رابعاً: من مواقف العزة داخل السجن:

اراد الكمندتور رينسي (السكرتير العام لحكومة برقة) في أمسية الرابع عشر من سبتمبر أن يقحم الشارف الغرياني في موقف حرج مع عمر المختار وهو في السجن وابلغ الشارف الغرياني بأن المختار طلب مقابلتك والحكومة الايطالية لاترى مانعاً من تلبية طلبه، وذهب الشارف الغرياني الى السجن لمقابلة الشيخ الجليل وعندما ألتقيا خيم السكوت الرهيب ولم يتكلم المختار فقال الشارف الغرياني هذا المثل الشعبي مخاطباً به السيد عمر (الحاصلة سقيمة والصقر مايتخبل) وماكاد المختار يسمع المثل المذكور حتى رفع رأسه ونظر بحدة الى الشارف الغرياني وقال له: الحمد لله الذي لايحمد على مكروه سواه وسكت هنيئة ثم اردف قائلاً: رب هب لي من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، أنني لم أكن في حاجة الى وعظ او تلقين، أنني أومن بالقضاء والقدر، وأعرف فضائل الصبر والتسليم لإرادة الله ، أنني متعب من الجلوس هنا فقل لي ماذا تريد، وهنا أيقن الشارف الغرياني بأنه غرّر به فزاد تأثره وقال للمختار: ماوددت أن أراك هكذا ولقد أرغمت نفسي للمجيء بناءً على طلبك... فقال الشيخ الجليل، والجبل الشامخ أنا لم أطلبك ولن أطلب أحداً ولا حاجة لي عند أحد، ووقف دون أن ينتظر جواباً من الشارف الغرياني، وعاد الاخير الى منزله وهو مهموم حزين وقد صرّح بأنه شعر في ذلك اليوم بشيء ثقيل في نفسه ما شعر به طيلة حياته، ولما سئل الشارف الغرياني عن نوع الثياب التي كان يرتديها عمر المختار أهي ثياب السجن ام ثيابه التي وقع بها في الاسر كان جوابه هو البيتان الآتيان مستشهداً بهما:

عليه ثياب لو تقاس جميعها

بفلسٍ لكان الفلس منهن اكثرا

وفيهن نفس لو تقاس ببعضها

نفوس الورى كانت أجل وأكبرا

خامساً: عمر المختار أمام غراسياني السفاح:

اراد المولى عز وجل لحكمة يريدها أن يقف البطل الأشم والطود الشامخ الذي حير ايطاليا الكافرة النصرانية الكاثوليكية واشاع الرعب في قلوب جيوشها، أمام الرجل التافه الحقير المدعو غراسياني هذا حقير النفسية ، وضيع الاخلاق ، من أولئك الذين يرتفعون في كل عهد، ويأكلون على كل مائدة وكان من قادة الجيش الايطالي فلما جاء موسوليني ذلك الطبل الاجوف، وادعّى الزعامة على ايطاليا وحشر نفسه حشراً في صفوف الزعامات العالمية، كان غراسياني اول من صفق وقرع الطبول للزعامة الجديدة، وصار فاشيستياً أكثر من الفاشيستيين أنفسهم، امام هذا الرجل الحقير الذليل الخسيس التافة وقف البطل الأشم والطود المنيف شيخنا عمر المختار رحمه الله وتستطيع أن تفكر في هذا الموقف وتطيل التفكير، فإن النفوس الحقيرة الوضيعة ، لاتعرف الشرف، ولا الرجولة ولا الكرامة ولا الاخلاق إذا خاصمت، فما يكاد عدوها يقع في يدها حتى تفعل به الافاعيل ، وتصب عليه أصنافاً وألوناً من العذاب!! يدفعها الى ذلك ، شدة إحساسها بحقدها وعظمة عدوها، وشدة شعورها بنقصها وكمال اسيرها.

من اجل ذلك دفعت الشماتة هذا الرجل الحقير أن يقطع رحلته الى باريس وان يعود فوراً الى بنغازي، وأن يدعوا المحكمة الطائرة الى الانعقاد ودفعت غريزة الشماته غراسياني أن يستدعي البطل في صبيحة اليوم نفسه، وقبل المحاكمة بقليل.

يقول غراسياني في مذكراته : (وعندما حضر امام مدخل مكتبي تهيأ لي أني ارى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم اثناء قيامي بالحروب الصحراوية، يداه مكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة وجهه مضغوطاً لأنه كان مغطياً رأسه (بالجرد) ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالاجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال منظره وهيبته رغم إنه يشعر بمرارة الاسر. هاهو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ، وواضح وكان ترجماني المخلص النقيب (كابتن) خليفة خالد الغرياني الذي احضرته معي خصيصاً من طرابلس ووجهت له اول سؤال : لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشيستية؟

ج- لأن ديني يأمرني بذلك.

س- هل كنت تأمل في يوم من الايام أن تطردنا من برقة بامكانياتك الضئيلة وعددك القليل.

ج- لا هذا كان مستحيلاً.

س- إذاً ماالذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟

ج- لا شيء إلا طردكم من بلادي لأنكم مغتصبون ، أما الحرب فهو فرض علينا وماالنصر إلا من عند الله.

س- لكن كتابك يقول: {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة} بمعنى لاتجلبوا الضرر لأنفسكم ولا لغيركم من الناس، القرآن يقول هذا.

ج- نعم.

س- إذاً لماذا تحارب؟

ج- كما قلت من أجل وطني وديني.

قال غراسياني : فما كان مني إلا أن قلت له أنت تحارب من أجل السنوسية تلك المنظمة التي كانت السبب في تدمير الشعب والبلاد على السواء وفي الوقت نفسه كانت المنظمة تستغل أموال الناس بدون حق هذا هو الحافز الذي جعلك تحاربنا لا الدين والوطن كما قلت .

عمر المختار: نظر اليّ نظرة حادة كالوحش المفترس: لست على حق فيما تقول ولك أن تظن ماظننت ولكن الحقيقة الساطعة التي لا غبار عليها أنني أحاربكم من أجل ديني ووطني لا كما قلت بان عليّ وجهه بعد أن زال الجرد من على رأسه واستطردت في توجيه الاسئلة إليه:

س- لماذا قطعت المهادنة السارية وامرت بالهجوم على (قصر بن قدين) .

ج- لأنه منذ شهر ارسلت الى المارشال (بادوليو) ولم يجيبني عنها وبقيت بدون رد حتى الآن.

يقول الجنرال لا أنت أردت قطع المهادنة لحاجة في نفسك وهاك الدليل وقرأت له البيان الذي نشره فوق الجرائد المصرية بتوقيعه؟ولم يرد في بادئ الأمر وحنى رأسه مفكراً ثم قال:

عمر المختار - نعم نشرت البيان في مصر بتوقيعي ولكن ليس هذا هو الدليل وإنما هو عدم تجاوبكم معنا في تنفيذ شروط الهدنة، ولم يزد شيئاً بل حنى راسه اعياء.

س- هل أمرت بقتل الطيارين هوبر وبياتي.

ج- نعم: كل الاخطاء والتهم في الواقع هي مسؤولية الرئيس والحرب هي الحرب.

الجنرال : قلت له هذا صحيح لو كان حرباً حقيقية لا قتل وسلب مثل حروبك.

عمر المختار: هذا رأي، فيه إعادة نظر وانت الذي تقول هذا الكلام ولازلت أكرر لك الحرب هي الحرب.

الجنرال: بموقفك في موقعة (قصربن قدين) ضيعت كل أمل وكل حق في الحصول على رحمة وعفو الحكومة الايطالية الفاشيستية.

عمر المختار: مكتوب (كلمة لتفسير معنى القضاء والقدر في العقيدة الاسلامية) وعلى كل عندما وقع جوادي وألقي القبض عليّ كانت معي ست طلقات وكان في استطاعتي أن أدافع عن نفسي وأقتل كل من يقترب مني حتى الذي قبض عليّ وهو أحد الجنود من فرقة الصواري المتطوعين معكم وكان في إمكاني كذلك أن أقتل نفسي.

الجنرال: ولماذا لم تفعل؟

عمر المختار: لأنه كان مقدراً أن يكون.

الجنرال: ولكن قد تحقق فيما بعد إلقاء القبض عليه كانت بندقيته فوق ظهره وبسقوطه على الأرض لم يستطيع نزعها وبالتالي لم يتمكن من استعمالها بسرعة وكذلك من أثر الجروح والكسر الذي بيده اليمنى وهذا في الحقيقة جدير بالاعتبار والتقدير.

وهذا اعتراف من السفاح إبان تجبره وطغيانه ونشوة انتصاره يعترف بقوة عمر المختار ويقدر فيه بطولته وجهاده التي لم يرلها مثيل وقال شوقي رحمه الله في رثاء عمر المختار مايجسد هذا الموقف:

جرح يصيح على المدى وضحيه

تلتمس الحرية الحمراء

عمر المختار: كما ترى أنا طاعن في السن على الاقل اتركني بأن أجلس .

الجنرال: أشرت له فجلس على كرسيه أمام مكتبي وفي هذه الاثناء ظهر لي وجهه بوضوح وقد زالت رهبة الموقف وقد تأملته جانبياً فرأيت بعض الاحمرار في وجهه وبدأت أفكر كيف كان يحكم ويقود المعارك. وبينما هو يتكلم كانت نظراته ثابتة الى الامام وصوته نابع من أعماقه ويخرج من بين شفتيه بكلمات ثابتة وبكل هدوء وفكرت ثانية هذا هو القديس، لان كلامه عن الدين والجهاد يدل بكل تأكيد أنه مؤمن صادق يتكلم عن الدين بكل حماس وتأثر . ثم قلت له فجأة: بمالك من نفوذ وجاه كم يوم يمكنك أن تأمر العصاة (يعني المجاهدين) بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا اسلحتنا وينهوا الحرب.

عمر المختار: مجيباً أبداً كأسير لايمكنني أن أعمل أي شيء واستطرد قائلاً: وبدون جدوى نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر ولانسلّم أو نلقى السلاح وأنا هنا لم يسبق لي أن استسلمت هنا على ماأظن حقيقي وثابت عندكم.

الجنرال: قلت له وانا متماسك يمكن ذلك لو تم تعارفنا في وقت سابق والخبرة طويلة التي أخذتها عليكم لكان علينا ان نصل الى احسن حال في سبيل تهدئة البلاد وازدهارها.

(عمر المختار) : رفع حاجيبه بكل عمق وبصوت جهوري، وثابت قال: ولم لا يكن اليوم هو ذلك اليوم الذي تقول عنه.

الجنرال: فأجبته: لقد فات الأوان.

وعند هذا الحد رأيت ان نوقف المحادثة فيما بيننا ربما عمر المختار فكر في تلك اللحظة أن الحكومة الايطالية ستبعثه الى الجبل من أجل أن يسلّم أتباعه السلاح ويخضعوا الى سلطتنا ولكن لا : لقد قالها منذ لحظات بأنهم يموتون جميعاً ولن يستسلموا وعليه لقد فات الأوان وقلتها بنفسك لا فائدة من المحاولة إن الامل الذي لاح منذ قليل قد انهار ولم يعد . ثم قلت له: هل تعرف هذه وعرضت عليه نظاراته في إطارها الفضي.