وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك (1) .
أيها اللبيب
إن لله عبادا فطنا
نظروا فيها لما علموا
جعلوها لجة واتخذوا



طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
أنها ليست لحي وطنا
صالح الأعمال فيها صفنا


فالدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار نجاة لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، فهي مصلى أنبياء الله ، ومتجر أولياء الله ربحوا فيها الرحمة ، واكتسبوا فيها الجنة ، وبعد الموت بعث .
{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [التغابن/7] بعد الموت حياة بزخية لا يعلم حقيقتها إلا رب البرية ، ولا ينبغي أن تعمل عقلك في الحكم على هذه الحياة ، لأنها حياة لم يطلع عليها ملك مقرب ولا نبي مرسل .
قال ابن القيم : إن الله – تعالى – خلق الدور الثلاثة : دار الدنيا ودار البرزخ ، ودار القرار : وجعل الله الحياة في دار الدنيا تسري على الأبدان والأرواح تبعاً لها ، وجعل الله الأحكام في دار البرزخ ، تسري على الأرواح والأبدان تبعاً لها ، وجعل الأحكام في دار القرار تسري على الأرواح والأبدان معاً .
فسر المسألة في حياة البرزخ أنم نور القبر وناره وسعة قبره وضيقه ليس من جنس نور الدنيا ونار الدنيا ، وليس من جنس سعة وضيق الدنيا .
وقد ترى الرجلين في فراش واحد في حياتنا الدنيا يستيقظ أحدهما ، وتبدو عليه معالم وآثار النعيم ويقول لك : لقد كنت مع النبي r الليلة الماضية ، أو يقول : قد رأيتني الليلة الماضية في الجنة ورأيت كذا وكذا ، تبدو عليه آثار النعيم ويستيقظ الآخر في ذات الفراش وعليه آثار العذاب والآلام ويقول : إنه والعياذ بالله قد عاين جهنم أو رأى كذا وكذا ، أو رأى كابوساً ، كاد يخنق أنفاسه .
الرجلان في فراش واحد الأول في نعيم والآخر في آلام وعذاب ، لا يشعر أحدهما(1) بالآخر ، هذا في عالم الدنيا فما يحدث في عالم البرزخ أعجب من كل ذلك بكثير ، فكل ما دار ببالك ، فحياة البرزخ بخلاف ذلك ، لا يعلم حقيقته ملك مقرب ولا نبي مرسل .
ونحن ندين الله – جل وعلا – بأن حياة البرزخ إما أن يحيا أصحابها في نعيم دائم، إلى يوم القيامة ، إما أن يعيش أصحابها في عذاب لا يعلم وقته إلا الله، نسأل الله أن يجعلنا من أهل النعيم في الدنيا والآخرة .
وبعد البرزخ بعث ، لا تستكثر الأمر على الله ، فالله – جل وعلا – على كل شيء قدير، أمره – جل وعلا – بين الكاف والنون: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس/82] .
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه r قال: ((كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: يا أولادي إذا مت فحرقوني ، حتى إذا صرت فحما فاسحقوني، فإذا كان يوم ريح عاصف فاذروني)) .
وفي لفظ في الصحيح : (( فأذروا نصفي في البر ونصفي في البحر فإن قدر علىّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحدا من العالمين )) قال رسول الله r: (( فلما مات فعل به بنوه ذلك فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر الله البر فجمع ما فيه ثم قال الله له : كن فإذا هو رجل قائم بين يديه – جل وعلا – فقال له ربنا : ما حملك على ذلك ؟ قال مخافتك يارب )) وفي لفظ: ((خشيتك يارب وأنت أعلم)) قال النبي r: ((فغفر الله له بذلك)) .
الله – جل وعلا – قادر على أن يبعثك ، لأنه خلقك ولم تك شيئا .
روى البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي r قال: (( قال الله تعالى – في الحديث القدسي : كذبني ابن آدم ، ولم يكن له ذلك وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني – قال – وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته ، أما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد )) ([1]).
وقد ضرب الله لنا بعض الأمثلة في القرآن على البعث بعد الموت فهذا العاصي العاص بن وائل الذي جاء بعظام بالية ، يفتتها يوما بين يديه أمام رسول الله r وهو يقول: يا محمد أتزعم أن ربك يحي هذه بعد ما صارت رميما فقال له النبي r: ((نعم يميتك ثم يبعثك ثم يدخلك جهنم)) فنزل قول الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ{77} وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ{78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [ يس / 77-79] الآيات .
فبعد البرزخ بعث ، وآه من البعث ومشهده ! فبعد البعث حشر إلى أرض ستقف عليها لتحاسب بين يدي الحق – جل وعلا .
تدبر قول الصادق الذي لا ينطق عن الهوىr كما في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)) فمن مات على طاعة بعث يوم القيامة على ذات الطاعة ومن مات على معصية بعث يوم القيامة على ذات المعصية (( يبعث كل عبد على ما مات عليه )) ([2])فمنهم من يبعث والنور يشرق من وجهه ، ومن يمينه ومن بين يديه ، اللهم اجعلنا من أهل الأنوار : { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التحريم/8].
قال ابن مسعود – والأثر رواه أحمد في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي وابن مردويه وغيرهم: منهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم ، ومنهم من يكون نوره على إبهامه، يوقد مرة ويطفأ مرة، ومنهم من تحيط به الظلمة من كل ناحية ([3]).
قال – جل وعلا: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ{13} يُنَادُونَهُمْ} [الحديد/14،13] . أي ينادون أهل الأنوار ، ينادي أهل الظلمات أهل الأنوار . أي ينادي أهل النفاق ، أهل الإيمان {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } أي : ألم نكن معكم نشهد الجمعات ؟ ألم نحضر معكم الجماعات ؟ ألم نشهد معكم الغزوات ؟ { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } فتنتم أنفسكم بالشرك أو النفاق {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ } أي بالإيمان ولأهله {وَارْتَبْتُمْ } أي تشككتم في وعد الله ورسوله {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [ الحديد /14] .
فمنهم من تحيط به الظلمة من كل ناحية ، نسأل الله – جل وعلا – إلا يحرمنا نوراً في الدنيا والآخرة ، اللهم لا تحرمنا النور ، يوم تقسم الأنوار برحمتك يا عزيز يا غفار.
ومنهم من يبعث من قبره وهو يقول لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك، إلى أين ؟ أنت في أرض المحشر ، ولست في أرض عرفة من هذا ؟ هذا الذي مات في الحج والعمرة بملابس الإحرام .
وحديثه في الصحيحين من حديث ابن عباس قال r: ((فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا)) ([4]).
ومنهم من يبعث ينبعث منه دم، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، من هؤلاء؟ هؤلاء الشهداء في سبيل الله والحديث في الصحيحين ([5]).
ومنهم من يبعث وهو لا يقوى على القيام ، إذا وقف وقع على الأرض ، وإذا وقع وأراد أن يستوي على الأرض تلبط في الأرض يمنة ويسرة ، لا يستطيع قياماً ولا جلوساً ، منظر يخلع القلوب من هذا ؟ هذا آكل الربا .
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } لا ، لا ، قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة/275] .
ومنهم من يبعث ، ترى مجموعة من الأطفال يجرونه جراً ويدفعونه دفعاً ، ليقدموه في أرض المحشر ليوقفوه بين يدي الله عز وجل من هذا ؟ ومن هؤلاء ؟ هذا آكل أموال اليتامى ، وهؤلاء هم اليتامى يدفعونه دفعاً ليوقفوه بين يدي الله : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء/10] .
ومنهم من يبعث وكأس الخمر في يده ، مات وكأس الخمر في يده فيبعث وكأس الخمر في يده ، من أين جاء ؟ الله أعلم . ومنهم من يبعث وقد سرق في الدنيا تراه يمشي في أرض المحشر ، وهو يحمل بيضة سرقها أو يحمل دجاجة ، أو يحمل شاة أو ناقة أو يحمل بنكا ، أو يحمل أمة ، فهناك من سرق بنكا ، وهناك من سرق أمة ، يبعث يوم القيامة ، وهو يحمل ما سرق ، إن لم يتب إلى الله قال – جل وعلا : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [آل عمران/161] .
تصور هذه المشاهد التي تخلع القلوب ، ونحن نقص حقيقتها ، كيف لو عايناها ؟ كيف لو شاهدناها ، ولا تتصور أن الخلق سيبعثون بثياب ، أو بمراكز أو بمناصب، كلا.
قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – كما في الصحيحين من حديث عائشة: ((يحشر الناس حفاة عراة غرلا )) ((حفاة)) نعرف معنى اللفظة ، من لا يلبس في قدميه نعلا ((عراة)) من لا يحمل على بدنه ثوباً ، ((غرلا)) حتى هذا ((غرلا)): جمع أغرل والأغرل هو الصبي قبل ختانه، حتى هذه القطعة التى قطعت يوم ختانك ترد إليك، قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء/104] (( يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا)) .