التخطيط في النظام الرأسمالي
وجدت غالبية الدول الرأسمالية نفسها إبان أزمة الثلاثينات من القرن الماضي مرغمة على التدخل في الشأن الاقتصادي وإعطاء أهمية خاصة لحماية المنتجين المحليين في وجه المنافسة الخارجية والسماح بإقامة الكارتيلات وضرورة مبادرة الدولة للقيام بالإنفاق لأغراض اقتصادية وعسكرية.
أتت الدفعات الأولى للتخطيط من اليسار السياسي، واستندت إلى اعتبارات واقعية وأحياناً سياسية، وكان اللجوء للتخطيط يتبع غالباً حدوث أزمة اقتصادية كحال فرنسة بعد الحرب العالمية الثانية وضرورة إعادة إعمار الاقتصاد الوطني وتحديثه، وحالة بريطانية لمعالجة أزمة ميزان المدفوعات عام 1961. وبصورة عامة فقد انبثق التخطيط في الدول الرأسمالية عن حالات عدم الرضا عن الأداء الاقتصادي وبروز عقبات جدية أعاقت مواصلة الاتجاه الصاعد للنمو الاقتصادي الذي حدث إبان فترة إعادة الإعمار، وعليه فقد ركزت الخطط الاقتصادية لهذه الدول على رفع معدلات النمو إلى 4-5٪ سنوياً وزيادة الإنفاق على السلع والخدمات والاستهلاك العام والخاص وزيادة الاستثمار الإنتاجي والاجتماعي إلى جانب رفع وتيرة التصدير. كما اهتمت الخطط بتحقيق التوازن الإجمالي بين الطلب الكلي والعرض الكلي للسلع والخدمات وتحقيق فائض نسبي في ميزان المدفوعات وزيادة الاستهلاك الفردي والجماعي من الخدمات الصحية والتعليمية والثقافية، وهذا إلى جانب الاهتمام بتصحيح حالات عدم التوازن في مجالات التنمية الإقليمية، إذ برز ذلك في خطط كل من بريطانية وفرنسة وهولندة وإيطالية وبرامجها.
مستجدات التخطيط في الدول الرأسمالية
استندت المحاولات الأولى للتخطيط إلى إقامة التوازنات الاقتصادية والمالية بتحديد حجوم الموارد الاقتصادية المتوقع أن تكون متاحة ومقارنتها بالكميات التي ستحتاج إليها الخطة. وأهم هذه التوازنات تركزت على العرض والطلب من السلع والخدمات والتوازن بالنسبة للادخار وقوة العمل ومسألة القطع الأجنبي. وما من شك أن اعتماد مثل هذا النهج في التخطيط على أهميته يلاقي الكثير من الصعوبات بسبب الأوجه العديدة واللامتناهية للعلاقات بين القطاعات المختلفة، وخاصة أن أي تعديلات لمجموعة من الموازين يستوجب إجراء تعديلاته في مجموعات الموازين الأخرى. إضافة إلى أن هذا الأسلوب من التخطيط قد يقلل الاهتمام بجانب آخر أكثر ارتباطاً بعملية صنع القرار الاقتصادي، وهو الحاجة إلى الاختيار بين بدائل العمل المختلفة، ولكل منها خصوصياته.
أما الأسلوب الآخر الذي حل محل أسلوب الموازين بدرجة أو بأخرى فقد اعتمد على النموذج الرياضي ودراسات تحليل التكلفة ـ المنفعةcost-benefit analysis. هذا النموذج الذي يتكون من سلسلة من المعادلات الرياضية التي توصف عمل الاقتصاد الوطني وهيكليته، يمكن من التعاطي مع مجموعات مختلفة من الأهداف بطريقة إدخال قيم هذه الأهداف في الحاسوب.
إن تحليل نموذج التكلفة ـ المنفعة المعرف أحياناً بنظام تخطيط الموازنة وبرمجتها يمثل جهداً إيجابياً لتطوير الإنفاقات الحكومية باعتبارها غير حساسة لمسألة السعر والربحية.
إن التخطيط والبرمجة الرأسمالية يتركان هامشاً كبيراً للمبادرة الخاصة للمستهلكين والمنتجين ولا يقيدان من إمكانية اعتماد أدوات السياسة الاقتصادية والمالية مما يوفر للخطة مساحة واسعة من المرونة والحركية.
التخطيط في دول العالم الثالث
ما إن حصلت الدول النامية على استقلالها السياسي حتى شرعت في إدخال أسلوب التخطيط الاقتصادي، واعتمدت غالبيتها على نظام الخطط الخمسية التي كانت محاولات لتطوير عملية التنمية من خلال ثلاثة مداخل:
1ـ العمل على زيادة الحجم الكلي للاستثمار.
2ـ توجيه بعض الاستثمارات لإزالة الاختناقات في نطاق الإنتاج بالنسبة للقطاعات الاقتصادية الرئيسية.
3ـ العمل على تأمين مستوى جيد للتنسيق والتوافق بين الأجزاء المختلفة للخطة.
وكانت هذه الدول النامية الفتية تبدأ عملها التخطيطي ببرامج وخطط مبسطة تتضمن قائمة بمشروعات مطروحة من الإدارات الحكومية المختلفة من دون مراعاة لشروط التكامل فيما بينها. ومع ذلك فقد كان بالإمكان لهذا المستوى من التخطيط أن يحقق كثير من الفوائد، ويقلص من الاختناقات فيما لو انتُقيت المشروعات وصُمِّمت بصورة صحيحة وأكثر ملاءمة، وكانت المشكلة الدائمة في أن إدراج هذه المشروعات كان يتم في كثير من الأحيان من دون دراسة وافية ومن دون تقويم موضوعي لتكاليفها ومنافعها، إلى جانب أن ضعف التنسيق فيما بينها يزيد من نسبة الهدر ويقلص من دور الأولويات.
وفي تنفيذ هذه البرامج الاستثمارية جرى الاعتماد على دور الموازنة السنوية في التخطيط، وحاولت بعض الدول الانتقال بالتخطيط إلى مرحلة التخطيط الشامل الذي يضم نشاط القطاعين العام والخاص، ويجمع بين النشاط الاقتصادي الكلي ومستوى المكونات التفصيلية للمتغيرات الإجمالية، كما يمثل نوعاً من عدم الثقة في دور آلية السوق لتحقيق التنمية، ويعبر عن رغبة الدولة في تحقيق الاستقلال الاقتصادي والسيطرة على النشاط الاستثماري والتجارة الخارجية إضافة إلى قيامها بعملية الدفعة القوية التي تستطيع من خلالها إقامة مجموعة من المشروعات المتكاملة اقتصادياً وتقنياً.
التخطيط الاقتصادي في سورية
تعد سورية في البلدان النامية التي بدأت مبكرة بمحاولة برمجة عملية التطور فيها، وتزايد أثر الدولة في الشأن الاقتصادي وخاصة في مجالات الخدمات الصحية والتعليمية وتطور الجهاز الإداري والحكومي.
في نهاية الخمسينات أحدثت وزارة التخطيط، وكانت مهمتها تنمية الاقتصاد الوطني وتحديد اتجاهات التنمية، وبعد ثورة الثامن من آذار وحدوث التحولات الاقتصادية والسياسية البارزة في البلاد أُحدث المجلس الأعلى للتخطيط، والمجالس الفرعية المتخصصة في الزراعة والصحة والتعليم والدواء. مما أعطى النظام التخطيطي ملامح جديدة، فأعيدت صياغة الخطة الخمسية الأولى، وتتابع إعداد الخطط الخمسية وتنفيذها بما يتفق وتبدل الظروف والأحوال.
فالخطط الخمسية الثلاثة الأولى لم تشهد عملياً تغييرات جوهرية في أسلوب إعداد الخطة وطريقتها مع التوسع الكبير في حجم الاستثمار، وركزت الخطتان الثالثة والرابعة على تطوير القطاع الصناعي، أما الخطة الخامسة فقد جرى إعدادها ضمن تصورات بعيدة المدى حتى عام الألفين، وتضمنت إلى جانب البرنامج الاستثماري خطة للقوى العاملة وخطة للتنمية المحلية. وكانت جميع الخطط حتى الخطة الخمسية الخامسة تصدر بقانون يلزم الجهات التنفيذية أهداف الخطة، أما الخطط اللاحقة بعد عام 1985 فقد توقف إصدارها بقانون وصار النشاط الاقتصادي للدولة يتم في إطار الموازنة السنوية مع الاستمرار في إعداد مشروعات الخطط الخمسية، ويمكن بيان أهم سمات التجربة التخطيطية للقطر كما يأتي:
1ـ تمثل الخطط الخمسية برامج استثمارية بالدرجة الأولى تتضمن مجموعة من المشروعات الموزعة على القطاعات المختلفة دون مراعاة وافية لمبدأ التكامل الأفقي والعمودي بين هذه المشروعات.
2ـ يغلب على التخطيط في سورية الطابع المركزي من حيث أن القرارات التنموية مشدودة بصورة عامة نحو الأعلى، دون أن يتحول إلى عمل جماهيري شامل.
3ـ تركزت الخطط الخمسية الأولى على دور القطاع العام بصورة رئيسية مع إغفال نسبي لدور القطاع الخاص، ولوحظ الميل لزيادة دور هذا القطاع منذ النصف الثاني لعقد الثمانينات من القرن الماضي.
4ـ عدم انطلاق البرامج الاستثمارية من خطط إنمائية بعيدة المدى تتوضع فيها استراتيجية للتنمية واضحة المعالم والأبعاد، قد أضعف من الترابط بين الخطط الخمسية للبلاد وبينها وبين الخطط السنوية وجعل من المهمات الأساسية لكل خطة معالجة انحرافات الخطة السابقة.
5ـ كان لافتقار وجود دراسات علمية وافية لواقع توزيع الدخل بين الاستهلاك والتراكم وغياب التخطيط الإقليمي؛ أثره الواضح في إعاقة تطبيق مبدأ الشمولية في التخطيط.