كتب سمير قصير مرة الى صديقه السوري فاروق مردم بك: 'شعبك عظيم يا اخي'. ولو كان سمير حياً لكتب اليوم الى جميع اصدقائه السوريين بأن شعبهم عظيم، وقال لهم ان ياسمين الحرية يزهر اليوم في الشام، وان مواكب الشهداء تستعيد تاريخ سورية من قبضة الاستبداد، وتجعل من الشام قلب العروبة وحلمها المستعاد.
لكن سمير قصير قتل اغتيالاً في بيروت في 2 حزيران(يونيو) 2005، وصار شهيد الثورة الديمقراطية في سورية، مثلما كتب صبحي حديدي.
' ' '
كانت الجمعة عظيمة في معانيها. بلاغتها الكبرى هي انها اعلنت نهاية الاستبداد. يستطيع النظام ان يتابع القتل لكنه فقد سطوته وانهارت هيبته. وحين يسقط جدار الخوف، ويعلن المستعبدون حريتهم، تسقط العبودية، ولا يبقى امام القاتل سوى ممارسة الجريمة الى النهاية، والنهاية لن تكون سوى نهايته.
امام جلال التضحيات لا نستطيع سوى الانحناء امام هذه البطولات التي لا تفسرها سوى كلمة واحدة هي الكرامة. شعب اعلن انه لن يُذلّ بعد اليوم. شعب لا يملك سوى كرامته كي يدافع بها عن وجوده. انتفضت كرامة الناس في وجوه من يعتقدون ان شعبهم بلا كرامة. لقد اساء النظام تفسير صبر الشعب السوري، فاعتــــقد ان اذلال الـــناس يضــــمن ولاءهم، فاذا به يُفاجأ بأن الشعار الأساسي هو رفض الذلّ، وبأن هذا الشعب يختزن في داخله الاباء والعزة، وانه يموت ولا يركع.
كانت الجمعة عظيمة في شجاعتها. امام الرصاص المنهمر من قناصة النظام، تابعت الحناجر اطلاق صيحة الحرية. المشاهد على اليو تيوب والفيسبوك تثير الهول والأسى، لكنها ايضا تعلن بأن لا عودة الى الوراء.
' ' '
في بدايات التحرك التي اشعلت درعا وحوران، كسر الشعب جدار الخوف. فامتدت المظاهرات الى دوما وحمص وضواحي دمشق وبانياس وجبلة والجزيرة والقامشلي وحماة ودمشق وحلب.
اما في يوم الجمعة العظيمة فلقـــد اعلنت القطيعة النهائية بين الشعب والنظام. وهنا تكمن الأهمية الكبــرى لهذا اليوم الذي سيدخل التاريخ السوري في وصفه بداية نهاية الاستبداد.
القطيعة اعلنها النظام، حين اظهر انه متخشّب وغير قادر على التغير، وان لعبة الغاء قانون الطوارئ لم تكن سوى غطاء لتشديد القمع وســـفك الدماء. فــفي بلد يعـــيش منذ اربعة عقود بلا قانون يحكم العلاقة بين الحاكم والمحـــكوم، وفي نظام يتصرف كأنه يمتلك الارض ورقاب الناس، يصير الاصلاح وهما. الاصلاح يبدأ باسقاط وحدانية الحزب وهيمنة العائلة الحاكمة، وتفكيك الاجهزة الامنية المرعبة، والا فلا اصلاح.
يوم الجمعة اعلنت القطيعة، وحين يفقد النظام صلته بالواقع، لا يبقى امامه سوى هذيان القتل وجنون الجريمة. لكن الهذيان والجريمة لا يستطيعان انقاذه من حافة الهاوية التي وصل اليها.
' ' '
لا يطلب الشعب السوري المستحيل، مطلبه واضح وبسيط هو استعادة كرامته كشعب وكرامات افراده كمواطنين. هذا المطلب البسيط والواضح يبدو عصياً على الفهم عند قادة السلطة ورتل المروجين لها.
فلقد نسيت السلطة انها تحكم شعباً، وان حكمها لا شرعية له اذا لم يكن نتاج تفويض شعبي، وان السياسة هي محصلة توازن اجتماعي وليست نتاج القهر والقمع.
وفي يوم الجمعة العظيمة حين خرج الشعب السوري من الجزيرة الى حوران ومن حمص الى دمشق، ليعلن انه يريد استعادة حقه في صوته وفي صناعة سياسة وطنه، لجأ النظام الى القتل، وامتد خيط الدم من حمص الى ازرع مرورا بالشام، وبدا وكأن الأجهزة الأمنية تمارس هواية صيد الشعب الأعزل، وان الاستبداد لا يعطش الا الى دماء الأبرياء.
لن يستطيع النظام حلّ مشكلة الانسداد السياسي الذي يخنقه بالقمع. فالقمع مهما اشتد ليس سوى سلاح محدود الفاعلية والأثر. المشكلة السياسية لا تحل امنياً بل تحل سياسياً. ولأن النظام لا يملك سوى لغة سياسية خشبية لا ترى سوى المؤامرات والدسائس، ولا تعي ان الشعب السوري لم يعد يحتمل، فان شعار الشعب يريد اسقاط النظام الذي بدأ في تونس وامتد الى مصر، صار اليوم شعار الشعب السوري.
' ' '
بمقدار ما تتجلى عظمة الثورة السورية، بمقدار ما تكشف السياسة اللبنانية السائدة عن خوائها وعقمها. بدل ان يتعظ امراء الخراب والطوائف اللبنانية من انتفاضة الشعب ضد النظام، ومن عظم التضحيات الشعبية السورية وبلاغة الدم المراق، اذا بهم يحاولون تجيير ما يجري في سورية لتصفية حسابات فئوية وطائفية لن يكون لها اي مكان غدا، حين ستعلن الجمعة العظيمة انها كانت مقدمة لفجر القيامة المجيد في بلاد الشام كلها.
غداً حين سينبلج الفجر وتتهاوى الديكتاتورية ويبدأ نظام امراء الطوائف اللبنانية في التداعي، غداً سوف تستعيد الكلمات معانيها، وتصير وحدة المصير عنواناً لحرية الشعبين وعلاقتهما التي لا تنفصم.
لكن يجب ان لا ينسى اللبنانيون، ان من احتمى بالنظام السوري المستبد مثله مثل من غذى العنصرية ضد الشعب السوري، كلاهما كان يحاول تدمير العلاقة التاريخية العميقة بين الشعبين، وان الشعب السوري يستحق اعتذاراً من كل من شوّه صورته.
اما نحن فننحني للشهداء، ونقول للأحبة في سورية ان حريتهم هي حرية العرب جميعاً، وتضحياتهم هي نور يبدد الظلام العربي.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)