الهزيمة أمام إفرنج إنطاكية

أغار علينا عسكر إنطاكية واصحبنا قد التقوا أوائلهم وجاءوا قدامهم وأنا واقف في طريقهم انتظر وصولهم إلي لعلي أنال منهم فرصة واصحابنا يعبرون علي منهزمين، فعبر علي ممن عبر محمود بن جمعة. فقلتقف يا محمود فوقف لحظة ثم دفع فرسه ومضى عني ووصلني أوائل خيلهم، فاندفعت بين أيديهم وأنا راد رمحي إليهم ملتفت انظرهم لا يتسرع إلى منهم فارس يطعني وبين يدي جماعة من أصحابنا ونحن بين بساتين لها حيطان طوال قعدة الرجل فندس فرسي بصدرها رجل من أصحابنا، فردت راس فرسي على يساري فضربتها بالمهاميز ففزت الحائط، فضبطت حتى صرت أنا والإفرنج مصطفين وبيننا الحائط، فتسرع منهم فارس عليه تشهير حرير اخضر واصفر، فظننت ان تحته درع فتركته حتى تجاوزني وضربت الفرس بمهمازي ففزت الحائط وطعنته، فمال إلى ان وصل رأسه ركابه ووقع ترسه والرمح من يديه والخوذة عن رأسه، ونحن قد وصلنا إلى رجالتنا، ثم عاد انتصب في سرجه وكان عليه زرديه تحت التشهير فما جرحته الطعنه وادركه أصحابه ثم عادوا، وأخذ الرجالة الترس والرمح والخوذة.

جمعة نفسه يهرب


فلما انقضى القتال ورجع الإفرنج جاءني جمعة رحمه الله يعتذر عن ابنه محمودوقال هذا الكلب انهزم عنك. قلتوأي شيء يكون؟ قال ينهزم عنك ولا يكون شيء؟ قلت وحياتك يا أبا محمود وأنت تنهزم عني أيضا. قال يا شين! والله إن موتي أسهل علي من أن انهزم عنك ولم يمضي إلا أيام قلائل حتى أغارت علينا خيل حماه فاخذوا لنا باقورة وحبسوها في الجزيرة تحت الطاحون الجلالي. وطلع الرماة على الطاحون يحمون الباقورة، فوصلتهم أنا وجمعة وشجاع الدولة ماضي مولد لنا وكان رجلاً شجاعا. فقلت لهمانعبر الماء ونأخذ الدواب. فعبرنا. أما ماضي فضربت فرسه نشابة فقتلتها وبالجهد وأوصلته إلى اصحاب، وأما أنا ضربت فرسي نشابة في أصل رقبتها فجاوزت فيها قدر شبر، فو الله ما رمحت وما قلقت ولا كأنها أحست بجرح، وأما جمعة رجع خوفاً على فرسه. فلما عدنا قلتيا أبا محمود ما قلت لك أنك تنهزم عني وأنت تلوم ابنك محموداً؟ قالوالله ما خفت إلى على الفرس، فإنها تعز علي واعتذر.

أسامة يطعن رفيقه خطأ

وقد كنا ذلك اليوم التقينا نحن وخيل حماة وقد سبقهم بعضهم بالباقورة إلى الجزيرة، فاقتتلنا نحن وهم وفيهم فرسان عسكر حماة سرهنك وغازي التلي ومحمود بن بلداجي وحضر الطوط واسباسيلار خطلخ وهم أكثر عدداً منا فحملنا عليهم فهزمناهم وقصدت فارساً أريد اطعنه وإذا هو حضر الطوط. فقال الصنيعة يا فلان! فعدلت عنه إلى أخر فطعنته فوقع الرمح تحت إبطه، فلو تركته ما كان وقع فشد عضده عليه يريد أخذ الرمح والفرس منسدره بي فطار في السرج على رقبة الحصان فوقع، ثم قام وهو على شفير الوادي المنحدر إلى الجلالي فضرب حصانه وساقه بين يديه ونزل، وحمدت الله سبحانه الذي ما ناله ضرر من تلك الطعنه لأنه كان غازي التلي وكان رحمه الله رجل جيداً.

جمعة يستخلص أسيرا


ونزل علينا عسكر إنطاكية في بعض الأيام منزلاً كان ينزله كلما نزل علينا. ونحن ركاب مقابلهم وبيننا النهر، فلم يقصدنا منهم أحد، وضربوا خيامهم ونزلوا فيها ورجعنا نحن نزلنا في دورنا ونحن نراهم من الحصن، فخرج من جندنا نحو من عشرين فارساً إلى بندرقنين، قريه بالقرب من البلد يرعون خيلهم، وقد تركوا رماحهم في دورهم، فخرج من الإفرنج فارساً سار إلى القريب من أولئك الجند الذين يرعون خيلهم فصادفا رجل على الطريق يسوق بهمة فأخذوه وبهيمته ونحن نراهم من الحصن، وركب أولئك الجند ووقفوا ما معهم رماح. فقال عميابصروا الساعة ما يعمل، فلما دنا من الفارسين وهو يركض كفء رأس فرسه وسار خلفهم سترة فلما رأى عمي توقفه عنهما، وهو على روشن في الحصن يراه، دخل من الروشن مغضباً وقالهذا خذلان! وكان توقف جمعة من جورة كانت في يدي الفارسين لا يكون لهم فيها كمين، ولما وصل إلى تلك الجوره وما فيها أحد أغار على الفارسين، خلص الرجل وبهيمته وطردهما إلى الخيام. وكان ابن ميمون صاحب إنطاكية يرى ما جرى، فلما وصل الفارسان أنفذ أخذ ترسيهما جعلهما معالف لدواب ورما خيمتهما وطردهما وقالفارس واحد من المسلمين يطرد فارسين من الإفرنج! ما انتم رجال أنتم نساء. وأما جمعة فوبخه وحرد عليه لوقوفه عنهما أول ما وصلهما، فقال يا مولاي خفت لا يكون لهم في الجورة رابيه القرامطة كمين يخرج علي، فلما كشفتها وما رأيت فيها أحداً استخلصت الرجل والبهيمة وطردتهما حتى دخلا عسكرهما. فلا والله ما قبل عذره ولا رضي عنه.

منزلة الفارس عند الأفرنج

والإفرنج خذلهم الله ما فيهم فضيلة من فضائل الناس سوى الشجاعة ولا عندهم تقدمة ولا منزلة عالية إلا للفرسان، ولا عندهم ناس إلا للفرسان، فهم أصحاب الرأي وهم أصحاب القضاء والحكمة، وقد حاكمتهم مرة على قطعان غنم أخذها صاحب بانياس من الشعراء وبيننا وبينهم صلح، وأنا إذ ذاك بدمشق. فقلت للملك فلك بن فلكهذا تعدى علينا وأخذ دوابنا، وهو وقت ولاد الغنم، فولدت وماتت أولادها وردها علينا بعد أن أتلفها. فقالالملك لستة سبعة من الفرسانقوموا أعملوا له حكماً، فخرجوا من مجلسه وأعتزلوا وتشاوروا حتى أتفق رأيهم كلهم على شيء واحد وعادوا إلى مجلس الملك فقالواقد حكمنا أن صاحب بانياس عليه غرامة ما أتلف من غنمهم، فأمره الملك بالغرامة فتوسل إلي وثقل علي وسألني حتى أخذت منه أربع مائة دينار. وهاذا الحكم بعد أن تعقده الفرسان ما يقدر الملك ولا أحد من مقدمي الأفرنج يغيره ولا ينقصه، فالفارس أمر عظيم عندهم. ولقد قال لي الملك يا فلان وحق ديني لقد فرحت البارحة فرحاً عظيم. وما كنت اعتقد أنك فارس. قلت يا مولاي أنا فارس من جنسي وقومي. وإذا كان الفارس دقيقاً عظيماً كان أعجب لهم.

أمان تنكرد لا قيمة له


وهو أول وكان نزل علينا كندري أصحاب إنطاكية بعد ميمون، فقاتلنا ثم أصلحنا، فنفذ يطلب حصاناً لغلام لعمي عز الدين رحمه الله وكان فرساً جواداً، فنفذه له عمي تحت رجل من أصحابنا كردي يقال له حسنون، وكان من الفرسان الشجعان وهو شاب مقبول الصورة دقيق ليسابق بالحصان بين يدي كندري. فسابق به فسبق الخيل المجراة كلها وحضر بين يدي دنكري فصار الفرسان يكشفون سواعده ويتعجبون من دقته وشبابه، وقد عرفوا أنه فارس شجاع فخلع عليه دنكري. فقال له حسنونيا مولاي أريدك تعطيني أمانك أنك أن ظفرت بي في القتال تصطنعني وتطلقني. فأعطاه أمانة على ما توهم حسنون فأهم لا يتكلمون إلا بالإفرنجية، ما ندري ما يقولونومضى على هذا سنة أو أكثر وأنقضت مدة الصلح، وجاءنا دنكري في عسكر إنطاكية فقاتلنا عند سور المدينة، وكانت خيلنا لقيت أوائلهم، فطعن فيهم رجل يقال له كامل المشطوب من أصحابنا كردي وهو وحسنون نظراء في الشجاعة، وحسنون واقف مع والدي رحمه الله على حجرة له ينتظر حصانه يأتيه به غلامه من عند البيطار ويأتيه كزاغندة، فأبطأ عليه وأقلقه طعن كامل المشطوب فقال والدييا مولاي أمرلي بلباس خفيف. فقال هذه البغال عليها السلاح واقفة مهما صلح لك ألبسه. وأنا إذ ذاك واقف خلف والدي وأنا صبي وهو أول يوم رأيت فيه القتال. فنظر الكزاغندات في عيبها على البغال فما وافقته وهو يغلي يريد يتقدم يعمل كما عمل كامل المشطوب، فتقدم على حجرته وهو معرى فأعترضه فارس منهم فطعن الفرس في قطأتها فعضت على فاس اللجام وحملت به حتى رمته في وسط موكب الأفرنج فأخذوه أسيراً وعذبوه أنواع العذاب وأرادوا قلع عينه اليسرى فقال لهم دنكري لعنه اللهأقلعوا عينه اليمين، حتى إذا حمل الترس أسترت عينه اليسار فلا يبقى يبصر شيئاً. فقلعوا عينه اليمين كما أمرهم وطلبوا منه ألف دينار وحصاناً أدهم كان لوالدي من خيل خفاجة جواداً من أحسن الخيل فاشتراه بالحصان رحمه الله. وكان خرج من شيزر في ذلك اليوم راجل كثير، فحمل عليهم الفرنج فما زعزعوهم من مكانهم، فحرد دنكري وقال أنتم فرساني، وكل واحد منكم له ديوان مثل ديوان مائة مسلم. وهؤلاء سرجند (يغني رجالة) ما تقدرون تقلعون من موضعهم! قالواإنما خوفنا على الخيل وإلا دسناهم وطعناهم قالالخيل لي، من قتل حصانه أخلفته عليه. فحملوا على الناس عدة حملات، فقلت منهم سبعون حصاناً ما قدروا يزحزحونهم من مواقفهم.