فإن كنت لا تعرف الفصل الذي بينا بين اللفظتين على اختلاف مواقع الكلام، ومتصرفات مجاري النظام، لم تستفد مما نقر به عليك شيئا، وكان التقليد أولى بك، والاتباع أوجب عليك. ولكل شئ سبب، ولكل علم طريق، ولا سبيل إلى الوصول إلى الشئ من غير طريقه، ولا بلوغ غايته من غير سبيله.
خذ الآن - هداك الله - في تفريغ الفكر، وتخلية البال، وانظر فيما نعرض عليك، ونهديه إليك، متوكلا على الله، ومعتصما به، ومستعيذا به، من الشيطان الرجيم، حتى تقف على إعجاز القرآن العظيم.
سماه الله عز ذكره "حكيما" و "عظيما" و "مجيدا".
وقال: { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد }.
وقال: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون }.
وقال: { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى، بل لله الأمر جميعا }.
وقال: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }.
وأخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين القزويني، حدثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن عثمان، حدثنا أبو يوسف الصيدلاني، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري الطائي، عن الحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله، إن أمتك ستفتتن من بعدك، فسأل أو سئل: ما المخرج من ذلك؟ فقال: "بكتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد؛ من ابتغى العلم في غيره أضله الله، ومن وَلِيَ هذا من جبار فحكم بغيره قصمه الله، وهو الذكر الحكيم، والنور المبين، والصراط المستقيم. فيه خبر من قبلكم، وتبيان من بعدكم، وهو فصل، ليس بالهزل. وهو الذي { لما } سمعته الجن قالوا: { إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به } لا يخلق على طول الرد، ولا تنقضي عبره، ولا تفنى عجائبه.
وأخبرني أحمد بن علي بن الحسن، أخبرنا أبي، أخبرنا بشر بن عبد الوهاب، أخبرنا هشام بن عبيد الله، حدثنا المسيب بن شريك، عن عُبيدة، [195] عن أسامة بن أبي عطاء، قال: أرسل النبي إلى علي رضي الله عنه في ليلة، فذكر نحو ذلك في المعنى، وفى بعض ألفاظه اختلاف.
وأخبرنا أحمد بن علي بن الحسن، أخبرنا أبي، أخبرنا بشر بن عبد الوهاب، أخبرنا هشام بن عبيد الله، حدثنا المسيب بن شريك، عن بشر بن نمير، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله : "من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة، ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة، ومن قرأ القرآن كله أعطي النبوة كلها غير أنه لا يوحى إليه". وذكر الحديث. [196]
ولو لم يكن من عظم شأنه إلا أنه طبق الأرض أنواره، وجلل الآفاق ضياؤه، ونفذ في العالم حكمه، وقبل في الدنيا رسمه، وطمس ظلام الكفر بعد أن كان مضروب الرواق، ممدود الأطناب، مبسوط الباع، مرفوع العماد؛ ليس على الأرض من يعرف الله حق معرفته، أو يعبده حق عبادته، أو يدين بعظمته، أو يعلم علو جلالته، أو يتفكر في حكمته. فكان كما وصفه الله تعالى جل ذكره، من أنه نور، فقال: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } فانظر إن شئت إلى شريف هذا النظم، وبديع هذا التأليف، وعظيم هذا الرصف، كل كلمة من هذه الآية تامة، وكل لفظ بديع واقع.
قوله: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا }: يدل على صدوره من الربوبية، ويبين عن وروده عن الإلهية. وهذه الكلمة بمنفردها وأخواتها كل واحدة منها لو وقعت بين كلام كثير تميز عن جميعه، وكان واسطة عقده، وفاتحة عقده، وغرة شهره، وعين دهره.
وكذلك قوله: { ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا }، فجعله روحا، لأنه يحيي، الخلق، فله فضل الأرواح في الأجساد، وجعله نورا لأنه يضئ ضياء الشمس في الآفاق. ثم أضاف وقوع الهداية به إلى مشيئته، ووقف وقوع الاسترشاد به على إرادته، وبين أنه لم يكن ليهتدي إليه لولا توفيقه، ولم يكن ليعلم ما في الكتاب ولا الايمان لولا تعليمه، وأنه لم يكن ليهتدي - فكيف كان يهدي - لولاه، فقد صار يهدي ولم يكن من قبل ذلك ليهتدي، فقال: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، ألا إلى الله تصير الأمور }.
فانظر إلى هذه الكلمات الثلاث: فالكلمتان الأوليان مؤتلفتان، وقوله: { ألا إلى الله تصير الأمور } كلمة منفصلة مباينة للأولى، قد صيرهما شريف النظم أشد ائتلافا من الكلام المؤالف، وألطف انتظاما من الحديث الملائم.
وبهذا يبين فضل الكلام، وتظهر فصاحته وبلاغته.
الأمر أظهر - والحمد لله - والحال أبين من أن يحتاج إلى كشف.
تأمل قوله: { فالق الاصباح، وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا، ذلك تقدير العزيز العليم }.
انظر إلى هذه الكلمات الاربع التي ألف بينها، واحتج بها على ظهور قدرته ونفاذ أمره، أليس كل كلمة منها في نفسها غرة؟ وبمنفردها درة؟ وهو مع ذلك يبين أنه يصدر من علو الأمر، ونفاذ القهر، ويتجلى في بهجة القدرة، ويتحلى بخالصة العزة، ويجمع السلاسة إلى الرصانة، والسلامة إلى المتانة، والرونق الصافى، والبهاء الضافي.
ولست أقول: إنه شمل الإطباق المليح، والإيجاز اللطيف، والتعديل والتمثيل، والتقريب والتشكيل - وإن كان قد جمع ذلك وأكثر منه - لأن العجيب ما بينا من انفراد كل كلمة بنفسها، حتى تصلح أن تكون عين رسالة أو خطبة، أو وجه قصيدة أو فقرة. فإذا أُلِّفَت ازدادت [ به ] حسنا [ وإحسانا ]، وزادتك - إذا تأملت - معرفة وإيمانا.
ثم تأمل قوله: { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون. والشمس تجري لمستقر لها، ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم } هل تجد كل لفظة وهل تعلم كل كلمة تستقل بالاشتمال على نهاية البديع وتتضمن شرط القول البليغ؟ فإذا كانت الآية تنتظم من البديع، وتتألف من البلاغات، فكيف لا تفوت حد المعهود، ولا تجوز شأو المألوف؟ وكيف لا تحوز قصب السبق، ولا تتعالى عن كلام الخلق؟
ثم اقصد إلى سورة تامة، فتصرَّف في معرفة قصصها، وراع ما فيها من براهينها وقصصها.
تأمل السورة التي يذكر فيها النمل، وانظر في كلمة كلمة، وفصل فصل.
بدأ بذكر السورة، إلى أن بين أن القرآن من عنده، فقال: { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم }. ثم وصل بذلك قصة موسى عليه السلام، وأنه رأى نارا، { فقال لأهله: امكثوا إني آنست نارا، سأتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون }.
وقال في سورة طه في هذه القصة: { لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى }. وفي موضع: { لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون }.
قد تصرف في وجوه، وأتى بذكر القصة على ضروب، ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق ذلك. ولهذا قال: { فليأتوا بحديث مثله }. ليكون أبلغ في تعجيزهم، وأظهر للحجة عليهم.
وكل كلمة من هذه الكلمات، وإن أنبأت عن قصة، فهي بليغة بنفسها، تامة في معناها.
ثم قال: { فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها، وسبحان الله رب العالمين } فانظر إلى ما أجرى له الكلام، من علو أمر هذا النداء، وعظم شأن هذا الثناء، وكيف انتظم مع الكلام الأول، وكيف اتصل بتلك المقدمة، وكيف وصل بها ما بعدها من الإخبار عن الربوبية، وما دل به عليها من قلب العصا حية، وجعلها دليلا يدله عليه، ومعجزة تهديه إليه؟
وانظر إلى الكلمات المفردة القائمة بأنفسها في الحسن، وفيما تتضمنه من المعاني الشريفة، ثم ما شفع به هذه الآية، وقرن به هذه الدلالة: من اليد البيضاء - عن نور البرهان - من غير سوء.
ثم انظر في آية آية، وكلمة كلمة: هل تجدها كما وصفنا من عجيب النظم وبديع الرصف؟ فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غاية، وفى الدلالة آية، فكيف إذا قارنتها أخواتها، وضامتها ذواتها: [ مما ] تجري في الحسن مجراها، وتأخذ في معناها؟
ثم من قصة إلى قصة، ومن باب إلى باب، من غير خلل يقع في نظم الفصل إلى الفصل، وحتى يصور لك الفصل وصلا، ببديع التأليف، وبليغ التنزيل.
وإن أردت أن تتبين ما قلناه فضلَ تبينٍ، وتتحقق بما ادعيناه زيادة تحقق - فإن كنت من أهل الصنعة فاعمد إلى قصة من هذه القصص، وحديث من هذه الأحاديث، فعبر عنه بعبارة من جهتك، وأخبر عنه بألفاظ من عندك، حتى ترى فيما جئت به النقص الظاهر، وتتبين في نظم القرآن الدليل الباهر.
ولذلك أعاد قصة موسى في سور، وعلى طرق شتى، وفواصل مختلفة، مع اتفاق المعنى.
فلعلك ترجع إلى عقلك، وتستر ما عندك، إن غلطت في أمرك، أو ذهبت في مذاهب وهمك، أو سلطت على نفسك وجه ظنك.
متى تهيأ لبليغ أن يتصرف في قدر آية في أشياء مختلفة، فيجعلها مؤتلفة، من غير أن يبين على كلامه إعياء الخروج والتنقل، أو يظهر على خطابه آثار التكلف والتعمل؟
وأحسِبُ أنه لا يسلم من هذا - ومحال أن يسلم منه - متى يظفر بمثل تلك الكلمات الأفراد، والألفاظ الأعلام، حتى يجمع بينها، فيجلو فيها فقرة من كلامه، وقطعة من قوله. ولو اتفق له في أحرف معدودة، وأسطر قليلة، فمتى يتفق له في قدر ما نقول: إنه من القرآن معجر؟
هيهات هيهات! إن الصبح يطمس النجوم وإن كانت زاهرة، والبحر يغمر الأنهار وإن كانت زاخرة.
متى تهيأ للآدمي أن يقول في وصف كتاب سليمان عليه السلام، بعد ذكر العنوان والتسمية، هذه الكلمة الشريفة العالية: { ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين }. والخلوص من ذلك إلى ما صارت إليه من التدبير، واشتغلت به من المشورة، ومن تعظيمها أمر المستشار، ومن تعظيمهم أمرها وطاعتها، بتلك الألفاظ البديعة، والكلمات العجيبة البليغة.
ثم كلامها بعد ذلك، [ ألا ] تعلم تمكن قولها: { يا أيها الملا أفتوني في أمري، ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون }.
وذكر قولهم: { قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين }، لا تجد في صفتهم أنفسهم أبرع مما وصفهم به.
وقوله: { والأمر إليك }، تعلم براعته بنفسه، وعجيب معناه، وموضع اتفاقه في هذا الكلام، وتمكن الفاصلة، وملاءمته لما قبله، وذلك قوله: { فانظري ماذا تأمرين }.
ثم إلى هذا الاختصار، وإلى البيان مع الإيجاز. فإن الكلام قد يفسده الاختصار، ويعميه التخفيف منه والإيجاز، وهذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه ووقوعه، ويتضمن الإيجاز منه تصرفا يتجاوز محله وموضعه.
وكم جئت إلى كلام مبسوط يضيق عن الإفهام، ووقعت على حديث طويل يقصر عما يراد به من التمام، ثم لو وقع على الإفهام [ والتمام، أخل بما ] يجب فيه من شروط الاحكام، أو بمعاني القصة وما تقتضي من الإعظام.
ثم لو ظفرت بذلك كله، رأيته ناقصا في وجه الحكمة، أو مدخولا في باب السياسة، أو مضعوفا في طريق السيادة، أو مشترك العبارات إن كان مستجود المعنى، [ أو مستجود العبارة مشترك المعنى ]، أو جيد البلاغة مستجلب المعنى، أو مستجلب البلاغة جيد المعنى، أو مستنكر اللفظ وحشي العبارة، أو مستبهم الجانب مستكره الوضع.
وأنت لا تجد في جميع ما تلونا عليك إلا ما إذا بسط أفاد، وإذا اختصر كمل في بابه وجاد، وإذا سرح الحكيم في جوانبه طرف خاطره، وبعث العليم في أطرافه عيون مباحثه، لم يقع إلا على محاسن تتوالى، وبدائع تَترَى. [197]
ثم فكر بعد ذلك في آية آية، أو كلمة كلمة، في قوله: { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون }. هذه الكلمات الثلاث، كل واحدة منها كالنجم في علوه ونوره، وكالياقوت يتلألأ بين شذوره. ثم تأمل تمكن الفاصلة - وهي الكلمة الثالثة - وحسن موقعها، وعجيب حكمتها، وبارع معناها.
وإن شرحت لك ما في كل آية طال عليك الأمر، ولكني قد بينت بما فسرت، وقررت بما فصلت - الوجه الذي سلكت، والنحو الذي قصدت، والغرض الذي إليه رميت، والسمت الذي إليه دعوت.
ثم فكر بعد ذلك في شئ أدلك عليه: وهو تعادل هذا النظم في الإعجاز، في مواقع الآيات القصيرة، والطويلة، والمتوسطة.
فأجِلِ الرأي في سورة سورة، وآية آية، وفاصلة فاصلة، وتدبّر الخواتم، والفواتح، والبوادي والمقاطع، ومواضع الفصل والوصل، ومواضع التنقل والتحول، ثم اقضِ ما أنت قاض.
وإن طال عليك تأمل الجميع، فاقتصر على سورة واحدة، أو على بعض سورة.
ما رأيك في قوله: { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا، يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين }؟
هذه تشتمل على ست كلمات، سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف.
وهي تشتمل على جملة وتفصيل، [ وجامعة ] وتفسير: ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء، وإذا تحكم في هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما؟ لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تَقَرُّ على هذا الجور.
ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد، وكفت في التظليم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجُزه على صدره.
ثم ذكر وعده تخليصهم بقوله: { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين }. وهذا من التأليف بين المؤتلف، والجمع بين المستأنس.
كما أن قوله: { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين }.
وهي خمس كلمات، متباعدة في المواقع، نائية المطارح، قد جعلها النظم البديع أشد تألفا من الشئ المؤتلف في الاصل، وأحسن توافقا من المتطابق في أول الوضع.
ومثل هذه الآية قوله: { وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون }.
ومثلها: { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها، فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا، وكنا نحن الوارثين }.
ومن المؤتلف قوله: { فخسفنا به وبداره الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين }.
وهذه ثلاث كلمات، كل كلمة منها أعز من الكِبريت الاحمر.
ومن الباب الآخر قوله تعالى: { ولا تدع مع الله إلها آخر، لا إله إلا هو، كل شئ هالك إلا وجهه، له الحكم، وإليه ترجعون }.
كل سورة من هذه السور تتضمن من القصص ما لو تكلفت العبارة عنها بأضعاف كلماتها، لم تستوف ما استوفته. ثم تجد فيما تنظم ثقل النظم، ونفور الطبع، وشراد الكلام، وتهافت القول، وتمنع جانبه، وقصورك في الإيضاح عن واجبه. ثم لا تقدر على أن تنتقل من قصة إلى قصة، وفصل إلى فصل، حتى تتبتر عليك مواضع الوصل، وتستصعب عليك أماكن الفصل، ثم لا يمكنك أن تصل بالقصص مواعظ زاجرة، وأمثالا سائرة وحكما جليلة، وأدلة على التوحيد بينة، وكلمات في التنزية والتحميد شريفة.
وإن أردت أن تتحقق ما وصفت لك، فتأمل شعر من شئت من الشعراء المُفلِقين، هل تجد كلامه في المديح والغزل والفخر والهجو يجرى مجرى كلامه في ذكر القصص؟ إنك لتراه إذا جاء إلى وصف وقعة أو نقل خبر، عامي الكلام، سوقي الخطاب، مسترسلا في أمره، متساهلا في كلامه، عادلا عن المألوف من طبعه، وناكبا عن المعهود في سجيته. فإن اتفق له في قصة كلام جيد، كان قدر ثنتين أو ثلاثة، وكان ما زاد عليها حشوا، وما تجاوزها لغوا. ولا أقول: إنها تخرج من عادته عفوا، لأنه يقصر عن العفو، ويقف دون العرف، ويتعرض للركاكة.
فإن لم تقنع بما قلت لك من الآيات، فتأمل غير ذلك من السور، هل تجد الجميع على ما وصفت لك؟
لو لم تكن إلا سورة واحدة لكفت في الإعجاز، فكيف بالقرآن العظيم؟ ولو لم يكن إلا حديث من سورة لكفى وأقنع وشفى.
ولو عرفت قدر قصة موسى وحدها من سورة الشعراء، لما طلبت بينة سواها.
بل قصة من قصصه، وهي قوله: { وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون } إلى قوله: { فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم. كذلك وأورثناها بني إسرائيل، فأتبعوهم مشرقين } حتى قال: { فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم }.
ثم قصة إبراهيم عليه السلام.
ثم لم تكن إلا الآيات التي انتهى إليها القول في ذكر القرآن، وهي قوله: { وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الامين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين }.
وهذه كلمات مفردة بفواصلها، منها ما يتضمن فاتحة وفاصلة، ومنها ما هي فاتحة وواسطة وفاصلة، ومنها كلمة بفاصلتها تامة.
دل على أنه نزله على قلبه ليكون نذيرا، وبين أنه آية لكونه نبيا، ثم وصل بذلك كيفية النذارة فقال: { وأنذر عشيرتك الأقربين، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين }.
فتأمل آية آية، لتعرف الإعجاز، وتتبين التصرف البديع، والتنقل في الفصول إلى آخر السورة.
ثم راع المقطع العجيب، وهو قوله: { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }.
هل يُحسِن [ أحدٌ ] أن يأتي بمثل هذا الوعيد، وأن ينظم مثل هذا النظم، وأن يجد مثل هذه النظائر السابقة، ويصادف مثل هذه الكلمات المتقدمة؟ ولولا كراهة الإملال، لجئت إلى كل فصل، فاستقريت على الترتيب كلماته، وبينت لك ما في كل واحدة منها من البراعة وعجيب البلاغة.
ولعلك تستدل بما قلنا على ما بعده، وتستضئ بنوره، وتهتدي بهداه.
ونحن نذكر آيات أخر، لتزداد استبصارا، وتتيقن تيقنا: تأمل من الكلام المؤتلف قوله: { حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو، إليه المصير }.
أنت قد تدربت الآن بحفظ أسماء الله تعالى وصفاته، فانظر متى وجدت في كلام البشر وخطبهم مثل هذا النظم في هذا القدر، وما يجمع ما تجمع هذه الآية من شريف المعاني وحسن الفاتحة والخاتمة.
ثم اتل ما بعدها من الآي، واعرف وجه الخلوص من شئ إلى شئ: من احتجاج إلى وعيد، ومن إعذار إلى إنذار، ومن فنون من الأمر شتى، مختلفة تأتلف بشريف النظم، ومتباعدة تتقارب بعلى الضم.
ثم جاء إلى قوله: { كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فأخذتهم فكيف كان عقاب، وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار }.
الآية الأولى أربعة فصول، والثانية فصلان.
وجه الوقوف على شرف الكلام أن تتأمل موقع قوله: { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } وهل تقع في الحسن موقع قوله: "ليأخذوه" كلمة، وهل تقوم مقامه في الجزالة لفظة، وهل يسد مسده في الاصالة نكتة، لو وضع موضع ذلك "ليقتلوه"، أو "ليرجموه"، أو "لينفوه"، أو "ليطردوه" أو "ليهلكوه"، أو "ليذلوه"، ونحو هذا؟ ما كان ذلك بديعا ولا بارعا، ولا عجيبا ولا بالغا.
فانقد موضع هذه الكلمة، وتعلم بها ما تذهب إليه من تخير الكلام، [ وانتقاء ] الألفاظ، والاهتداء للمعاني.
فإن كنت تقدر أن شيئا من هذه الكلمات التي عددناها عليك أو غيرها، [ يقوم مقام هذه اللفظة، لم تقف ] على غرضنا من هذا الكتاب، فلا سبيل لك إلى الوقوف على تصاريف الخطاب، فافزع إلى التقليد، واكفِ نفسك مؤونة التفكير.
وإن فطنت، فانظر إلى ما قال من رد عجز الخطاب إلى صدره، بقوله: { فأخذتهم، فكيف كان عقاب } ثم ذكر عقيبها العذاب في الآخرة، وأتلاها تلو العذاب في الدنيا، على الاحكام الذي رأيت.
ثم ذكر المؤمنين بالقرآن، بعد ذكر المكذبين بالآيات والرسل، فقال: { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به } إلى أن ذكر ثلاث آيات.
وهذا كلام مفصول، تعلم عجيب اتصاله بما سبق ومضى، وانتسابه إلى ما تقدم وانقضى، وعظم موقعه في معناه، ورفيع ما يتضمن من تحميدهم وتسبيحهم، وحكاية كيفية دعاء الملائكة بقوله: { ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما }.
هل تعرفُ شرف هذه الكلمة لفظا ومعنى، ولطيف هذه الحكاية، وتلاؤم هذا الكلام، وتشاكل هذا النظام؟ فكيف يهتدي إلى وضع هذه المعاني بشري، وإلى تركيب ما يلائمها من الألفاظ إنسي؟
ثم ذكر ثلاث آيات في أمر الكافرين على ما ترى.
ثم نبه على أمر القرآن، وأنه من آياته، بقوله: { هو الذي يريكم آياته، وينزل لكم من السماء رزقا، وما يتذكر إلا من ينيب }.
وإنما ذكر هذين الأمرين اللذين يختص بالقدرة عليهما، لتناسبهما في أنهما من تنزيله من السماء، ولان الرزاق الذي لو لم يرزق لم يمكن بقاء النفس، تجب طاعته والنظر في آياته.
ثم قال: { فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، رفيع الدرجات ذو العرش، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ، لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار }.
قف على هذه الدلالة، وفكر فيها، وراجع نفسك في مراعاة معاني هذه الصفات العالية، والكلمات السامية، والحكم البالغة، والمعاني الشريفة: تَعلَمْ ورودها عن الإلهية، ودلالتها على الربوبية، وتتحقق أن الخطب المنقولة عنهم، والأخبار المأثورة في كلماتهم الفصيحة، من الكلام الذي تعلق به الهمم البشرية، وما تحوم عليه الافكار الآدمية، وتعرف مباينتها لهذا الضرب من القول.
أي خاطر يتشوف إلى أن يقول: { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده، لينذر يوم التلاق، يوم هم بارزون }؟ وأي لفظ يدرك هذا المضمار؟ وأي حكيم يهتدي إلى ما لهذا من الغور؟ وأي فصيح يهتدى إلى هذا النظم؟
ثم استقرئ الآية إلى آخرها، واعتبر كلماتها، وراع بعدها قوله: { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم، إن الله سريع الحساب }.
من يقدر على تأليف هذه الكلمات الثلاث، على قربها، وعلى خفتها في النظم وموقعها من القلب؟
ثم تأمل قوله: { وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والله يقضي بالحق، والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ، إن الله هو السميع البصير }.
كل كلمة من ذلك على ما قد وصفتُها: من أنه إذا رآها الإنسان في رسالة كانت عينها، أو في خطبة كانت وجهها أو قصيدة كانت غرة غرتها، وبيت قصيدتها، كالياقوتة التي تكون فريدة العقد، وعين القلادة، ودرة الشذر، إذا وقع بين كلام وَشَّحَه، وإذا ضُمِّن في نظام زينّه، وإذا اعترض في خطاب تميز عنه، وبان بحسنه منه.
ولست أقول هذا لك في آية، دون آية، وسورة دون سورة، وفصل دون فصل، وقصة دون قصة، ومعنى دون معنى، لأني قد شرحت لك أن الكلام في حكاية القصص والأخبار، وفي الشرائع والاحكام، وفي الديانة والتوحيد، وفي الحجج والتثبيت، هو خلاف الكلام فيما عدا هذه الأمور.
ألا ترى أن الشاعر المفلق إذا جاء إلى الزهد قصَّر، والأديب إذا تكلم في بيان الأحكام وذكر الحلال والحرام لم يكن كلامه على حسب كلامه في غيره.
ونظم القرآن لا يتفاوت في شئ، ولا يتباين في أمر، ولا يختل في حال، بل له المثل الاعلى، والفضل الأسنى.
وفيما شرحناه لك كفاية، وفيما بيناه بلاغ.
ونذكر في الأحكاميات وغيرها آيات أخر:
منها قوله: { يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب }.
أنت تجد في هذه الآية من الحكمة والتصرف العجيب، والنظم البارع [ الغريب ]، ما يدلك - إن شئت - على الإعجاز، مع هذا الاختيار والإيجاز، فكيف إذا بلغ ذلك آيات، أو كانت سورة.
ونحو هذه الآية قوله: { الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون }.
وكالآية التي بعدها في التوحيد وإثبات النبوة، وكالآيات الثلاث في المواريث.
أي بارع يقدر على جمع أحكام الفرائض في قدرها من الكلام؟ ثم كيف يقدر على ما فيها من بديع النظم؟
وإن جئت إلى آيات الاحتجاج، كقوله تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون، لا يسئل عما يفعل وهم يسألون }.
وكالآيات في التوحيد، كقوله: { هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين، الحمد لله رب العالمين }.
وكقوله: { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا. الذي له ملك السموات والأرض، ولم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شئ فقدره تقديرا }.
وكقوله: { تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير }، إلى آخرها.
وكقوله: { والصافات صفا، فالزاجرات زجرا، فالتاليات ذكرا، إن إلهكم لواحد، رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق، إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب، وحفظا من كل شيطان مارد، لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب، دحورا ولهم عذاب واصب، إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب }.
هذه من الآيات التي قال فيها الله تعالى ذكره: { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد }.
[ ارفع طرف قلبك ]، وانظر بعين عقلك، وراجع جلية بصيرتك، إذا تفكرت في كلمة كلمة مما نقلناه إليك، وعرضناه عليك، ثم فيما ينتظم من الكلمات، ثم إلى أن يتكامل فصلا وقصة، أو يتم حديثا وسورة.
لا، بل فكر في جميع القرآن على هذا الترتيب، وتدبره على نحو هذا التنزيل، فلم ندع ما ادعيناه لبعضه، ولم نصف ما وصفنا إلا في كله، وإن كانت الدلالة في البعض أبين وأظهر، والآية أكشف وأبهر.
وإذا تأملت على ما هديناك إليه، ووقفناك عليه، فانظر هل تجد وقع هذا النور في قلبك، واشتماله على لبك، وسريانه في حسك، ونفوذه في عروقك، وامتلاءك به إيقانا وإحاطة، واهتداءك به إيمانا وبصيرة؟ أم هل تجد الرعب يأخذ منك مأخذه من وجه، والهزة تعمل في جوانبك من لون، والأريحية تستولى عليك من باب؟ وهل تجد الطرب يستفزك للطيف ما فطنت له، والسرور يحركك من عجيب ما وقفت عليه، وتجد في نفسك من المعرفة التي حدثت لك عزة، وفي أعطافك ارتياحا وهزة، وترى لك في الفضل تقدما وتبريزا، وفي اليقين سبقا وتحقيقا، وترى مطارح الجهال تحت أقدام الغفلة، ومهاويهم في ظلال القلة والذلة، وأقدارهم بالعين التي يجب أن تلحظ بها، ومراتبهم بحيث يجب أن ترتبها؟
هذا كله في تأمل الكلام ونظامه، وعجيب معانيه وأحكامه.
فإن جئت إلى ما انبسط في العالم من بركته وأنواره، وتمكن في الآفاق من يمنه وأضوائه، وثبت في القلوب من إكباره وإعظامه، وتقرر في النفوس من حتم أمره ونهيه، ومضى في الدماء من مفروض حكمه، وإلى أنه جعل عماد الصلاة التي هي تلو الإيمان في التأكيد، وثانيةُ التوحيد في الوجوب. وفُرِضَ حفظُه، ووُكِلَ الصغارُ والكبار بتلاوته، وأمر عند افتتاحه بما أمر به لتعظيمه، من قوله: { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم }، لم يؤمر بالتعوذ لافتتاح أمر كما أمر به لافتتاحه، فهل يدلك هذا على عظيم شأنه، وراجح ميزانه، وعالي مكانه.
وجملة الأمر أن نقد الكلام شديد، وتمييزه صعب.
ومما كتب إلي الحسن بن عبد الله العسكري: [ قال ] أخبرني أبو بكر بن دريد قال: سمعت أبا حاتم يقول: سمعت الأصمعي يقول: فرسان الشعر أقل من فرسان الحرب.
وقال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: العلماء بالشعر أعز من الكبريت الاحمر.
وإذا كان الكلام المتعارف المتداول بين الناس يشق تمييزه، ويصعب نقده، ويذهب عن محاسنه الكثير، وينظرون إلى كثير من قبيحه بعين الحسن، وكثير من حسنه بعين القبح، ثم يختلفون في الأحسن منه اختلافا كثيرا، وتتباين آراؤهم في تفضيل ما يفضل منه - فكيف لا يتحيرون فيما لا يحيط به علمهم، ولا يتأتي في مقدورهم، ولا يمثل بخواطرهم؟ وقد حير القوم الذين لم يكن أحد أفصح منهم، ولا أتم بلاغة، ولا أحسن براعة، حتى دهشوا حين ورد عليهم، وولهت عقولهم، ولم يكن عندهم فيه جواب غير ضرب الأمثال، والتخرص عليه، والتوهم فيه، وتقسيمه أقساما، وجعله عضين.
وكيف لا يكون أحسن الكلام، وقد قال الله تعالى: { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد }.
استغنم فهمَ هذه الآية، وكفاك، استفد علم هذه الكلمات، وقد أغناك، فليس يوقف على حسن الكلام بطوله، ولا تعرف براعته بكثرة فصوله، إن القليل يدل على الكثير، والقريب قد يهجم بك على البعيد.
ثم إنه سبحانه وتعالى لما علم من عظم شأن هذه المعرفة، وكبر محلها، وذهابها على أقوام - ذكر في آخر هذه الآية ما ذكر، وبين ما بين، فقال: { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء }. فلا تعلم ما وصفنا لك إلا بهداية من العزيز الحميد، وقال: { ومن يضلل الله فما له من هاد } وقال: { يُضل به كثيرا ويهدي به كثيرا }.
وقد بسطنا لك القول رجاء إفهامك.
وهذا المنهاج الذي رأيته، إن سلكتَه، يأخذ بيدك، ويدلك على رشدك، ويغنيك عن ذكر براعة آية آية لك.
واعلم أنا لم نقصد فيما سطرناه من الآيات وسميناه من السور والدلالات، ذكر الأحسن والأكشف والأظهر، لأنا نعتقد في كل سورة ذكرناها أو أضربنا عن ذكرها اعتقادا واحدا في الدلالة على الإعجاز، والكفاية في التمنع والبرهان. ولكن لم يكن بد من ذكر بعض، فذكرنا ما تيسر، وقلنا فيما اتجه في الحال وخطر، وإن كنا نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر، وفي بعضه أدق وأغمض. والكلام في هذا الفصل يجئ بعد هذا.
فاحفظ عنا في الجملة ما كررنا، والسير بعد ذلك في التفصيل إليك، وحصل ما أعطيناك من العلامة، ثم النظر عليك.
قد اعتمدنا على أن الآيات تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: ما يتم بنفسه، أو بنفسه وفاصلته، فينير في الكلام إنارة النجم في الظلام.
والثاني: ما يشتمل على كلمتين أو كلمات، إذا تأملتها وجدت كل كلمة منها في نهاية البراعة، وغاية البلاغة.
وإنما يبين ذلك بأن تتصور هذه الكلمة مضمنة بين أضعاف كلام كثير، أو خطاب طويل، فتراها ما بينها تدل على نفسها، وتعلو على ما قرن بها لعلو جنسها، فإذا ضمت إلى أخواتها، وجاءت في ذواتها، أرتك القلائد منظومة، كما كانت تريك - عند تأمل الافراد منها - اليواقيت منثورة، والجواهر مبثوثة.
ولولا ما أكره من تضمين القرآن في الشعر لأنشدتك ألفاظا وقعت مضمنة، لتعلم كيف تلوح عليه، وكيف ترى بهجتها في أثنائه، وكيف تمتاز منه؛ حتى إنه لو تأمله من لم يقرأ القرآن لتبين أنه أجنبي من الكلام الذي تضمنه، والباب الذي توسطه، وأنكر مكانه، واستكبر موضعه.
ثم تناسبها في البلاغة والابداع، وتماثلها في السلاسة والاغراب، ثم انفرادها بذلك الاسلوب، وتخصصها بذلك الترتيب، ثم سائر ما قدمنا ذكره، مما نكره إعادته.
وأنت ترى غيره من الكلام يضطرب في مجاريه، ويختل تصرفه في معانيه، ويتفاوت التفاوت الكثير في طرقه، ويضيق به النطاق في مذاهبه، ويرتبك في أطرافه وجوانبه، ويسلمه للتكلف الوحش كثرة تصرفه، ويحيله على التصنع الظاهر موارد تنقله وتخلصه.
ونظم القران في مؤتلفه ومختلفه، وفي فصله ووصله، وافتتاحه واختتامه، وفي كل نهج يسلكه، وطريق يأخذ فيه، وباب يتهجم عليه، ووجه يؤمه، على ماو صفه الله تعالى به - لا يتفاوت، كما قال: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }. ولا يخرج عن تشابهه وتماثله، كما قال: { قرآنا عربيا غير ذي عوج }. وكما قال: { كتابا متشابها } ولا يخرج عن إبانته، كما قال: { بلسان عربي مبين }.
وغيره من الكلام كثير التلون، دائم التغير، [ والتنكر ]، يقف بك على بديع مستحسن، ويعقبه بقبيح مستهجن، ويطلع عليك بوجه الحسناء، ثم يعرض للهجر بخد القبيحة الشوهاء، ويأتيك باللفظة المستنكرة بين الكلمات التي هي كاللآلئ الزهر.
وقد يأتيك باللفظة الحسنة بين الكلمات البهم، وقد يقع إليك منه الكلام المثبج، [198] والنظم المشوش، والحديث المشوه.
وقد تجد منه ما لا يتناسب ولا يتشابه، ولا يتألف ولا يتماثل.
وقد قيل في وصف ما جرى هذا المجرى:
وشِعرٍ كبَعرِ الكَبشِ فَرّقَ بينه * لسانُ دَعيٍّ في القريضِ دخيلِ [199]
وقال آخر:
وبعضُ قريضِ القوم أولادُ علة * يَكُدُّ لسانَ الناطقِ المتحفظِ [200]
فإن قال قائل: فقد نجد في آيات [ من ] القرآن ما يكون نظمه بخلاف ما وصفت، ولا تتميز الكلمات بوجه البراعة، وإنما تكون البراعة عندك منه في مقدار يزيد على الكلمات المفردة، وحد يتجاوز حد الألفاظ المستندة، وإن كان الأكثر على ما وصفته به؟
قيل له: نحن نعلم أن قوله: { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم }، إلى آخر الآية - ليس من القبيل الذي يمكن إظهار البراعة فيه، وإبانة الفصاحة [ عليه ] وذاك يجري عندنا مجرى ما يحتاج إلى ذكره من الأسماء والألقاب، فلا يمكن إظهار البلاغة فيه، فطلبها في نحو هذا ضرب من الجهالة. بل الذي يعتبر في نحو ذلك تنزيل الخطاب، وظهور الحكمة في الترتيب والمعنى، وذلك حاصل في هذه الآية إن تأملت.
ألا ترى أنه بدأ بذكر الأم، لعظم حرمتها، وإدلائها بنفسها، ومكان بَعْضيَّتها، فهي أصل لكل من يُدلي بنفسه منهن، ولانه ليس في ذوات الأنساب أقرب منها.
ولما جاء إلى ذوات الأسباب، ألحق بها حكم الأم من الرضاع، لأن اللحم ينشره اللبن بما يغذوه، فيتحصل بذلك أيضا لها حكم البعضية، فنشر الحرمة بهذا المعنى، وألحقها بالوالدة.
وذكرَ الأخوات من الرضاعة، فنبه بها على كل من يدلى بغيرها، وجعلها تلو الأم من الرضاع.
والكلام في إظهار حكم هذه الآية وفوائدها يطول، ولم نضع كتابنا لهذا، وسبيل هذا أن نذكره في كتاب معاني القرآن، إن سهل الله لنا إملاءه وجمعه.
فلم تنفك هذه الآية من الحكم التي تخلف حكمة الإعجاز في النظم والتأليف، والفائدة التي تنوب مناب العدول عن البراعة في وجه الترصيف.
فقد علم السائل أنه لم يأت بشئ، ولم يهتد للأغراض في دلالات الكلام، وفوائده ومتصرفاته، وفنونه ومتوجهاته.
وقد يتفق في الشعر ذكر الأسامي فيحسن موقعه، كقول أبي ذؤاب الأسدي:
إن يقتلوكَ فقد ثللت عروشهم * بعتيبة بن الحارث بن شهاب
بأشدهم كلَبًا على أعدائه * وأعزهم فقدا على الأصحاب
وقد يتفق ذكر الأسامي فيفسد النظم ويقبح الوزن.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)