أولاً: "الدين النصيحة"(7).
ولكن النصيحة على الملأ فضيحة، من الواجب أن أهمس في أذنه بما أريد أن أنصح وأسدل عليه كنفي وستري، ولله المثل الأعلى، كما يسدل الله عز وجل كنفه وستره على كل عاصي. فتأخذه بعيداً عن أعين الناس، وتقول له: يا فلان، حاذر من هذه المعاصي، استغفر الله سبحانه وتعالى، عد إلى ربك، كل بني آدم خطاء، تفتح له باب الخوف وباب الرجاء، عسى أن يعود، وعسى أن يؤوب، وعسى أن يستمع إليك. ولا يخلو الموضوع هنا من حالين:
·إما أن يرعوي، وتنزل كلماتك الصادقة في قلبه، فيتقي الله رب العالمين، ويعود ولا يصير سادراً في غيه، ولا يتمادى فيما يصنع، ويقول: والله، جزاك الله عني خيراً أنك أهديتني هذه النصيحة الغالية، وأنا كنت أريد من إذا رآني غافلاً ذكرنّي، وإن رآني ذاكراً أعانني، عندئذٍ تكون أنت سبباً في هداية هذا الإنسان، فإذا كنت سبباً بهذه النصيحة في هدايته كانت كل أعماله الصالحة ثوابها له، ثم لك، بإذن الله رب العالمين. كلما صنع شيئاً بعد موقف التوبة هذا سوف يكون لك كفل من هذا الخير، قال تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا )(النساء: من الآية85) تكن لك هذه لأنك تشفعت أو شفعت إلى هذا الإنسان أن يستقيم على طريق الله. وكأنك تشفعت بنفسك إلى نفسه وإلى قلبه فعاد إلى رب العباد سبحانه وتعالى.
·الحال الثانية: وهي أن يماشيك، ويقول: إن شاء الله رب العالمين، ثم يعود إلى المعصية مرة أخرى.
يا أخً الإسلام، ما عليك إلا أن تعيد النصيحة بلباقة وبأدب، و بمحبة، وتجعل جسراً بينك وبينه، عبارة عن جسر المحبة وجسر المودة، حتى ينصت قلبه لك، وينصت عقله إليك، ويأخذ الكلام مأخذ الجد، ويحاول أن يكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وإما أن يقوم هذا الإنسان برفض ما تقول، عندئذٍ يجوز أن تهمس في أذن العالم الذي يلقي درساً كل أسبوع أو خطبة جمعة، وتقول له: لي إنسان معين، يعز علي، وهو يصلي معنا، أو يحضر الجمعة، ويسمع الخطبة التي تلقيها، فوددنا مثلاً أن تكلمنا عن فضائل التوبة، وثمرات التوبة، وثمرات الأوبة إلى الله، والعودة إليه سبحانه تعالى، ربما يقع كلام الشيخ في قلبه موقع القبول، إن شاء الله رب العالمين، عندئذٍ تكون قد صنعت خيراً، وصرت مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر.
ثانياً: الإنسان مبتلى ومعافى، فلنحمد الله على العافية ولنرحم أهل البلاء، أكبر بلاء ينزل بالإنسان هو البلاء في الدين؛ لأن الصحة تذهب وتأتي، والمال يذهب ويأتي، كل ما في أيدينا يذهب و يأتي، إن أصبنا به، إلا المصيبة في الدين، فتلك أعظم مصيبات الحياة؛ أن يصاب الإنسان في دينه، أن يضل بعد هدى، أو أن ينحرف بعد استقامة، أو أن يفتر بعد عزيمة، أو أن يبتعد بعد قرب من الله ومن رسوله ومن كتاب ربه ومن الصالحين ومن أهل العلم.
فالابتلاء في الدين هو من أشد أنواع الابتلاء، فمن الواجب أن تقف بجوار أخيك؛ لأنه في محنة.
فالإنسان منا لو مرض مرضاً شديداً لعاده أصحابه وأقاربه وأصدقاؤه، ولو مرضت المرأة مرضاً شديداً لعادتها صديقاتها وقريباتها، لماذا؟ لأنهم يخشون عليه أو عليها من أن تكون هذه هي النهاية، فهم يقفون بجواره، أو يقفون بجوارها ساعة المرض.
ألا نرى أن مرض القلوب هو أشد الأمراض؟ وأن مرض الذنوب هو أشد الأمراض الفتاكة بقلب العبد؟
ولذلك لما ذهب أحد الناس إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما وقال له: يا ابن بنت رسول الله مريض أبحث عن دواء، قال: ما مرضك؟ قال: مرضي هو البعد عن الله رب العالمين كلما أردت أن أتوب عدت إلى الذنوب مرة أخرى، فقال له الإمام الحسين رضي الله عنه: يا هذا إن أردت أن تعصي الله فاعصه في ملك غير ملكه واعصه في مكان لا يراك فيه، وإذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله وإن أردت أن تعصيه وجاءك ملك الموت فقل له: أخرني حتى أتوب وإن أردت أن تعصيه وحشرت بين يديه يوم القيامة، وقال لك عبدي: لم عصيتني؟ قل: أنا لم أعصك يا رب. قال الرجل: أأكون كذاباً في الدنيا وأكذب على الله في الآخرة! والله قد تبت إلى الله توبة خالصة نصوحة(8).
فالعبد يستطيع أن يمهد، وأن يفتح باب الرحمة لأخيه المسلم العاصي، ويفتح باب الخير لهذا الذي ابتعد عن طريق الله عز وجل حتى يجد هذا الصدر الحنون وتقرأ عليه آيات الرحمة وآيات المغفرة، كقوله تعالى: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(غافر:3).
تذكر له الأحاديث العظيمة التي وردت على لسان الميسر البشير النذير صلى الله عليه وسلم والتي تبشر أهل التوبة والإنابة إلى الله تعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أذنب العبد ذنباً ثم تاب، قال عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنوب أشهدكم إني قد غفرت له، فإن عاد إلى الذنب مرة ً أخرى وأستغفر، قال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنوب أشهدكم أني قد غفرت له، إلى أن يقول أشهدكم أني قد تبت عليه فلن يعود إلى الذنب مرة أخرى( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا )(التوبة: من الآية118)( 9).
أخوة الإسلام، إننا إذا سترنا على المسلمين ستر الله علينا في الدنيا والآخرة، وكل بنيّ آدم خطاء، ولا معصوم إلا الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، فوجب علينا أن نستر على إخواننا حتى يسترنا الرب سبحانه وتعالى.
اللهم يا من سترتنا لا تفضحنا على رؤوس الأشهاد يوم القيامة واسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض إنك على كل شيء قدير.
1 )- أخرجه مسلم في"صحيحه" (4/2002) رقم (2590).

2 )- أخرجه البخاري في"صحيحه"(2/862) رقم (2310)، ومسلم في"صحيحه" (4/1996) رقم (2580).

3 )- رواه مسلم في "صحيحه" (4/1986) رقم (2564) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.

4)- صحيح، رواه أهل السنن والحاكم والبزار وغيرهم، وهو في قصة رجم ماعز الأسلمي، رضي الله عنه، وهو من رواية صحابي دعى "هزال" ليس له سوى هذا الحديث، وقواه الحافظ ابن حجر في"فتح الباري" (12/125) ، وقال أبو عمر بن عبد البر، رحمه الله، في"التمهيد" (23/125) :" يستند من وجوه صحاح".

5)- قال النووي في "رياض الصالحين" :"باب النهي عن التجسس:"حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح" ، وقال صاحب "زوائد الأدب المفرد" رقم (88):"صحيح لغيره من حديث معاوية".
6 )- صحيح أخرجه أحمد في"المسند" (4/420)، وأبو داود (4/270) رقم (4880)، والروياني في"المسند" (2/336) رقم (1312)،وأبو يعلى في"المسند" (13/419) رقم (7423) من حديث أبي برزة الأسلمي، رضي الله عنه، وله شواهد عديدة من حديث البراء، وابن عمر، رضي الله عنهم..

7 )- أخرجه مسلم في"صحيحه" (1/74) رقم (55) من حديث تميم الداري، رضي الله عنه.

8 )- ذكره السبكي في "الآثار التي لم يجد لها إسنادا".

9 )- أخرجه مسلم في "صحيحه" (4/2112) رقم (2758) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.