لأن الطريقة الأولى تبين أن ما علم به كون جميع القرآن معجزا - موجود في كل سورة، صغرت أو كبرت، فيجب أن يكون الحكم في الكل واحدا.
والطريقة الأخيرة تتضمن تعذر معرفة إعجاز القرآن بالطريقة التي سلكناها في كتابنا من التفصيل الذي بينا، فيما تعرف به في الكلام الفصاحة، وتتبين به البلاغة، حتى يعلم ذلك بوجه آخر، فيستوي في هذا القدر البليغ وغيره في أن لا يعلمه معجزا حتى يستدل به من وجه آخر سوى ما يعلمه البلغاء من التقدم في الصنعة، وهذا غير ممتنع.
ألا ترى أن الإعجاز في بعض السور والآيات أظهرُ، وفي بعضها أغمض [ وأدق؟ فلا يفتقر البليغ ] في النظر في حال بعضها إلى تأمل كثير ولا بحث شديد، حتى يتبين له الإعجاز. ويفتقر في بعضها إلى نظر دقيق وبحث لطيف، حتى يقع على الجلية، ويصل إلى المطلب.
ولا يمتنع أن يذهب عليه الوجه في بعض السور، فيحتاج أن يفزع فيه إلى إجماع أو توقيف، أو ما عَلِمَه من عجز العرب قاطبة عنه.
فإن ادعى ملحد أو زعم زنديق أنه لا يقع العجز عن الإتيان بمثل السور القصار أو الآيات بهذا المقدار؛ قلنا له: إن الإعجاز قد حصل بما بيناه، وعرف بما وقفنا عليه من عجز العرب عنه.
ثم فيه شئ آخر، وهو أن هذا سؤال لا يستقيم للملحد، لأنه يزعم أنه ليس في القرآن كله إعجاز، فكيف يجوز أن نناظره على تفصيله؟
وإذا ثبت لنا معه إعجازه في السور الطوال، قامت الحجة عليه، وثبتت المعجزة، ولا معنى لطلبه لكثرة الأدلة والمعجزات.
ونحن نعلم أن إعجاز البعض بما بيناه، والبعض الآخر بأنه إذا ثبت الأصل لم يبق بعد ذلك إلا قولنا، لأنا عرفنا في البعض الإعجاز بما بينا، ثم عرفنا في الباقي بالتوقيف، ونحو ذلك.
وليس بممتنع اختلاف حال الكلام، حتى يكون الإعجاز على بعضه أظهر، وفي بعضه أغمض؛ ومن آمن ببعض دون بعض كان مذموما، على ما قال الله تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } وقال: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين }. فظاهره عند بعض أهل التأويل كالدليل على أن الشفاء { 9 ببعضه أوقعُ، وإن كنا نقول: إنه يدل على أن الشفاء 9 } في جميعه.
واعلم أن الكلام يقع فيه الأبلغ والبليغ، ولذلك كانوا يسمون الكلمة: "يتيمة"، ويسمون البيت الواحد: "يتيما".
سمعت إسماعيل بن عباد يقول: سمعت أبا بكر بن مقسم يقول: سمعت ثعلبا يقول: [ سمعت سلمة يقول ]: سمعت الفراء يقول: العرب تسمي البيت الواحد يتيما، وكذلك يقال: "الدرة اليتيمة" لانفرادها، فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي "نتفة"، وإلى العشرة تسمى "قطعة"، وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى "قصيدا"، وذلك مأخوذ من المخّ القَصيد، وهو المتراكم بعضه على بعض، وهو ضد الرار، [242] ومثله الرَّثِيد.
انتهت الحكاية، ثم استشهد بقول لبيد: [243]
فتذكرا ثَقَلا رَثيدا بعد ما * ألقتْ ذُكاءُ يَمينَها في كافِرِ [244]
يريد بيض النعام، لأنه ينضد بعضه على بعض.
وكذلك يقع في الكلام البيت الوحشي والنادر، والمثل السائر، والمعنى الغريب، والشئ الذي لو اجتهد له لم يقع عليه، فيتفق له ويصادفه.
قال لي بعض علماء هذه الصنعة - وجاريته في ذلك - إن هذا مما لا سبب له يخصه، وإنما سببه الغزارة في أصل الصنعة، والتقدم في عيون المعرفة، فإذا وجد ذلك وقع له من الباب ما يطرد عن حساب، وما يشذ عن تفصيل الحساب.
فأما ما قلنا من أن ما بلغ قدر السورة معجز، فإن ذلك صحيح.
فصل في أنه هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة
ذهب [ الشيخ ] أبو الحسن الأشعري إلى أن ظهور ذلك عن النبي يعلم ضرورة، وكونه معجزا يعلم باستدلال. وهذا المذهب محكي عن المخالفين.
والذي نقوله في هذا: إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالا، وكذلك مَن لم يكن بليغا.
فأما البليغ الذي قد أحاط بمذاهب العربية وغرائب الصنعة، فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه عن الإتيان بمثله، ويعلم عجز غيره بمثل ما يعرف عجز نفسه، كما أنه إذا علم الواحد منا أنه لا يقدر على ذلك، فهو يعلم عجز غيره استدلالا.
فصل فيما يتعلق به الإعجاز
إن قال قائل: بينوا لنا ما الذي وقع التحدي إليه: أهو الحروف المنظومة، أو الكلام القائم بالذات، أو غير ذلك؟
قيل: الذي تحداهم به أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن، منظومة كنظمها، متتابعة كتتابعها، مطردة كاطرادها، ولم يتحدهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له.
وإن كان كذلك فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل الحروف المنظومة، التي هي عبارة عن كلام الله تعالى في نظمها وتأليفها، وهي حكاية لكلامه، ودلالات عليه، وأمارات له، على أن يكونوا مستأنفين لذلك، لا حاكين بما أتى به النبي .
ولا يجب أن يُقدر مقدر أو يظن ظان أنا حين قلنا: إن القرآن معجز، وأنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله - أردنا غير ما فسرناه، من العبارات عن الكلام القديم القائم بالذات.
وقد بينا قبل هذا أنه لم يكن ذلك معجزا، لكونه عبارة عن الكلام القديم، لأن التوراة والإنجيل عبارة عن الكلام القديم، وليس ذلك بمعجز في النظم والتأليف. وكذلك ما دون الآية - كاللفظة - عبارة عن كلامه، وليست بمنفردها بمعجزة.
وقد جوز بعض أصحابنا أن يتحداهم إلى مثل كلامه القديم القائم بنفسه. والذي عول عليه مشايخنا ما قدمنا ذكره، وعلى ذلك أكثر مذاهب الناس.
ولم نحب أن نفسر ونذكر موجب هذا المذهب الذي حكيناه وما يتصل به، لأنه خارج عن غرض كتابنا، لأن الإعجاز واقع في نظم الحروف التي هي دلالات وعبارات عن كلامه. وإلى مثل هذا النظم وقع التحدي، فبينا وجه ذلك، وكيفية ما نتصور القول فيه، وأزلنا توهم من يتوهم أن القديم حروف منظومة، أو حروف غير منظومة، أو شئ مؤلف، أو غير ذلك، مما يصح أن يتوهم على ما سبق من إطلاق القول فيما مضى.
فصل في وصف وجوه من البلاغة
ذكر بعض أهل الأدب والكلام [245] أن البلاغة على عشرة أقسام: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان. [246]
فأما الإيجاز فإنما يحسن مع ترك الإخلال باللفظ والمعنى، فيأتي باللفظ القليل الشامل لأمور كثيرة.
وذلك ينقسم إلى حذف، وقصر:
فالحذف: الإسقاط للتخفيف، كقوله: واسأل القرية }. وقوله: { طاعة وقول معروف }.
وحذف الجواب كقوله: { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى }. كأنه قيل: لكان هذا القرآن.
والحذف أبلغ من الذكر، لأن النفس تذهب كل مذهب في القصد من الجواب. [247]
والإيجاز بالقصر [248] كقوله: { ولكم في القصاص حياة }.
وقوله: { يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو }.
وقوله: { إنما بغيكم على أنفسكم }.
وقوله: { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }. [249]
والإطناب فيه بلاغة، فأما التطويل ففيه عِيٌّ. [250]
وأما التشبيه، فهو العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حسن أو عقل، كقوله: { والذين كفروا أعمالهم كسراب بِقِيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا }. [251]
وقوله: { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف }. [252]
وقوله: { وإذ نتفنا الجبل فوقهم كأنه ظلة }. [253]
وقوله: { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به بنات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا، فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس }. [254]
وقوله: { إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر. تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر }. [255]
وقوله: { فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان }. [256]
وقوله: { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما }. [257]
وقوله: { وجنة عرضها كعرض السماء والأرض }. [258]
وقوله: { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا }. [259]
وقوله تعالى: { فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث }. [260]
وقوله: { كأنهم أعجاز نخل خاوية }. [261]
وقوله: { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت }. [262]
وقوله: { وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام }. [263]
وقوله: { خلق الإنسان من صلصال كالفخار }. [264] ونحو ذلك.
ومن ذلك: باب الاستعارة وذلك يباين التشبيه.
كقوله تعالى: { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا }. [265]
وكقوله: { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين }. [266]
وكقوله: { إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية }. [267]
وقوله: { ولما سكت عن موسى الغضب }. [268]
وكقوله: { فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة }. [269]
وقوله: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق }. [270] فالدمغ والقذف مستعار.
وقوله: { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار }. [271]
وقوله: { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم }. [272]
وقوله: { فذو دعاء عريض }. [273]
وقوله: { حتى تضع الحرب أوزارها }. [274]
وقوله: { والصبح إذا تنفس }. [275]
وقوله: { مستهم البأساء والضراء وزلزلوا. [276]
وقوله: { فنبذوه وراء ظهورهم }. [277]
وقوله: { أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا }. [278]
وقوله: { حصيدا خامدين }. [279]
وقوله: { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون }. [280]
وقوله: { وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا }. [281]
وقوله: { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك }. [282]
وقوله: { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر }. [283]
وقوله: { فضربنا على آذانهم } يريد: أن لا إحساس بآذانهم من غير صمم. [284]
وقوله: { ولما سقط في أيديهم }. [285]
وهذا أوقع من اللفظ الظاهر، وأبلغ من الكلام الموضوع [ له ].
وأما التلاؤم فهو: تعديل الحروف في التأليف. وهو نقيض التنافر [ الذي هو ] كقول الشاعر:
وقَبرُ حَربٍ بمكان قَفرِ * وليس قُربَ قَبرِ حَربٍ قَبرُ [286]
قالوا: هو من شعر الجن! وحروفه متنافرة، لا يمكن إنشاده إلا بتَتَعْتُعٍ فيه! [287]
والتلاؤم على ضربين: أحدهما في الطبقة الوسطى، كقوله: [288]
رَمَتْني وسِترُ الله بيني وبينها * عَشيّةَ آرامِ الكِنَاسِ رَمِيمُ [289]
رَمِيمُ التي قالت لجاراتِ بيتِها: * ضَمِنتُ لكم أن لا يزال يَهِيمُ
ألا رُبَّ يومٍ لو رَمَتْني رَمَيتُها * ولكنّ عَهدي بالنضال قديم [290]
قالوا: [291] والمتلائم في الطبقة العليا القرآن كله، وإن كان بعض الناس أحسن إحساسا له من بعض، كما أن بعضهم يفطن للموزون بخلاف بعض.
والتلاؤم: [292] حسن الكلام في السمع، وسهولته في اللفظ، ووقع المعنى في القلب. وذلك كالخط الحسن والبيان الشافي، والمتنافر كالخط القبيح. فإذا انضاف إلى التلاؤم حسن البيان وصحة البرهان في أعلى الطبقات ظهر الإعجاز لمن كان جيد الطبع وبصيرا بجواهر الكلام، كما يظهر له أعلى طبقة الشعر. [293]
والمتنافر، ذهب الخليل إلى أنه من بُعْدٍ شديد، أو قرب شديد، فإذا بَعُدَ فهو كالطفر. وإذا قَرُبَ جدا كان بمنزلة مشي المقيد. ويبين ذلك بقرب مخارج الحروف وتباعدها.
وأما الفواصل فهي حروف متشاكلة في المقاطع، يقع بها إفهام المعاني وفيها بلاغة. والأسجاع عيب، لأن السجع يتبعه المعنى، والفواصل تابعة للمعاني. [294] والسجع كقول مسيلمة.
ثم الفواصل قد تقع على حروف متجانسة، كما قد تقع على حروف متقاربة، ولا تحتمل القوافي ما تحتمل الفواصل لأنها ليست في الطبقة العليا في البلاغة، لأن الكلام يحسن فيها بمجانسة القوافي وإقامة الوزن. [295]
وأما التجانس فهو بيان أنواع الكلام الذي يجمعه أصل واحد.
وهو على وجهين: مزاوجة، ومناسبة.
المزاوجة كقوله تعالى: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }. [296]
وقوله: { ومكروا ومكر الله }. [297]
وكقول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا [298]
وأما المناسبة فهي كقوله تعالى: { ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم } [299] وقوله: { يخافون يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار }. [300]
وأما التصريف [301] فهو: تصريف الكلام في المعاني، كتصريفه في الدلالات المختلفة؛ [302] كتصريف "الملك" في معاني الصفات، فصرف في معنى مالك وملك وذي الملكوت والمليك، وفي معنى التمليك والتملك والإملاك، وتصريف المعنى في الدلالات المختلفة، كما كرر من قصة موسى في مواضع. [303]
وأما التضمين فهو حصول معنى فيه من غير ذكره له باسم أو صفة هي عبارة عنه. [304]
وذلك على وجهين:
تضمين توجبه البنية، كقولنا: "معلوم"، يوجب أنه لا بد من عالم.
وتضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به، كالصفة بضارب، على مضروب. [305]
والتضمين كله إيجاز، [ وذكر: أن ] التضمين الذي تدل عليه دلالات القياس أيضا إيجاز. [306]
وذكر أن { بسم الله الرحمن الرحيم } من باب التضمين، لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله تبارك وتعالى، أو التبرك باسمه. [307]
وأما المبالغة فهي: الدلالة على كثرة المعنى. وذلك على وجوه:
منها مبالغة في الصفة المبينة لذلك، كقولك: "رحمان" عدل عن "راحم" [308] للمبالغة، وكقوله "غفار"، وكذلك فعال وفعول، كقوله: "شكور" و "غفور"، وفعيل، كقوله: "رحيم" و "قدير".
ومن ذلك أن يبالغ باللفظة التي هي صفة عامة، [309] كقوله: { خالق كل شئ } وكقوله: { فأتى الله بنيانهم من القواعد }. [310]
وكقوله: { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط }. [311]
وكقوله: { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين }. [312]
وقد يدخل فيه الحذف الذي تقدم ذكره للمبالغة. [313]
وأما حسن البيان، فالبيان على أربعة أقسام: كلام، وحال، وإشارة، وعلامة. [314]
ويقع التفاضل في البيان، ولذلك قال عز من قائل: { الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان }. [315]
[ ونقيضه العي، ومنه ] قيل: أعيا من باقِلٍ، سئل عن ظبية في يده بكم اشتراها، فأراد أن يقول: بأحد عشر، فأشار بيديه مادًّا أصابعه العشر، ثم أدلع لسانه، فأفلتت الظبيةُ من يده.
ثم البيان على مراتب. [316]
قلنا: قد كنا حكينا أن من الناس من يريد أن يأخذ إعجاز القرآن من وجوه البلاغة التي ذكرنا أنها تسمى البديع في أول الكتاب، مما مضت أمثلته في الشعر.
ومن الناس من زعم أنه يأخذ ذلك من هذه الوجوه التي عددناها في هذا الفصل.
واعلم أن الذي بيناه قبل هذا وذهبنا إليه هو سديد، وهو أن هذه الأمور تنقسم؛ فمنها ما يمكن الوقوع عليه، والتعمل له، ويدرك بالتعلم، فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القران به.
وأما ما لا سبيل إليه بالتعلم والتعمل من البلاغات، فلذلك هو الذي يدل على إعجازه، ونحن نضرب لك أمثله، لتقف على ما ذهبنا إليه.
وذكرنا في هذا الفصل عن هذا القائل أن التشبيه تعرف به البلاغة. وذلك مسلم، ولكن إن قلنا: ما وقع من التشبيه في القرآن معجز - عرض علينا من التشبيهات الجارية في الأشعار ما لا يخفى عليك، وأنت تجد في شعر ابن المعتز من التشبيه البديع الذي يشبه السحر، وقد تتبع في هذا ما لم يتتبع غيره، واتفق له ما لم يتفق لغيره من الشعراء.
وكذلك كثير من وجوه البلاغة، قد بينا أن تعلمها يمكن، وليس تقع البلاغة بوجه واحد منها دون غيره.
فإن كان إنما يعني هذا القائل أنه إذا أتى في كل معنى يتفق في كلامه بالطبقة العالية، ثم كان ما يصل به كلامه بعضه ببعض، وينتهى منه إلى متصرفاته -: على أتم البلاغة وأبدع البراعة - فهذا مما لا نأباه، بل نقول به.
وإنما ننكر أن يقول قائل إن بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز من غير أن يقارنه ما يصل به [ من ] الكلام ويفضى إليه، مثل ما يقول: إن ما أقسم به وحده بنفسه معجز، وإن التشبيه معجز، وإن التجنيس معجز، والمطابقة بنفسها معجزة.
فأما الآية التي فيها ذكر التشبيه، فإن ادعى إعجازها لألفاظها ونظمها وتأليفها - فإني لا أدفع ذلك وأصححه، ولكن لا أدعى إعجازها لموضع التشبيه.
وصاحب المقالة التي حكيناها، أضاف ذلك إلى موضع التشبيه وما قرن به من الوجوه، ومن تلك الوجوه ما قد بينا أن الإعجاز يتعلق به كالبيان، وذلك لا يختص بجنس من المبين دون جنس، ولذلك قال: { هذا بيان للناس } وقال: { تبيانا لكل شئ } وقال: { بلسان عربي مبين } فكرر في مواضع [ جل ] ذكره: أنه مبين.
فالقرآن أعلى منازل البيان، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه، وطرقه وأبوابه: من تعديل النظم وسلامته، وحسنه وبهجته، وحسن موقعه في السمع، وسهولته على اللسان، ووقوعه في النفس موقع القبول، وتصوره تصور المشاهد، وتشكله على جهته حتى يحل محل البرهان ودلالة التأليف، مما لا ينحصر حسنا وبهجة وسناء ورفعة.
وإذا علا الكلام في نفسه، كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس، ما يذهل ويبهج، ويقلق ويؤنس، ويطمع ويؤيس، ويضحك ويبكى، ويحزن ويفرح، ويسكن ويزعج، ويشجي ويطرب. ويهز الاعطاف، ويستميل نحوه الأسماع. ويورث الأريحية والعزة، وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجودا، ويرمى السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا.
وله مسالك في النفوس لطيفة، ومداخل إلى القلوب دقيقة.
وبحسب ما يترتب في نظمه، ويتنزل في موقعه، ويجرى على سمت مطلعه ومقطعه - يكون عجيب تأثيراته، وبديع مقتضياته.
وكذلك على حسب مصادره، يتصور وجوه موارده.
وقد ينبئ الكلام عن محل صاحبه، ويدل على مكان متلكمه، وينبه على عظيم شأن أهله، وعلى علو محله.
ألا ترى أن الشعر في الغزل إذا صدر عن محب كان أرق وأحسن، وإذا صدر عن متعمل وحصل من متصنع نادى على نفسه بالمداجاة وأخبر عن خبيئه في المراياة.
وكذلك قد يصدر الشعر في وصف الحرب عن الشجاع، فيعلم وجه صدوره، ويدل على كنهه وحقيقته.
وقد يصدر عن المتشبه، ويخرج عن المتصنع، فيعرف من حاله ما ظن أنه يخفيه، ويظهر من أمره خلاف ما يبديه.
وأنت تعرف لقول المتنبي:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني * والحرب والضرب والقرطاس والقلم
من الوقع في القلب - لما تعلم أنه من أهل الشجاعة - ما لا تجده للبحتري في قوله:
وأنا الشجاع وقد بدا لك موقفي * بعَقَرْقَسٍ والمَشرَفيّةُ شُهَّدِي
وتجد لابن المعتز في موقع شعره من القلب، في الفخر وغيره، ما لا تجده لغيره، لأنه إذا قال:
إذا شئتُ أوقرتُ البلاد حوافرا * وسارت ورائي هاشمٌ ونزارُ
وعَمَّ السماءَ النَّقعُ حتى كأنه * دخانٌ وأطرافُ الرماح شَرارٌ
وقال:
قد تردّيت بالمكارم دهرا * وكفتني نفسي من الافتخار
أنا جيش إذا غزوت وحيدا * ووحيدٌ في الجَحفَل الجَرّار
وقال:
أيها السائلي عن الحسب الأط * يب ما فوقه لِخَلْقٍ مزيد
نحن آلُ الرسول والعِترةُ الحقُّ * وأهلُ القربى، فماذا تريد
ولنا ما أضاء صُبحٌ عليه * وأتته راياتُ ليلٍ سُودُ
وكما أنشدنا الحسن بن عبد الله، قال: أنشدنا محمد بن يحيى لابن المعتز قصيدته التي يقول فيها:
أنا ابن الذي سادهم في الحيا * ة وسادهم بي تحت الثرى
وما لي في أحد مَرغبٌ * بلى فيَّ يرغب كلُّ الورى
وأسهر للمجد والمكرمات * إذا اكتحلت أعينٌ بالكَرى
فانظر في القصيدة كلها، ثم في جميع شعره، تعلم أنه ملك الشعر، وأنه يليق به من الفخر خاصة، ثم مما يتبعه مما يتعاطاه، ما لا يليق بغيره، بل ينفر عن سواه.
ولم أحب أن أكثر عليك، فأطول الكتاب بما يخرج عن غرضه.
وكما ترى من قول أبي فراس الحمداني في نفسك إذا قال:
ولا أُصبِحُ الحَيَّ الخَلوفَ بغارة * ولا الجيشَ ما لم تأته قبلي النذر
ويا رُبَّ دار لم تخفني منيعةٍ * طلعتُ عليها بالردى أنا والفجر
وساحبة الأذيال نحوي لقيتها * فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر
وهبتُ لها ما حازه الجيش كله * وأُبْتُ ولم يكشف لأبياتها ستر
وما راح يطغيني بأثوابه الغنى * ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر
وما حاجتي في المال أبغي وفوره * إذا لم أَفِرْ وَفري فلا وَفَرَ الوفرُ
والشئ إذا صدر من أهله، وبدا من أصله، وانتسب إلى ذويه، سلم في نفسه، وبانت فخامته وشوهد أثر الاستحقاق فيه.
وإذا صدر من متكلف، وبدا من متصنع، بان أثر الغربة عليه، وظهرت مخايل الاستيحاش فيه، وعرف شمائل التحير منه.
إنا نعرف في شعر أبي نواس أثر الشطارة، وتمكن البطالة، وموقع كلامه في وصف ما هو سبيله من أمر العيارة، [317] ووصف الخمر والخمار، كما نعرف موقع كلام ذي الرمة في وصف المهامه والبوادي والجمال والأنساع والأزِمّة.
وعَيبُ أبي نواس التصرف في وصف الطلول والرباع والوحش، ففكر في قوله:
دع الأطلال تَسفيها الجنوب * وتُبلي عهد جدتها الخطوب
وخَلِّ لراكب الوجناء أرضا * تَخُبُّ به النجيبةُ والنجيب
بلادٌ نبتها عُشرٌ وطَلحٌ * وأكثر صيدها ضَبُعٌ وذيبُ
ولا تأخذْ عن الأعراب لهوا * ولا عيشا، فعيشهم جديب
دع الألبان يشربها رجال * رقيق العيش عندهم غريب
إذا راب الحليب فَبُلْ عليه * ولا تحرج، فما في ذاك حُوبُ
فأطيَبُ منه صافية شمول * يطوف بكأسها ساق أديب
كأن هديرها في الدن يحكي * قِراة القَسّ قابله الصليب
أعاذلَ أقصِري عن طول لومي * فراجي توبتي عندي يخيب
تَعيبينَ الذنوبَ، وأي حر * من الفتيان ليس له ذنوب
وقوله:
صِفةُ الطَّلول بلاغةُ الفَدمِ * فاجعل صفاتِكَ لابنة الكرم
وسمعت الصاحب إسماعيل بن عباد يقول: سمعت براكويه الزنجاني يقول: أنشد بعض الشعراء هلال بن يزيد قصيدة على وزن قصيدة الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل * وهل تطيق وداعا أيها الرجل
وكان وصف فيها الطلل، قال براكويه: فقال لي هلال: فقلت بديها:
إذا سمعتَ فتًى يبكى على طَللٍ * مِن أهلِ زنجانَ، فاعلم أنه طَللُ
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)