الجزء الثاني


لم أشأ أن أرد على الرسائل، فقد مضى عليها زمن، ثم إن نظرتي لهذا الموضوع لم تعد كما كانت، فحياتي أكبر من أن أضيعها، فأشغل نفسي بحوارات لم تعد تجدي.... كنت أحلم في الوقت الذي أصلُ فيه إلى بيت جدي، فقريتي تسكنُ سفحَ الجبل الكبير، تمتد فيها المساحاتُ الخضراء، تتوسطها البيوت الريفية الجميلة، تحيط بها الأشجار الصغيرة، وتزدان بأنواع الزهور وألوانها، تطل بعينيها على ذلك النهر الصغير الذي تحاذيه طريق ترابية تتعرج بتعرجه، يتنصفها جسر خشبي يشكل المعبر الوحيد لدخول القادمين إلى القرية.



لم تكن هناك للبيوت أسوار وكأن سكان القرية أسرة واحدة، تصطف بيوتهم بانتظام لتطل جميعها على بوابة القرية، وكأن الكل أراد أن يرضي فضوله، فيرى الداخل إلى القرية والمغادر منها.



بعد خروجي من المشفى، عدت إلى بلدتي، أحمل جراحي وآلامي، لكنني أحمل وساما يشرفني طوال حياتي.... وأحمل عزيمة كبيرة، سأتوجه إلى جدي وسأعمل معه في الأرض ، سأحب الأرض سأعشقها..... كلمات كبيرة كنت أسمعها منه دائما عندما كان أبناؤه يطلبون منه أن يترك القرية وعناءها، لينتقل إلى العيش في البلدة، كان دائما يقول تستطيعون أن تأتوا بي إلى البلدة فقط عندما أكون جثة هامدة.... كم أنت كبير ياجدي، وكم هو كبير عشقك للأرض وارتباطك بها.....



تسع سنوات مرت على حصولي على الشهادة الثانوية، علمت في الفترة الأخيرة أنهما عادا، ويعيشان في العاصمة، ولم يرزقا بأطفال وحياتهما ليست كما يرام....وعلمت أنها تعاني من مرض عضال .....

أما أنا فأعيش في قريتي ورثت أعمال جدي ، تعرفت عن قرب إلى أهالي القرية، غنيت لهم بأفراحهم، تحدثت إلى الصغار والكبار علني أستطيع فك رموز المرأة..... لغز الحياة، ذلك الكتاب الذي لم أتمكن أبدا من قراءته جيداَ.



بعد عمل مجهد في يوم صيفي، جلست كعادتي قبل الغروب أمام فسحة البيت تحت ظل الياسمين، أشرب القهوة وأتحدث إلى الحمام والاوز والدجاج من حولي، وأقدم لهم عشائهم.... وكلبي الأبيض الجميل يراقب كل حركاتي، وربما يعد لي أنفاسي ليتأكد أني على مايرام. وإذا بسيارة غريبة دخلت القرية... تابعتها، ازدادت نبضات قلبي، لقد وصلت إلى فسحة بيتي ... إنه هو صديق عمري.



أسرعت أمسك بكلبي الذي شعر بضيقي، وقرر أن يهشم جمجمة القادم كائن من كان. أشرت على صديقي أن لا ينزل من السيارة ريثما أتصرف. حاولت أن أضم كلبي إلى صدري أشعره بأنني بخير لكن عبثا، هو أكثر من يفهمني، ممَ اضطرني إلى ادخاله إلى البيت واغلاق الباب.



الصمت كان حوارنا لبضع دقائق..... وكأن الشمس تحاول أن تغرب فتمتنع وكأن الزمن توقف، وكأن الحمام يأكل ولا يشبع أبدا.....


ـ إنها في المشفى في أيامها الأخيرة وهي تدعوك لزيارتها.....تحب أن تسمع منك كلمة سماح قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.....


عيون تبكي ولا تدمع ...قلب يتصدع ولا يخشع....



دخلت إلى البيت، ومن النافذة ناديت جاري لأعلمه أنني مسافر لأمر طارئ، وأن عليه الاعتناء بالحيوانات ريثما أعود، لكن ندائي كان أيضا ليسمع صديقي فيعرف أنني أبدل ملابسي لأذهب معه.



في الطريق، حدثني صديقي كثيرا واستمعت لحديثـه قليلا وكأنني أشاهد مرغما فيلما لا أرغب أصلا بمشاهدته ، فهم من كلماتي القليلة أنني أذهب لأُسمعها كلمات السماح التي تنتظرها، وفهم أيضا أنني ما كنت لأفعل ذلك إلا لأنها على حافة الموت، قال لي متسائلا:


ـ وهل ستتمكن من مسامحتي أنا أيضا إن صرت على حافة الموت؟


ـ أتمنى لها الشفاء وأن تعيشا حياة طبيعية...


ـ أعرف ما تتمناه لنا لكن لا أعرف ما تتمناه لنفسك ؟ لماذا تعيش هكذا لوحدك بعد وفاة جدك ؟؟ و لمَ صرفت النظر عن متابعة الدراسة ؟



سألني أسئلة كثيرة أجاب هو بنفسه عن معظمها، لكن السؤال الأوحد الذي كنت أتمنى أن أجيب عليه ولم أستطع هو ( وهل ستتمكن من مسامحتي أنا أيضا إن صرت على حافة الموت؟ ) كنت أتمنى أن أقول له لقد سامحتكما عندما فتحت عيني في المشفى مثقلا بجراحي ، لكنني لم أتمكن من النطق.



عندما دخلنا باب المشفى، حاول أن يشير إلى جدية الموقف وأن الأطباء شرحوا له كيف أنها لا تستجيب للعلاج لأن رغبتها في الشفاء معدومة، وأنها قد تكون في ساعاتها الأخيرة. ومن بداية الممر المؤدي إلى غرفتها، دلني على الغرفة وانسحب بكذبة مفضوحة مدعيا أنه يجب عليه أن يقابل الطبيب بسرعة خوفا من أن يغادر المشفى، لم أ ُبدِ اكتراثا لتصرفه، فأنا أتيت إلى هنا بإرادتي، ووجودي لن يستغرق أكثر من بضعة دقائق.



جسد هزيل مستلق على فراش الموت، كما هو شعرها الذهبي مستلق على تلك الوسادة ، عيناها الجميلتان عكر صفاؤهما نظرات الرجاء والأمل، كان الموقف بحاجة لأن أسترجع من ذاكرتي ذلك العبقري الشرس حتى أستطيع الصمود.


ـ كيف حالك ، أتمنى لك السلامة ، أين هي تلك التي كنت أستمد من قوتها كل قوتي ؟؟ .... جئتك لتسمعيني وها أنا أسألك!!! حسناً أقولها لك من قلبي الذي ما أحب غيرك: أنا قد سامحتك منذ زمن بعيد ، لقد رأيت الموت مرات كثيرة، وأعرف تماما ذلك الشعور الذي تشعرين به الآن.



لم أكن أدري إن كانت كلماتي مرتبة بشكل جيد أم لا ، لكنني كنت ألاحظ أن معالم وجهها بدأت تشير إلى الرضا، في تلك الأثناء دخل صديقي فنطـَقـَتْ بأول كلمة:


أنظر لقد سامحني ، بدأت أشعر أن شريان الحياة بدأ يسري في دمي.



بحركة عجيبة أخرج صديقي مسدسا من حقيبته, وقال سنعرف جميعا الآن من الذي يجب أن يموت ، وصوب مسدسه إلى صدره وأطلق النار.



كل الكوارث التي مرت بي صغرت أمام تلك الكارثة، حملته وأسرعت به إلى الاسعاف وهو يكلمني قائلا : أردت أن أعرف إن كنت ستسامحني وأنا على حافة الموت أيضا......



اعتقدت أنه قد فارق الحياة عندما وضعته على النقالة، ليدخلوا به إلى غرفة العمليات.



لا أدري كم طال انتظاري على باب غرفة العمليات، فمقاييس الزمن لم تعد منتظمة بالنسبة إلى الأحداث التي تتوالى صورها في مخيلتي، لكني انتبهت أن عدد المنتظرين مثلي بدأ يزداد، وأن اثنان من رجال الأمن قد اقتربا مني، وبكل لباقة قال أحدهما : سيدي لدينا تعليمات بتوقيفك على ذمة التحقيق في الحادث.....

يتبع