الجزء الثالث



بتهمة تحريض صديقي على الانتحار وبدليل تواجدي في مكان وقوع الحادث، وبغياب أي شاهد يمكن أن يشهد على صدق كلامي، حُكـِم علي بالسجن خمس سنوات في محاكمة يمكن وصفها بتمثيلية بارعة....


لم يمض وقت طويل في السجن حتى تمكنت من أجمع حولي الكثير من الأصدقاء، في ساعات النهار كنت أقرأ وأقرأ فمكتبة السجن ذاخرة بالكتب المفيدة والشيء الوحيد الذي أمتلكه هنا هو وفرة الوقت، وفي المساء كنت أحدث أصدقائي الجدد بقصص قرأتها في النهار..... بدأت أتأقلم مع وضعي الجديد، ولم يكن يحزنني سوى فراق كلبي الوفي الذي أظنه قد هلك بحثاً عني....


بعد أربعة أشهر جاءتني زائرة.... فرحتي بزيارتها، برؤيتها معافاة، تصارعت في وجداني مع مأساتي التي خلفتها زيارتي لها في المشفى....

-لقد سجـّلتُ لك في الجامعة، وأحضرت لك الكتب، بعد أيام يبدأ العام الدراسي، أرجوك بشدة، أنا التي كنت سبباً في عدم متابعتك لدراستك الجامعية، أرجوك بشدة أن تستغل فترة وجودك في السجن وتتخرج من الكلية..... أعلم أنك تستطيع فعل ذلك.....أنت عبقري.

- نعم أستطيع، لكني لا أرغب ....

-ستتولد عندك الرغبة عندما تحب أن تسمعني لأحكي لك حقائق لم تكن لتخطر ببالك، لكن عدني بأن تفكر بما قلته لك، وعدني بأن تعطني فرصة للتحدث إليك.... سأزورك في الاسبوع القادم فصحّتي تتحسن بشكل ملحوظ وسأتعافى قريبا.


غادرت وخلفت لي أعباءً ثقيلة، فتوقفت عن مطالعة الكتب من مكتبة السجن وبدأت أفكر بجدية بأن أستمع إليها، فأنا أيضاً بحاجة شديدة إلى من يستمع إلي، تناولتُ رزمة الكتب التي أحضرَتـْها لي وفتحتـُها فارتسمت على وجهي ابتسامة نقية افتقدتها منذ زمن، فقد وضعتْ فيها أيضا علبة "الشوكولاته" التي أحبها، تذكرت مقولتها عندما كنت أساعدها في دراستها " تناول الشوكولاته يشعرني بسعادة لا توصف " .


لم أعد أدري كيف سأخفي فرحتي بزيارتها القادمة التي أنتظرها، لم أعد أتمكن من إدارة الصراع بين حبي اللامتناهي لها وبين كبريائي الذي يدفعني بقوة إلى صدها، ثم ما بال هذا الاسبوع يمضي هكذا ببطء شديد وليس كباقي الأسابيع؟؟ كأنه عام كامل....


كنت متوتراً بعض الشيء عندما جاءت لزيارتي كما وعدتني، فالصراع في داخلي لم يحسم بعد، لكنها هي.... هي التي تفهمني جيدا كما عرفتها، هي التي بادرت في الحديث

-أدرك تماماً أنك تؤمن أنه من العار أن تقترب من زوجة صديقك ولن تفعل، وما كنت لأفكر بزيارتك لولا أنني أعرفك كما أعرف نفسي، حان الوقت لأن تسمعني الآن، أرجوك لا تتكلم لأنهي كل ما عندي.


صديقك كان ضحية أبيه، وزواجنا كان زواج مصلحة، تعلم أن والده آنذاك كان مقربا من الحكومة بسلطة ماله ومعارفه، وكان يريد خوض الانتخابات البلدية ويرغب بالفوز فيها، وتعلم أن عائلتي كبيرة جداً فأراد أن يكسبها في صفه، مارس جميع الضغوط على ابنه ليقبل، وتقدموا لخطبتي، كان رفضي قاطعاً لكنه ضعيفاً فأنا بالنسبة لعائلتي لا أمتلك أسباب الرفض مقابل المغريات التي قدمها الرجل.


وبسبب معرفة والده المسبقة بأن زواجنا لن يكتب له النجاح، استغل نفوذه في العاصمة وقرر إبعادنا في تلك البعثة، جرت الأمور بسرعة مذهلة، لكن هذا كله كان مخططا له مسبقاً من ذلك الرجل الذي يصبو إلى السلطة. وبالفعل فقد حصل كل ما أراده، وفاز في الانتخابات، وهو اليوم في سلطة أعلى، ولا أخفيك بأن أقول لك أنه هو السبب في صدور الحكم عليك بالسجن. أما نحن فكان زواجنا على الأوراق فقط، وكنا نظهر أمام الناس فقط كزوجين، لم يكن أحد منا يجرؤ على الاقتراب من الآخر، لم تجمعنا وسادة واحدة. كان طيفك يحوم حولنا، كان حبك لنا يغمر وجداننا، أما منبع شقائنا فهو أننا كنا الأداة التي غدرت بك.


كان صديقك مخلصاً لك..... يخرج ويمضي ليال حمراء وربما سوداء بحثا عن صديق مثلك لكنه لم يوفق، أصبح له صديقات كثر أضاع معهن سنينه ولم يتخرج من الجامعة. أما أنا فما حصل معي جعلني أمتلك طاقة هائلة لمتابعة دراستي وقد تخرجت بمعدل جيد.


عندما عدنا إلى هنا، كان ينتظرنا مسكن جميل في العاصمة، ووظيفة مرموقة نحسد عليها، وسيارة جديدة تؤمن لنا كل أسباب السعادة المفقودة. كنا نتابع أخبارك وكنا نتناقش دائما ونتساءل إلى متى؟..... لكن ساعة الحساب بدأت تقرب عندما أصابني ذلك المرض الخبيث، كنت فرحة به وكأنه أذِنَ بنهاية عذاباتي، كثيراً ما قال لي الأطباء بأنهم يشعرون أن لا رغبة عندي في الشفاء......


أما الآن فكل شيء قد اختلف، أنا أتماثل للشفاء، أنا الوحيدة التي أمتلك سر عذاباتنا نحن الثلاثة، وأنا الوحيدة التي أعرف كم كان حبك لصديقك كبيرا وكم كان وفاؤه لك عظيماً.


لقد أخبرني أنه سيذهب إليك ليدعوك لزيارتي في المشفى، وقال لي بأن رحلة عذاباتنا قاربت على الانتهاء، لكنه أبدا لم يخطر ببالي أنه كان ينوي الانتحار.


حبيبي، ها أنا ذا أفرغ بين يديك سلة أسراري، وأعلمك أنني آتي لزيارتك سراً، وأني لازلت تلك الفتاة التي أحببتها والتي لن يمسها أحد غيرك. أنا الآن سيدة نفسي، أعيش هنا في العاصمة لوحدي وسأعود إلى عملي قريباً، أهلي يظنون أن أهل زوجي يعتنون بي، وأهل زوجي يظنون أن أهلي يعتنون بي، سأنتظر خروجك من السجن مع شهادتك الجامعية ولنا حديث آخر....


هكذا أنهت كلامها....وبكشفها لتلك الأسرار ازداد حزني على موت صديقي، وانكشفت لي أسرار أخرى فقلت لها : أدركت الآن سبب عدم اهتمامي بالتعرف إلى أي فتاة طيلة السنين الماضية، فهل سيجمعنا القدر من جديد؟؟ أجابتني بكل ثقة بالنفس، إننا نعيش الآن ليلة شتوية طويلة جداً، شديدة البرودة، حالكة الظلام، لكنني على ثقة بأن الصبح سيأتي، وأن الشمس ستسطع من جديد، وسنشعر بدفئها، أرجوك دع الأمر لي واهتم بدراستك، سأزورك كلما سنحت لي الفرصة وأعدك بأن أرتب كل أمورنا من جديد.


من رحم المعاناة ولد الأمل من جديد، أمل يجمعني بمحبوبي الوحيد، كنت ألتهم الدروس بشهية، وأمتحن نفسي بمناهجي قبل أن تبدأ الامتحانات، فالنجاح والنجاح فقط هو الهدية التي سأقدمها لها عند خروجي من السجن. هكذا مضت السنوات......


جاءتني زائرة، كانت فرحتها تفوق فرحتي عندما حصلت على شهادتي الجامعية، أسمعتني عبارات جميلة تشيد بنجاحي لكن تكرارها لهذه العبارات جعلني أتوقع أنها تريد أن تقول شيئاً آخر.

-نجاحي يسرني ، و لك الفضل فيه أولا و آخراً، تعلمين أن متابعة الدراسة لم تكن لتخطر ببالي، لكنني أشعر أنك تـُقـَدّمين إلى شيء آخر تريدين أن تقوليه.

-نعم، هذه هي زيارتي الأخيرة لك، اقترب موعد خروجك من السجن، أحسست بأني مراقبة وقد تعرضت لتلميحات أخذتها على محمل الجد، أخشى أن مستقبلنا معا سيكون في خطر، سأغادر البلد خلال أيام...

-إلى أين ؟؟ هل تنوين السفر إلى المجهول ؟؟

-ستخرج من السجن وسيكون زوج صديقتي في انتظارك، له علاقاته القوية، في اليوم التالي ستحصل على جواز السفر وبطاقة الطائرة وسأكون في انتظارك في المطار، وسنبدأ حياتنا الجديدة....


بعيون يغمرها الرجاء ونظرات مفعمة بالأمل، وبشفاه ترسم ابتسامة لتمتنع عن نطق ما يفيض به القلب، سلـّمتني هدية التخرج، وبكلمات قلـّبت صفحات حكايتي بأجزاء من الثانية ودّعتني قائلة: أنا التي انتظرتك طويلا، سأكون في انتظارك في المطار....


توقعت أن أجد في علبة الهدية رسالة تشرح لي فيها ظروفها لكنني وجدت منديلا مشغولا بأناملها البارعة مطرز عليه اسمها يتداخل مع اسمي، وحمامتان تعانقان قلباً واحداً، بالاضافة إلى علبة "الشوكولاتة" التي أحبها، وبطاقة مصرفية لا أدري شيئاً عنها..... ، كم أنتَ رائع أيها المخلوق البشري؟؟ تستطيع أن تكون لاشيء وبمقدورك أن تصير كل شيء !!!! كم أنتِ كبيرة يا حبيبتي !!!!



كان الرجل في انتظاري يوم خروجي، أحسست أنه يحيطني بعناية فائقة، أعطاني شيفرة البطاقة المصرفية التي بحوزتي وقال لي أنت ضيفي إلى الغد فقط، أعدك أنك ستسافر غداً......

لم أعد أتمكن من متابعة كتابة قصتي، فدموع العين التي استخدمتها بدل الحبر قد نفذت، ثم إن طفلتنا الصغيرة "آية الجمال" تشدني إلى سريرها لأغني لها أغنيتها قبل أن تنام حيث سنحتفل غداً بعيد ميلادها الثاني.