من ظلمات الإعاقة إلى نور الإرادة

تحدثنا في الجزء السابق من القصة عن هيلين ومعلمتها ,وكيف بدأت هيلين بتحدي الإعاقة من خلال لحظة تنوير واحدة في حياتها كما وصفتها هيلين في كتابها"قصة حياتي" فخلال نزهة قامت بها مع معلمتها آن إلى بئر الماء, قامت آن بوضع يد هيلين اليمنى تحت الماء وكتبت لها على يدها اليسرى كلمة "ماء", في هذه اللحظة شعرت هيلين أنها بدأت تشعر بحالة وعي ضبابية , وبدأت تتكشف أمامها أسرار اللغة الغامضة , وبدأت تدرك مسميات الأشياء الملموسة , فلم تترك شيئاً يمر عليها خلال رحلة العودة إلى المنزل دون سؤال عن اسمه ومعرفة كيفية كتابته, كم كانت فرحتها عظيمة بذلك , كيف لا وقد وجدت مفتاح الباب الذي أوصد في وجهها طيلة سبع سنوات... لا بل ووضعته في ثقب الباب وبدأت تديره لتفتح ذلك الباب .
وما أن أدركت هيلين تهجئة الحروف والكلمات, حتى بدأت تتعلم القراءة بطريقة "برييل" وانكبت على الكتب تلتهمها بأناملها,وبفضل القراءة تعلمت الكتابة, فأبدعت في أسلوبها وجمال خطها حتى فاقت كتاب عصرها .
سئلت هيلين عن سبب ولعها بالكتب فقالت: "الكتب تحدثني عن الكثير من الحقائق الممتعة, وعن الأشياء التي لا أستطيع مشاهدتها , كما أن الكتب بخلاف الناس لا تتعب ولا تتضايق, فتظل تحدثني المرة تلو الأخرى عما أود معرفته".
ولم ترضى هيلين آن تكون خرساء (بعد أن سمعت بأن فتاة صماء استطاعت الكلام), فكان هدفها التالي أن تسمع صوتها للناس , فلم ترهقها تجربة ولم يوقفها إحباط, واستطاعت من خلال تلمس شفاه معلمتها وحنجرتها إدراك مخارج الحروف, وكانت كلماتها الأولى غير مفهومة , واستمرت محاولاتها إلى أن أصبحت عباراتها واضحة بليغة , فكانت أول عبارة تنطق بها "أنا لم أعد خرساء" وأصبحت هيلين فيما بعد من أشهر المحاضرات على مستوى العالم.
إن كنت عزيزي القارئ لم تذهل مما قرأت فلعلك قد تذهل عندما تعلم أن هيلين استطاعت دراسة الجغرافيا بواسطة خرائط خاصة, وتعلمت عدة لغات وحصلت على شهادتي الدكتوراه في العلوم والفلسفة. كما أنها كانت ناشطة وصانعة للسلام , وداعية لحقوق المرأة, وكانت من أول المنادين بالتكنولوجيا الجديدة, ولعبت دوراً في صدور مشروع الكتاب الناطق لمساعدة المكفوفين في التعرف إلى العلوم والآداب, وبذلك منحت الميدالية الرئاسية للحرية عام -1964- وهي أعلى ميدالية تمنح لتكريم المدنيين.
هذا غيض من فيض فقد تكون هيلين كيلر معجزة جعلها الله في القرن العشرين وعبرة للكثيرين ممن يئسوا من إنتاج شيء وإضافته إلى هذه الحياة , لعلنا نفعل خيرا إن جعلنا من هذه المرأة منارة لنا تنير دروب النجاح, و قوة نقطع بها حبال الناس المحيطة بنا .
"لقد أدركت لماذا حرمني الله من السمع والبصر والنطق ,فلو أني كنت كسائر الناس, لعشت ومت كأي امرأة عادية"

هيلين كيلر


نجاح من رحم الألم
" أشعر بأنني أفضل بل أسعد مما كنت عليه قبل ولادتي كريستوفر" قارئ هذه العبارة سيعتقد أن قائلتها قد رزقت طفلاً جميلاً حوّل حياتها إلى عالم من الراحة النفسية والمتعة والاطمئنان, ولن يتوقع أحد أن تكون هذه الولادة من أصعب الولادات وأعقدها, تعرضت خلالها برناديت – قائلة العبارة السابقة- لخطر الموت من جراء هذه الولادة المتعثرة, بل لم تستطع أن ترى ولدها إلا بعد ثلاثة أسابيع من ولادته.
وُضِع بين يديها طفلاً ملتوياً -لا شيء فيه على ما يرام- عاجزاً عن الحركة والنطق والتعبير إلا, اللهم عن بعض الإيماءات بعينيه وحاسة سمع قويت مع الأيام, من خلالها وجدت برناديت بصيص أمل لتجعل من ولدها هذا معجزة المعجزات.
وكما يزيد الضرب الحديد قساوة, ازدادت برناديت والدة كريستوفر نولان الأم الحديدية الإرادة عزيمة وإصراراً فجعلت كريستوفر- الطفل التوتري- شخصاً ذا شأن على مستوى بريطانيا كلها.
لم تدع اليأس يسيطر عليها, ولا الدموع تغرقها ولا الكآبة تفترسها, بل كرست برناديت حياتها لولدها فاستطاعت أن تزرع فيه حب التحدي والإصرار على تحقيق الذات, فحولت بذلك مرارة الألم وقسوة المعاناة إلى لذة نصر ونشوة نجاح.
رغم استجابات كريستوفر البطيئة استطاعت تعليمه بعض الإيماءات البسيطة بوساطة حركات عينيه, وأخذت تحيطه بالأصدقاء والأقارب ولم تعزله عن العالم وكأنه وصمة عار يجب سترها. ومع ظهور الكمبيوتر بدأت تعلمه الكتابة بالنقر على لوحته بواسطة قلم ربطته على جبينه, استطاع بواسطته أن يكتب بعض الكلمات ليعبر عن حاجاته ورغباته, مستغرقاً ثلاث دقائق في كتابة كل كلمة,ثم أدرك كريستوفر جهود والدته الجبارة في تهيئة الظروف لجعله شخصاً ذا شأن كبير, فبدأ رحلته في عالم الكتابة, يدفعه إلى ذلك العالم إصراره على النجاح.
وبكثير من الألم وبيأس معدوم, استطاع كريستوفر أن يصرع حروف الكمبيوتر, في حين لم تصرعه الإعاقة وألّف أول قصائده وهو في الخامسة عشرة من عمره, وكانت جميلة لدرجة أن إحدى الصحف تلقفتها ونشرتها, وعندما أصبح في الواحد والعشرين أصدر سيرته الذاتية, أول كتبه باسم " تحت عيون الساعة " وعنه قال أحد النقاد: " إن هذا الكتاب الضئيل الحجم, بالنسبة للكتب المماثلة, سيدخل تاريخ الأدب الإنكليزي من أوسع أبوابه لأنه نابع من أعماق المعاقين المحطمين في أي مكان من العالم".بهذا الكتاب حصل كريستوفر على أشهر جائزة أدبية في إنكلترا, جائزة ويتبريد للأدب الرفيع.
لم يكن نجاح كريستوفر ليتحقق لولا صبر أم أبت أن يكون ولدها أقل من باقي البشر, وإصرارها أن يكون ابنها أفضل من كثيرين ولدوا سليمين لكنهم لم يحظوا بأم تفجر قطرات النجاح من صخرة

الحياة.