اغتيال ابن السلار

وأما الفتنة التي قتل فيها الملك العادل بن السلار رحمه الله فإنه جهز عسكرا إلى بلبيس ومقدمه ابن امرأته ركن الدولة عباس بن أبي الفتوح تميم بن باديس لحفظ البلاد من الإفرنج ومعه ولده ناصر الدين نصر بن عباس رحمه الله فأقام مع أبيه في العسكر أياماً ثم دخل إلى القاهرة بغير إذن من العادل ولا دستور. فأنكر عليه ذلك وأمره بالرجوع إلى العسكر، وهو يظن أنه دخل القاهرة للعب والفرجه وللضجر من مقام العسكر. وابن عباس قد رتب أمره مع الظافر، ورتب معه قوما من غلمانه يهجم بهم على العادل في داره إذ أبرد في دار الحرام ونام فيقتله. وقرر مع أستاذ من أستاذي دار العدل أن يعلمه إذا نام، وصاحبه الدار امرأة وصلهم أوائل الفرنج وهم لعنهم الله، أكبر الناس احترازاً في الحرب فصعدوا على الرابية وقفوا عليها. وصعدنا نحن على الرابية مقابلهم وبين الرابيتين فضاء، أصحابنا المنقطعون وأصحاب الجنائب عبروا تحتهم، لا ينزل إليهم منهم فارس خوفاً من العادل جدته، فهو يدخل إليها بغير أستئذان. فلما نام أعلمه ذلك الأستاذ بنومه، فهجم عليه بالبيت الذي هو نائم فيه، ومعه ستة من غلمانه فقتلوه رحمه الله وقطع رأسه وحمله الظافر. وذلك في يوم الخميس السادس من المحرم سنه ثمان وأربعين وخمس مائه، وفي دار العادل من مماليكه وأصحاب النوبة نحو من ألف رجل، لكنهم في دار السلام، وهو قتل في دار الحرم فخرجوا من الدار ووقع القتال بينهم وبين أصحاب الظافر وابن عباس إلى أن رفع رأس العادل على الرمح، فساعة رأوه انقسموا فرقتين فرقه خرجت من باب القاهرة إلى عباس لخدمته وطاعته وفرقه رمت السلاح وجاءوا إلى بين يدي نصر ابن عباس قبلوا الأرض ووقفوا في خدمته.
عباس يتولى الوزارة

وأصبح والده عباس دخل القاهرة وجلس في دار الوزارة، وخلع عليه الظافر وفوض إليه الأمر، وابنه نصر مخالصة ومعاشره، وأبو العباس كاره لذلك مستوحش من ابنه لعلمه بمذهب القوم في ضربهم بعض الناس ببعض حتى يفنوهم ويجوزوا كلما لهم حتى يتفانوا، فأحضراني ليله وهم في خلوه يتعاتبان وعباس يرد عليه الكلام وابنه مطرق كأنه نمر يرد علية بعد كلمة يشتاط منها عباس ويزيد في لومه وتأنيبه. فقلت لعباس يا مولاي الأفضل كم تلوم مولاي ناصر الدين وتوبخه وهو ساكت؟ اجعل الملامة لي، فأنا معه في كل ما يعمله، ما أتبرأ، من خطأة ولا صوابه، أي شيء هو ذنبه؟ ما أساء إلى أحد من أصحابك، ولا فرط في شيء من مالك، ولاقدح في دولتك خاطر بنفسه حتى نلت هذه المنزلة، فما يستوجب منك ألائمه، فأمسك عنه والده ورعى لي ابنه ذلك.
الخليفة يحرش ابن عباس على أبيه

وشرع الظافر مع ابن عباس في حمله على قتل أبيه، ويصير في الوزارة مكانه وواصله بالعطايا الجز يله فحضرته يوماً وقد أرسل إليه عشرين صينية فضه فيها عشرون ألف دينار ثم أغفله أياماً وحمل إليه من الكسوات من كل نوع وما لا رأيت مثله مجتمعا قبله، وأغفله أياماً، وبعث إليه خمسين صينية فضه فيها خمسون ألف دينار، وأغفله أياماً، وبعث إليه ثلاثين بغلا رحلا وأربعين جملا بعددها وغرائرها وحبالها. وكان يتردد بينهما رجلا يقال له مرتفع بن فحل وأنا مع ابن عباس لا يفسح لي في الغيبة عنه ليلاً ولا نهاراًأنام على رأس مخدته. فكنت عنده ليله وهو في دار الشابوره وقد جاء مرتفع ابن فحل فتحدثت معه إلى ثلث الليل، وأنا معتزل عنهما ثم أنصرف فاستدعاني وقال، أين أنت قلت عند الطاقة أقرأ القرآن فإني اليوم ما تفرغت اقرأ فابتدأ يفاتحني بشيء مما كان فيه ليبصر ما عندي في ذلك يريد بي أن أقوي عزمه على سوء ما قد حمله عليه الظافر فقلت يا مولاي لايستزلك الشيطان وتنخدع لمن يغرك، فما قتل والدك مثل قتل العادل، فلا تفعل شيء تلعن عليه إلى يوم القيامة. فأطرق وقاطعني الحديث ونمنا. فاطلع والده على الأمر فلاطفه واستماله، وقرر معه قتل الظافر.
الوزير يغتال الخليفة

وكانا يخرجا في الليل متنكرين، وهما أتراب، وسنهما واحد فدعاه إلى داره، وكانت في سوق السيوفيين، ورتب من أصحابه نفراً في جانب الدار. فلما أستقر به المجلس خرجوا عليه فقتلوه. وذلك ليله الخميس سلخ المحرم سنه تسع واربعين وخمس مائه، ورماه في جب في داره وكان معه خادم له أسود لا يفارقه يقال له سعيد الدولة فقتلوه، وأصبح عباس جاء إلى القصر كالعاده للسلام يوم الخميس فجلس في خزانه في مجلس الوزارة كأنه ينتظر جلوس الظافر للسلام، فلما جاوز وقت جلوسه استدعى زمام القصر وقال ما لمولانا ما جلس للسلام؟ فتلبد الزمام في الجواب، فصاح عليه وقال مالك لا تجاوبني قال يا مولاي مولانا لاندري أين هو قال مثل مولانا يضيع ارجع فاكشف الحال فمضى ورجع وقال ما وجدنا مولانا فقال عباس ما يبقى الناس بلا خليفة ادخل إلى الموالي إخوته يخرج منهم واحد نبايعه فمضى وعاد وقال الموالي يقولون لك مالنا في الأمر شيء، والده عزله عنا وجعله في الظافر، والأمر لولده بعده قال أخرجوه حتى نبايعه.
مبايعة ابن الظافر

وعباس قتل الظافر وعزم على أن يقول اخوته قتله ويقتلهم به فخرج ولد الظافر وهو صبي محمول على كتف أستاذ من أستاذي القصر، فأخذه عباس فحمله وبكى الناس ثم دخل به وهو حامله إلى مجلس أبيه وفيه أولاد الحافظ الأمير يوسف والأمير جبريل وأبن أخيهم الأمير ابو البلقي.
الإجهاز على أسرة الخليفة

ونحن في الرواق جلوس، وفي القصر أكثر من ألف رجل من المصرين فما راعنا الأفواج قد خرج من المجلس إلى القاعة، وصوت السيوف على إنسان. فقلت لغلام لي ارمني ابصر من هذا المقتول . فمضى ثم عاد وقال ما هؤلاء مسلمون! هذا مولاي أبو الأمانة (يعني الأمير جبريل) قد قتلوه، وواحد قد شق بطنه يجذب مصارينه . ثم خرج عباس وقد اخذ راس الأمير يوسف تحت إبطه ورأسه مكشوف، وقد ضربه بسيف والدم يفور منه وأبو البقى ابن أخيه مع نصر بن عباس فادخلوهما في خزانه في القصر وقتلوهما، وفي القصر ألف سيف مجردة. وكان ذلك اليوم من أشد الأيام التي مرت بي، لما جرى فيه من البغي القبيح الذي ينكره الله تعالى وجميع الخلق.
بواب يموت جزعاً

وكان من طريف ما جرى ذلك اليوم ان عباسا لما أراد الدخول إلى المجلس وجد بابه قد قفل من داخل. وكان يتولى فتح المجلس وغلقه أستاذ شيخ يقال له أمين الملك، فاحتالوا في الباب حتى فتحوه ودخلوا فوجدوا ذلك الأستاذ خلف الباب وهو ميت وفي يده المفتاح.
عباس يقمع الثورة


وأما الفتنة التي جرت بمصر ونصر فيها عباس على جند مصر فانه لما فعل بأولاد الحافظ رحمة الله ما فعل جفت عليه قلوب الناس واضمروا فيها العداوة والبغضاء وكاتب من في القصر من بنات الحافظ فارس المسلمين أبا الغارات طلائع بن رزبك رحمة الله يستصرخون بة! وحشد وخرج من ولايته يريد القاهرة، فأمر عباس فعمرت المراكب وحمل فيها الزاد والسلاح والخزانة وتقدم إلي العسكر بالركوب والمسير معه وذلك يوم الخميس العاشر من صفر سنه تسع وأربعين وأمر ابنه ناصر الدين بالمقام في القاهر، وقال لي تقيم معه .
فلما خرج من داره متواجها إلى لقاء ابن رزيك خامر عليه الجند وغلقوا أبواب القاهرة ووقع القتال بيننا وبينهم في الشوارع والأزقة. وخيالتهم تقاتلنا في الطريق، ورجالتهم يرمننا بالنشاب والحجارة من على السطوحات، والنساء والصبيان يرموننا بالحجارة من الطاقات. ودام بيننا وبينهم القتال من ضحى نهار إلى العصر. فاستظهر عليهم عباس وفتحوا أبواب القاهرة وانهزموا ولحقهم عباس إلى أرض مصر فقتل منهم من قتل وعاد إلى داره وأمره ونهيه. وأمر بإحراق البرقية لأنها مجمع دور الأجناد، فتلطفت الأمر معه وقلت يا مولاي، إذا وقعت النار أحرقت ما تريد ولا ما تريد، وبلعت عن أن تطفئها وردد رأيه عن ذلك. وأخذت الأمان للأمير المؤتمن بن أبي رماده بعد أن أمر بتلافه واعتذرت عنه، فصفح عن جرمه.
عباس يفر إلى الشام


ثم سكنت تلك الفتنة، وقد أرتاع منها عباس وتحقق عداوة الجند والأمراء وأنه لا مقام له بينهم، وثبت في نفسه الخروج من مصر وقصد الشام إلى الملك العادل نور الدين رحمه الله يستنجد به، والرسل بين من في القصور وبين ابن رزيك مترددة، وكان بيني وبينه رحمه الله مودة ومخالطة من حين دخلت ديار مصر فنفذ إلى رسولاَ يقول لي عباس ما يقدر على المقام بمصر، بل هو يخرج منها إلى الشام وأنا أملك البلاد، وأنت تعرف ما بيني وبينك، فلا تخرج معه فهو بحاجته إليك في الشام يرغبك ويخرجك معه، فالله الله لا تصحبه، فأنت شريكي في كل خير أناله. فكان الشياطين وسوست لعباس بذلك أو توهمه لما يعلمه بيني وبين ابن زريك من المودة. فأما الفتنة التي خرج فيها عباس من مصر وقتله الإفرنج فانه لما توهم من أمري وأمر ابن رزيك ما توهمه أو بلغه، أحضرني واستحلفني بالإيمان الغلظة التي لا مخرج منها إنني أخرج معه وأصحبه، ولم يقنعه ذلك حتى نفذ في الليل أستاذ داره الذي يدخل على حرمه، أخذ أهلي ووالدتي وأولادي إلى داره، وقال لي أنا احمل كلفتهم عنك في الطريق واحملهم مع والدة ناصر الدين. واهتم بأمر سفره بخيله وجماله وبغاله، فكان له مائتا حصان وحجره مجنوبه على أيدي الرجالة كعادتهم بمصر، ومائتا بغل رحل وأربع مائة جمل تحمل أثقاله.
وكان كثير اللهج بالنجوم، وهو معول على السير بالطالع يوم السبت الخامس عشر من الربيع الأول من السنة فحضرته وقد دخل عليه الغلام يقال له عنتر الكبير وهو متولي أمر كبيرها وصغيرها فقال له يا مولاي، أي شيء مرجو من مسيرنا إلى الشام؟ خذ خزائنك وأهلك وغلمانك ومن تبعك وسر بنا إلى الإسكندريه، نحشد من هناك ونجمع ونرجع إلى أبن زريك ومن معه. فإن نصرنا عدت إلى دارك وإلى ملكك، وإن عجزنا عنه عدنا إلى الإسكندريه إلى بلد نحتمي فيه ويمتنع على عدونا فنهره وخطأه وكان الصواب معه. ثم أصبح يوم الجمعه استدعاني من بكره، فلما حضرت عنده قلت يا مولي إذا كنت عندك من الفجر إلى الليل فمتى أعمل شغل سفري قال عندنا رسل من دمشق، تسيرهم وتمضي تعمل شغلك.