[quote]قلت: ويؤيد ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شريف، إذ يقول:«.. واعلم أنَّ الأمةَ لو اجتمعت على أنْ ينفعوكَ بشيءٍ لم ينفعوكَ إلاَّ بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ لكَ، وإنْ اجتمعوا على أنْ يضرُّوكَ بشيءٍ لم يضرُّوكَ إلاَّ بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ عليكَ».رواه الترمذي.

فَسِرْ بالخير ليُكتب لك ولا تَسرْ بالشرِّ لئلا يُكتب القصاص عليك
.

ولا يظنَّن ظانٌّ أن هذه الكتابة ـ كما تزعم فرقة الجبرية الكافرة ـ كتابة قديمة أزلية فتعالى الله أن يكتب على الإنسان شيئاً لم يحرِّك به جارحة ولم يكن له فيه اختيار ولا إرادة، إذ لو كان الأمر كما يظنُّون، وأن الله تعالى كتب على أناس ضرّاً وأذى، وكتب لآخرين نفعاً وخيراً لكان ذلك من الله تعالى ظلماً وجوراً ولتنافى ذلك مع العدالة الإلهية تنافياً ظاهراً. فهذا الإله العليُّ القدير الذي كرَّم الإنسان وحمله في البر والبحر ورزقه من الطيِّبات وفضَّله على كثير ممَّن خلق تفضيلاً، هذا الإله الذي نظَّم هذا الكون على أبدع نظام وجعل ما فيه مسخَّراً للإنسان، ثم أرسل له الرسل الكرام وأنزل معهم الكتاب وساق فيه من العبر والمواعظ والأمثال، ما يكون لهذا الإله أن يفعل ذلك كله ويكون قد كتب على طائفة من بني الإنسان الشقاء وكتب لآخرين السعادة والهناء؟ وهذا ما لا يرضاه أب لأبنائه، بل يبغي السعادة لهم جميعاً، ولله المثل الأعلى
.

وكيف يكتب أم كيف يفضِّل ويميِّز أناساً عن أناس والخلْق كلّهم عيال الله وهم جميعاً عباده؟ لا شك أن من أوتي ذرَّة من منطق صحيح وتفكير سليم لا يرضى بهذه المعتقدات الفاسدة، بل إنما يردُّها لأول وهلة.

وهكذا فالحديث الشريف إنما يعني بتلك الكتابة ما كتبه الله على الإنسان من عمله مما اكتسبته نفسه. فكل نفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

وبناء على هذا فالحديث الشريف يبيِّن لنا في شطره الأول أن هؤلاء الذين طهرت نفوسهم وأصبحت صالحة لفعل المعروف والإحسان، هؤلاء الذين كتب الله تعالى في نفوسهم فعل الخير بسبب إقبالهم على خالقهم وصدقهم في مطلبهم لو اجتمعوا جميعاً على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك بسبب ما كسبته نفسك وما استحققته أنت بعملك الطيِّب
.

وكذلك الأمر بالنسبة لأهل الأذى والشر ليس لهم سلطان عليك، ليسوا بمستطيعين أن يضرُّوك ولو اجتمعوا على ذلك إلاَّ إذا كنت قد قمت بعمل استحققت عليه ذلك الأذى وكُتب ذلك عليك من عملك
.

ولعمري ذلك محض التوحيد وتلك هي العدالة الإلهية يتجلَّيان في قوله صلى الله عليه وسلم وهو خير من وصل إلى التوحيد الصحيح فشهد أن لا إله إلا الله ورأى العدل الإلهي جارياً على الخلْق جميعاً فليس لأحد فعل أو تصرُّف إلا على حسب ما تقرُّه العدالة الإلهية ويأذن به الله
.

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}سورة يونس (107).


أقول: ويؤيد ذلك أيضاً ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم عن لسان سيدنا هود صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب قومه بما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى:



{... إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ}:دبِّروا ما شئتم لا أعبأ بكم جميعاً ولا تستطيعون، فلا سلطان لكم علي أبداً.

السبب:{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ.. .} الكلّ بيده {..مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}:ما من شيء إلا سيره بالله {..إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: حيث أنه صلى الله عليه وسلم مؤمن بأنه طاهر ومستقيم على أمر الله بالتمام، عرف أن الله تعالى لا يسوق له شيئاً من الأذى على يد أحد، لذلك كان جريئاً وانتصر.

وآيات القرآن الحكيم طافحة بالأدلة التي ترجع الاختيار للإنسان في تقرير مصيرهم فكلمة (لعلهم) واردة في أكثر من مائة آية في مواضع شتى قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} سورة الأنعام (42).

إذاًً لا قضاءً مبرما ًًًًًًًًًًًًًَولا قدراً محتماً فلا إكراه في الدين فكلمة (لعلهم) تشير إلى منح كامل الاختيار للإنسان ذاته وعن فرعون قال تعالى:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}سورة طه (44).

أفلا تدل كلمة (لعله) الواردة بالآية بأن فرعون مطلق بمشيئته، فإما أن يتذكر ويخشى وإما أن يستكبر وينكر.

وبآيات كثيرة وردت: {..كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}سورة البقرة (187).

{..وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} سورة البقرة (221).



أما إذا كان الإنسان مجبراً فما معنى إرسال الأنبياء والرسل؟ وما معنى آيات الذكر الحكيم من إنذار وتبشير؟!

أقول: إن الله يريد الهداية لهذا الإنسان عن طوع ودون إجبار لأنه لا يوجد ثمة فائدة يجنيها الإنسان إذا سيق إلى ما يكرهه بالقوة، إذ الهداية الحقة: أن تقبل عن طوع وبدافع ذاتي فالحرية المطلقة ملك الإنسان وهو حر في سيره إما الهداية أوالضلال قال تعالى:{..إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}سورة الإنسان (3).

فمن يكفر بالله فقد ضل نفسه عن الهدى وما ربح أبداً وكان حقاً على الله أن يمده بما يريده قال تعالى:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}سورة الاسراء (20).

إلا أنه لا ظلم في الكون والله بعدله فوق الجميع فلا يستطيع المعتدي أن يتسلط على إنسان طاهر مستقيم، بل هو أخسأ من ذلك. إنما يُخرج الله له ما بنفسه على مستحق ظالم، فالسارق لا يسرق إلاَّ ممن سبقت له السرقة كذلك القاتل لا يقع جرمه إلاَّ على مستحق استوجب أن يموت قتلاً، والزاني لا ينكح إلاَّ زانية أو مشتركة وحُرِّم ذلك على المؤمنين، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}سورة الأنعام (129).

{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}سورة النساء (141).



فحكم العدالة في البرية ساري.

إذن العبد مخيّر يستطيع أن يختار ما يشاء ولهذا المعنى يستحق العقوبة أو الثواب، فمتى وجد من العبد القصد والاكتساب يحصل له من الله القوة والاستطاعة على الأعمال، قال تعالى في سورة يونس (25): {...وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}: كل من شاء، فمن سلك طريق الإيمان هداه الله.



قال تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}:كل من طلب نال.

قال تعالى في سورة عبس: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}: أي فمن شاء أن تحصل له هذه التذكرة فعليه أن يذكر الله تعالى.

أقول: إن هذه الإرادة المطلقة التي مُنحها الإنسان لا يستطيع أحد أن يوجهها إلى جهة مهما جهد وتعب ما لم تتجه هي بذاتها أي النفس المخيَّرة فتعرف خيرها من شرها وما الأنبياء والمرسلون إلاَّ هداة ومذكرون قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}سورة البقرة (148).

أما الآية الواردة في سورة التكوير:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ،لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}.تدل بأن هذا البيان الذي أورده الله تعالى ذكر للعالمين لا يستفيد منه إلا من تطلبت نفسه سلوك طريق الحق وشاء أن يستقيم، وهذه الآية تبيِّن عدل الله في خلقه ورحمته بجميع عباده فهو لم يخص بفضله أناسا دون آخرين، بل جعل نيل الفضل الإلهي متوقفا على مشيئة الإنسان واختياره فكل من شاء وأراد إذا تلي عليه هذا البيان كان ذِكراً له وأثراً في نفسه.

ثم إن الله تعالى بيَّن أن مشيئة الإنسان في الاستقامة متوقفة على شيء واحد، فهذا الإنسان الحر في إرادته المطلق في اختياره، لا يشاء أن يستقيم إلا إذا وجد ربه منه صدقاً في طلب الحق وعزماً صحيحاً على الوصول إليه.

أما مجرد طلب الاستقامة خالياً من الصدق فلا يغني صاحبه شيئاً ولا يريه حقيقته لذلك قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}: أي أن مشيئتك أيها الإنسان بالاستقامة لا تصح ولا تتولد في نفسك إلا إذا رأى ربك منك صدقاً في طلب الحق، فإذا وجد فيك هذا الصدق رزقك تلك المشيئة (مشيئة الاستقامة).

إذن فالأمر بيدك أيها الإنسان فما دمت مستسلماً لشهواتك غارقاً في أوحالها غير طالب بصدق الوصول إلى الحق فلا بد أن شهوتك تظل حجاباً بينك وبين رؤية الحق، ولست تستطيع أن تتطلب ذلك الطلب العالي في الاستقامة وبالتالي لا تستطيع أن تتذكر ما جاءك به القرآن من العبر والآيات لأنك مريض القلب ونفسك ملأى بشهواتها الخبيثة ومن الخير لها أن تفرغ مما خالطها.

أما إذا أنت قمعت شهوتك بإقناع نفسك، وصدقت في طلب الوصول إلى الحق فهنالك يتجلى عليك ربك فيريك الحق ويرزقك ذلك المطلب العالي وتلك المشيئة الطيبة في الاستقامة.

فإذا ذُكِّرت في القرآن ذكرت واتَّعظت {.. وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}سورة غافر (13).

والكلمة الفصل بالتسيير والتخيير وهل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر هو أن الإنسان مخيَّر إلى أقصى حدود الاختيار، بل له الاختيار كله ولكن لا حول له ولا قوة بل الحول والقوة لله وحده، فالإنسان يختار ويصمِّم والله يسيِّره لتحقيق اختياره بالتمام وعلى حسب صدق الإنسان في الطلب، الإنسان يختار ويطلب والله يطلقه ويمده لتنفيذ وتحقيق طلبه.

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا،كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}سورة الإسراء (18-20).



والحمد لله رب العالمين



هذا البحث الفريد من علوم فضيلة العلامة الكبير محمد أمين شيخو