الارتزاق بالسخاء
إن الارتزاق في التمدن الحديث مبني على قواعد اقتصادية عمرانية تحفظ توازن القوى ونتائجها فينال الإنسان من رزقه على مقدار كدّه وجدّه مع اعتبار درجة عقله وذكائه سواء كان ذلك بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة أو غيرها. وقد وضعوا لكل من أبواب الرزق قواعد في تقدير الأرباح لا تتعداها إلا في أحوال خصوصية ترتفع فيها الأسعار فجأة، وفي كل حال فالصانع تقدّر أجرته بمقدار عمله والتاجر يقدر ربحه بنسبة رأس ماله.
أما في التمدن الإسلامي فقد كان الارتزاق يقرب من ذلك في طبقة العامة من المزارعين والباعة وأهل الصناعات. وأما في الخاصة وأتباعهم فكان على أسلوب آخر لا مثيل له بين المتمدنين في هذا العصر ومداره (السخاء) المتسلسل من الخلفاء فالوزراء فما بعدهم ممن يعيشون حول البلاط ويرتزقون من رجال الدولة، ومصدر هذه الأرزاق بيت المال وهو في قبضة الخليفة أو من يقوم مقامه من الوزراء أو القوّاد أو الأمراء على حسب أطوار النفوذ. والأموال تأتي بيت المال من جباية الخراج والجزية.
سُنّة الخلفاء في الارتزاق
والأموال التي تبقى في خزانة الدولة يعطى بعضها رواتب لموظفيها ويفرق سائرها في من بقي من الخاصة بين جوائز ورواتب فتتسع أحوالهم بالجاه أكثر مما بالمال فيضطرون إلى الإنفاق لحفظ مقامهم، فينفقون على من يتعلق بهم فينتقل المال على هذه الصورة من الخليفة ووزرائه وعماله إلى حواشيهم وأتباعهم ومن هؤلاء إلى الباعة وأهل الأسواق فيعود إلى العامة كأنه لم يؤخذ منهم، وهي سنّة في الارتزاق تظهر لأول وهلة أنها من خصائص التمدن الإسلامي ولكنها كانت على نحو ذلك في التمدن القديم. والسبب في بقاء هذه السنّة مع ذهاب غيرها من المناقب أنها لازمة لبقاء الدول في تلك العصور وخصوصاً في الإسلام منذ طمع بنو أمية بالخلافة واستخدموا الأموال في ابتياع الأحزاب واسترضاء كبار الرجال فعوّدوا الناس العطاء فلما قام العباسيون لم يستطيعوا الرجوع عنه بل تجاوزوه من بعض الوجوه فصار السخاء ضرورياً لقيام الدولة وإلا فسد عليها حماتها وتمرّد أهلها، أما بالنسبة إلى العامة فكانوا يسترضونهم بأبسط أساليب السخاء وهي الضيافة فكانوا ينصبون لهم الموائد يدعونهم إلى الطعام فيجتمع على مائدة الأمير ألوف من العامة يأكلون معاً صباحاً ومساء. كان ذلك دأبهم في عصر الخلفاء الأربعة جروا به على سنّة العرب ثم احتاجوا إليه بعد الإسلام في استرضاء القبائل المختلفة فبالغوا فيه حتى نصبوا الموائد على الطرق وأول من فعل ذلك عبيد الله بن عباس.
وجرى الدهاة من عمال الأمويين على هذه السنّة فنصبوا الموائد على الطرق فكان الحجاج يضع في كل يوم من أيام رمضان ألف خوان وفي سائر الأيام خمسمائة خوان على كل خوان عشرة أنفس وعشرة ألوان وسمكة مشوية طرية وأرز بسكر وكان يدور هو بنفسه على الموائد يتفقّدها يحملونه إليها في محفة وينتقلون به من خوان إلى خوان فإذا رأى أرز ليس عليها سكر أمر الخباز أن يجيء بسكرها فإذا أبطأ حتى أكلت الأرز بلا سكر أمر به فضرب 200 سوط، وكذلك كان يفعل عمال الحجاج في سائر المدن فكان بعضهم ينصب الموائد مرتين في اليوم للغداء والعشاء وكان يوسف بن عمر عامل هشام بن عبد الملك ينصب خمسمائة خوان وكان يزيد بن هبيرة يضع ألف خوان يطعم الناس، وقس على ذلك سائر العمال وغيرهم كابن طولون بمصر فقد كانت له موائد يحضرها الخاص والعام وربما فرّقوا الطعام بلا موائد كما كان يفعل لؤلؤ الحاجب في أيام الفاطميين بمصر فإنه كان يفرّق 12.000 رغيف مع قدر الطعام كل يوم وإذا دخل رمضان ضاعف ذلك ويقف هو بنفسه ليفرّقه. غير ما كانوا يبذلونه في استرضاء العامة من الأموال على سبيل الصدقة فكان لكل من الخلفاء والأمراء والوزراء مال ينفقه صدقة، وإطعام العامة على هذه الصورة لم يكن خاصاً بالمسلمين وإنما هو أيضاً من سنن العصور الغابرة فقد كان العامة في رومية يعيشون من أطعمة يفرّقها فيهم أهل الدولة من الدقيق واللحم، وكان بعض ملوك الفرس ينصب 500 مائدة يجعل على كل واحدة نصف شاة وعلبة حلوى أو عسل وعشرة أرغفة وآنية شراب أو لبن وسمكة مشوية والمسلمون جروا على هذا الترتيب اقتداءً بالفرس مثل اقتدائهم بهم في كثير من آدابهم الاجتماعية، وكان الخلفاء يستحلّون مكافأة الشعراء وغيرهم من بيت المال لأنهم يعدون ذلك في سبيل مصلحة الدولة وإن لم يصرحوا به دفاعاً عن أنفسهم بل كانوا إذا سمعوا الانتقاد عليهم من أهل النفوذ الديني سكتوا واسترضوهم، ودافعوا عن أنفسهم كما فعل الرشيد والمهدي بسفيان الثوري.
ارتزاق الكبير من الصغير
ذلك ما يقال في ارتزاق الصغير من الكبير في التمدن الإسلامي. أما ارتزاق الكبير من الصغير فقد كان بعضه بالسخاء أيضاً ولكن على سبيل الهدية فيعدّون عطية الأمير إلى الصغير جائزة أو صلة ويسمون ما يقدمه الأصاغر إلى الأمير أو الوزير هدية، وكانت الهدايا شائعة على الخصوص في العصر العباسي فإذا تولى الأمير على بلدٍ فأول ما يدخلها يبعث أهلها إليه بالهدايا من الأموال والجواري والدواب والثياب وهو يبعث إلى الوزير الذي ولاّه أو الخليفة بالأموال على سبيل الهدية أيضاً وإذا طال مقامه أصبحت تلك الهدايا فرضاً واجباً يبعث بها كل سنة فإذا أمسكها سنة عدّوا إمساكه تمرّداً.
المجاملة في المعاملة
المجاملة من الطباع الراسخة في نفوس المسلمين وغيرهم من مولدي العرب اليوم، وذهب بعض الباحثين أنها فطرية في أصل أرومتهم وما هي كذلك وإنما تولدت فيهم بتوالي الأجيال وتقلب الأحوال.
وكان الخلفاء من الجهة الأخرى يداهنون الناس ويجاملونهم رغبةً في نصرتهم أو قطع ألسنتهم ويعدُّون ذلك (حلماً). وكان معاوية إذا أعجزه اصطناع الأحزاب بالعطاء أو بالحلم أو بالسيف جهاراً عمد إلى قتلهم غيلة وكان أنصاره يعرفون ذلك فيه وأنه يصانعهم ليغلب بهم فكانوا يصانعونه طمعاً بمال أو منصب فكانت المصانعة والمداهنة أساس سياسة معاوية. فلما قام الفرس لمناهضة الأمويين ونصرة العباسيين تراجع أبو مسلم عن الوفاء والأريحية وقتل على التهمة فأصبح الناس يخافون على حياتهم وإن لم يقترفوا ذنباً، فزادت حاجتهم إلى المصانعة، ولما فاز أبو مسلم بحربه وسلم مقاليد الدولة إلى العباسيين كانت فوضى بينهم وبين العلويين فلما تقلدها المنصور وطمع باستخلاصها للعباسيين فتك بأبي مسلم ثم قتل من قتله من العلويين وغيرهم فتضاغنت القلوب بين العباسيين والفرس وبينهم وبين العلويين وهم لا يستغنون عن الفرس لنظام حكومتهم وحماية دولتهم فاستخدموهم على غلٍّ ولجأوا إلى الاحتراس منهم واتقاء أذاهم إلى الجاسوسية فبثوا الأرصاد على وزرائهم وعمالهم يستطلعون أخبارهم ويبعثون بها إليهم سراً. والأرصاد نوعان: الأول: أصحاب البريد في الأطراف، والعمال يعلمون أنهم رقباء على أعمالهم، والثاني: العيون الخفية يتخذونهم من الجواري والغلمان مما يقدمه الخليفة هدية إلى وزيره أو عامله فيوليهم الوزير بعض شؤون منزله فيدخلون في جملة الندماء أو المغنين أو القيان أو أصحاب الشراب ويكونون رقباء عليه ينقلون أخباره سراً إلى الخليفة. وكان الوزراء يفعلون نحو ذلك بالخلفاء. فشيوع الجاسوسية على هذه الصورة مع التضاغن والتحاسد بعث على المصانعة والمجاملة.
المعيشة العائلية
1 ـ الطعام
كان طعام العرب قبل الإسلام قاصراً على الألبان وما يستخرج منها كالسمن والزبد والجبن ومن التمر والحبوب واللحوم يأكلونها على أبسط ما يكون من أحوالها كما يفعل أهل البادية اليوم وأكثر ألبانهم ولحومهم من الإبل، وقد يصنعون منها أطعمة تتركّب على نسب معينة كالثريد فإنه يصنع من اللحم واللبن والخبز، ذلك هو طعام أهل اليسار منهم وأصحاب الضيافة، وأما الفقراء فقلّما يأكلون لحم الإبل أو الضأن وإنما كانوا يقتاتون بلحم الضبّ أو بالجراد أو الخنافس أو العقارب وإذا جاعوا أكلوا العلهز وهو وبر الإبل يخلطونه مع الدم فيطبخونه، وكان حال القرشيين قريباً من ذلك وربما أكلوا القرامة ونحاتة القرن والأظلاف والمناسب من برادتها أو القرة وهي الدقيق المختلط بالشعر، وكانوا إذا عطشوا ولم يجدوا ماءً شربوا الفظ وهو عصارة الفرث أو المجدوح وهو مصل دم الإبل.
فلما جاء الإسلام وافتتحوا العراق وفارس ومصر دُهشوا لما شاهدوه من حضارة الروم والفرس ووقعوا على ألوان من الأطعمة لم يعرفوها فأشكل عليهم أمرها وظفر بعضهم بجراب فيه كافور فأحضره إلى أصحابه فظنوه ملحاً فطبخوا طعاماً ووضعوه فيه فلم يجدوا له طعماً ولم يعلموا ما هو فرآه رجل عرف ما فيه فاشتراه منهم بقميص خلق يساوي درهمين، ورأى بعضهم الخبز الرقاق فظنه رقاعاً يكتب عليها وشاهدوا الأرز فظنوه طعاماً مسموماً ثم ما لبثوا أن أقاموا بين أولئك الأقوام حتى تعرفوا مأكلهم ولاسيما الفرس فأخذوها عنهم كما أخذوا أكثر مبادئ الحضارة وكثيراً من العادات والآداب وليس في الشرع الإسلامي ما يمنع تمتعهم بالطيبات من الأطعمة إلا ما جاء النص بتحريمه.
2 ـ اللباس
ولباس العرب كان بسيطاً مثل طعامهم وسائر طرق معايشهم ولا يزال حتى الآن في عرب البادية نحو ما كان عليه قبل الإسلام وهو عبارة عن القميص والحلة والإزار والشملة والعباءة والعمامة ولم يكن العرب في جاهليتهم يعرفون السراويل ولا الأقبية وإنما هي فارسية وكذلك النعال والخفاف ولكن بعض الخاصة كان يلبسها، وكانوا يعلقون سيوفهم على عواتقهم وثيابهم على الإجمال قصيرة إلى أسفل الركب.
وأفضل مثال لألبسة العرب لباس النبي (صلّى الله عليه وآله) فقد ذكروا أن أحب الألبسة إليه البرود والبياض والحبرة وهي ضروب من البرود فيه حمرة وكان كمه قصيراً إلى الرسغ يلبس أحياناً حلة.
وأول من أقدم على تقليد الأعاجم بأسباب البذخ معاوية وعماله. فزياد بن أبيه أمير العراق أول من قلد الفرس بلبس القباء والديباج وهو أول من لبس الخفاف الساذجة بالبصرة.
ولما أترف بنو أمية لبسوا الحرير على أنواعه وتفننوا بأنواع الأنسجة وأحبوا الوشي وأكثروا من لبسه فقلدهم الناس في ذلك فراجت المنسوجات الموشاة في أيامهم، واتخذوا كثيراً من ألبسة الروم ولكنهم لرغبتهم في المحافظة على البداوة ظلوا يلبسون العمائم ويعلقون السيوف على العواتق وكان الأحنف يقول: (لا تزال العرب عرباً ما لبست العمائم وتقلّدت السيوف).
اللباس في عهد الحضارة
فلما أفضت الخلافة إلى العباسيين واستسلموا للفرس وأخذوا نظامهم وآدابهم قلّدوهم بالألبسة وجعلوا ذلك بأمر رسمي من أوائل دولتهم، فأمر المنصور رجاله سنة 153هـ أن يلبسوا القلانس الفارسية الطويلة تدعم بعيدان من داخلها بدل العمائم أو يعتَمّوا فوقها بعمامة صغيرة، وأن يعلّقوا السيوف في أوساطهم وأن يكون اللباس الأسود عاماً فيهم وهو شعار العباسيين كما كان البياض شعار الأمويين، فلابد للداخل على الخليفة العباسي من لبس جبة سوداء يسمونها (السواد) تغطي سائر الثياب، وألبسهم المنصور دراريع كتب على ظهورها: (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) وبعث إلى عماله في سائر الأقطار أن يأمروا رجالهم بمثل ذلك.
على أن رجال الدولة ومن جرى مجراهم من الخاصة كانت لهم ألبسة لمجالس الأنس والشراب يسمونها (ثياب المنادمة) وهي أثواب مصبغة بالألوان الزاهية الأحمر أو الأصفر أو الأخضر يصقلونها حتى تلمع وتشرق ويتضمخون بالخلوق ويتطيبون ولهم ألبسة يتخففون بها في منازلهم وأخرى يلبسونها في الأسفار وغير ذلك.
والخضاب كان مستحسناً عندهم وأصله هندي أخذه الفرس عن الهنود ومنه انتقل إلى بلاد العرب قبل الإسلام. ويقال أن أول من خضب بالسواد من أهل مكة عبد المطلب. ولما ظهر الإسلام وانتشر العرب في الأرض تعلموا فنون الخضاب فصاروا يخضبون بالحناء للحمرة وبالزعفران للصفرة فضلاً عن الخضاب الأسود وكانوا يبيضون شعورهم بالكبريت.
3 ـ المأوى
كان العرب قبل الإسلام أهل خيام وأنعام يحملون منازلهم على ظهورهم إلا من أقام منهم في مكة أو المدينة أو الطائف أو غيرها من مدن الجاهلية ولما نهضوا للفتح كانت البداوة من جملة أسباب تغلبهم، فلما فتحوا الأمصار تحاشوا سكنى المدن ونصبوا مضاربهم في ضواحيها أو بنوا بيوتاً من القصب معسكراً لهم، فما لبثوا أن تحضروا حتى تحولت تلك المعسكرات إلى مدن عامرة ونزلوا المدن القديمة التي فتحوها وبنوا المنازل والقصور يقلدون بها أبنية الدول السالفة.
وكانت أساليب البناء يومئذ تختلف باختلاف الأمم ولكل منها نمط تولّد عندها بتوالي الأجيال أما رأساً أو اقتباساً، وأهمها النمط البيزنطي في الشام ومصر والفارسي في فارس وخراسان والقوطي في الأندلس وما يليها، فلما تحضّر المسلمون وعمدوا إلى تشييد المباني استخدموا في بنائها مهندسين من الروم والفرس فكانوا يخططونها على ما عرفوه من الأساليب ثم أخذ المسلمون تلك الصناعة وأدخلوا فيها تغييراً يوافق الذوق الشرقي ويلائم الإسلام، فتولد نمط إسلامي خاص يعرف بالنمط العربي أو الشرقي يختلف باختلاف الأصقاع واختلاف العصور والدول وأقسامه ترجع إلى اثني عشر.
ليست البداوة هي التي توحي بالعفة، وإنما هي الفطرة، والفساد طارئ، فكما لا يصح أن يقال أن السرقة من تراجع الحضارة، كذلك لا يصح بالنسبة إلى الفساد.