤوم الضحى لم تَنتَطِق عن تَفَضُّلِ
والمصراع الأخير عندهم بديع، ومعنى ذلك: أنها مترفة متنعمة، لها من يكفيها.
ومعنى قوله: "لم تنتطق عن تفضل"، يقول: لم تنتطق وهي فضل [194] و "عن" هي بمعنى "بعد". قال أبو عبيدة: لم تنتطق فتعمل، ولكنها تَتَفَضَّل.
ومما يعدونه من محاسنها:
وليل كموج البحر أرخى سُدوله * علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطّى بصُلْبه * وأردف أعجازا وناءَ بكَلكَل:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ * بصبحٍ، وما الإصباح فيك بأمثل
وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة:
كِلِينى لهم يا أميمة ناصِبِ * وليلٍ أقاسيه بطئ الكواكبِ
وصَدرٍ أراح الليل عازِبَ هَمّه * تضاعف فيه الحزنُ من كل جانبِ
تقاعسَ حتى قلتُ ليس بمنقضٍ * وليس الذي يتلو النجوم بآيبِ
وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء، فقدمت أبيات امرئ القيس، واستحسنت استعارتها، وقد جعل لليل صدرا يثقل تنحيه، ويبطئ تقضيه، وجعل له أردافا كثيرة، وجعل له صلبا يمتد ويتطاول، ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكرة، ورأوا أن الألفاظ جميلة.
واعلم أن هذا صالح جميل، وليس من الباب الذي يقال: إنه متناه عجيب، وفيه إلمام بالتكلف، ودخول في التعمُّل.
وقد خرجوا له في البديع من القصيدة قوله:
وقد أغتدي والطير في وكناتها * بمنجردٍ قيدِ الأوابدِ هيكلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبل مُدبر معا * كجُلمودِ صخرٍ حطَّه السبلُ مِن علِ
وقوله أيضا:
له أيْطَلا ظبيٍ وساقا نَعامة * وإرخاء سِرحانٍ وتقريبُ تَتْفُلِ
فأما قوله " قيد الأوابد"، فهو مليح، ومثله في كلام الشعراء وأهل الفصاحة كثير، والتعمل بمثله ممكن.
وأهل زماننا الآن يصنفون نحو هذا تصنيفا، ويؤلفون المحاسن تأليفا، يوشحون به كلامهم.
والذين كانوا من قبل - لغزارتهم وتمكنهم - لم يكونوا يتصنعون لذلك، وإنما كان يتفق لهم اتفاقا، ويطرد في كلامهم اطرادا.
وأما قوله في وصفه: "مكر مفر"، فقد جمع فيه طِباقا وتشبيها. وفي سرعة جرى الفرس للشعراء ما هو أحسن من هذا وألطف.
وكذلك في جمعه بين أربعة وجوه من التشبيه في بيت واحد - صنعة. ولكن قد عورض فيه وزوحم [ عليه ]، والتوصل إليه يسير وتطلبه سهل قريب.
وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتا بينا في الجودة والرداءة، والسلاسة والانعقاد، والسلامة والانحلال، والتمكن [ والاستصعاب ] والتسهل والاسترسال، والتوحش والاستكراه؛ وله شركاء في نظائرها، ومنازعون في محاسنها، ومعارضون في بدائعها. ولا سواءٌ كلامٌ ينحت من الصخر تارة، ويذوب تارة، ويتلون تلون الحرباء، ويختلف اختلاف الاهواء، ويكثر في تصرفه اضطرابه، وتتفاذف به أسبابه، وبين قول يجري في سبكه على نظام، وفى رصفه على منهاج، وفى وضعه على حد، وفى صفائه على باب، وفي بهجته ورونقه على طريق، مختلفه مؤتلف، ومؤتلفه متحد، ومتباعده متقارب، وشارده مطيع، ومطيعه شارد. وهو على متصرفاته واحد، لا يستصعب في حال، ولا يتعقد في شأن.
وكنا أردنا أن نتصرف في قصائد مشهورة، فنتكلم عليها، وندل على معانيها ومحاسنها، ونذكر لك من فضائلها ونقائصها، ونبسط لك القول في هذا الجنس، ونفتح عليك في هذا النهج.
ثم رأينا هذا خارجا عن غرض كتابنا، والكلام فيه يتصل بنقد الشعر وعياره، ووزنه بميزانه ومعياره، ولذلك كتب وإن لم تكن مستوفاة، وتصانيف وإن لم تكن مستقصاة.
وهذا القدر يكفي في كتابنا، ولم نحب أن ننسخ لك ما سطره الأدباء في خطأ امرئ القيس في العروض والنحو والمعاني، وما عابوه عليه في أشعاره، وتكلموا به على ديوانه. لان ذلك أيضا خارج عن غرض كتابنا، ومجانب لمقصوده.
وإنما أردنا أن نبين الجملة التي بيناها، لتعرف أن طريقة الشعر شريعة مورودة، ومنزلة مشهودة، يأخذ منها أصحابها على مقادير أسبابهم، ويتناول منها ذووها على حسب أحوالهم.
وأنت تجد للمتقدم معنى قد طمسه المتأخر بما أبر عليه فيه، وتجد للمتأخر معنى قد أغفله المتقدم، وتجد معنى قد توافدا عليه، وتوافيا إليه، فهما فيه شريكا عنان، وكأنهما فيه رضيعا لبان، والله يؤتى فضله من يشاء.
فأما نهج القرآن ونظمه، وتأليفه ورصفه، فإن العقول تتيه في جهته، وتحار في بحره، وتضل دون وصفه.
ونحن نذكر لك في تفصيل هذا ما تستدل به على الغرض، وتستولي به على الأمد، وتصل به إلى المقصد، وتتصور إعجازه كما تتصور الشمس، وتتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن الفجر، وأقرب عليك الغامض، وأسهل لك العسير.
واعلم أن هذا علم شريف المحل، عظيم المكان، قليل الطلاب، ضعيف الأصحاب، ليست له عشيرة تحميه، ولا أهل عصمة تفطن لما فيه. وهو أدق من السحر، وأهول من البحر، وأعجب من الشعر.
وكيف لا يكون كذلك: وأنت تحسب أن وضع "الصبح" في موضع "الفجر" يحسن في كل كلام إلا أن يكون شعرا أو سجعا؛ وليس كذلك، فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في موضع، وتزل عن مكان لا تزل عنه اللفظة الاخرى، بل تتمكن فيه، وتضرب بجرانها، وتراها في مظانها، وتجدها فيه غير منازعة إلى أوطانها، وتجد الاخرى - لو وضعت موضعها - في محل نفار، ومرمى شراد، ونابية عن استقرار.
ولا أكثر عليك المثال، ولا أضرب لك فيه الأمثال، وأرجع بك إلى ما وعدتك من الدلالة، وضمنت لك من تقريب المقالة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)