احتدام الصراع
شعر الفرنسيون بعد تلك الهزيمة بقوة الثورة واتساع نطاقها وازدياد عدد الثوار، فحاولوا السيطرة عليها بجميع الوسائل بدءاً من سياسية الخداع والإغراء والمهادنة، وصولاً إلى استخدام القوة العسكرية واتباع سياسة الأرض المحروقة، وتوالت المواجهات بين الثوار والفرنسيين تباعاً، ومن أهم هذه المعارك:
معركة وادي ورور
في 15 حزيران 1919، حيث نصب الشيخ صالح العلي ومجاهدوه كميناً للقوات الفرنسية التي كانت تتقدم باتجاه الشيخ بدر في المناطق المحصنة المحيطة بطريق القوة، وأوقعوها في كمين محكم، حيث تمكنوا من تدميرها تماماً، وهرب من بقي من الفرنسيين تاركين أسلحتهم وعتادهم.
معركة قلعة المرقب
في 21 تموز 1919 قامت مفرزة من الثوار بالهجوم على قلعة المرقب الحصينة في أعالي الجبال الساحلية شرق بانياس، وفيها حامية فرنسية قوية مؤلفة من سريتين مع مدفع. ونتيجة الهجوم انسحب الفرنسيون من القلعة بعد أن سقط منهم ستة قتلى وجرح عشرون. واستولى الثوار على القلعة التي كانت تعتبر مركزاً منيعاً للمراقبة بمكّن حاميتها من اكتشاف حركات الفرنسيين في بانياس والطرق الساحلية الممتدة لعشرات الكيلومترات.
معركة طرطوس
شهدت الثورة في 20 شباط 1920 معركة فاصلة، وذلك حين قررت قيادة الثورة مهاجمة طرطوس باعتبارها المركز الرئيسي للقوات الفرنسية في الساحل السوري، بهدف كسر شوكة تلك القوات. بدأت معركة طرطوس بهجوم ثلاث كتائب من الثوار على طرطوس من جهاتها الثلاث حسب خطة وتوجيه دقيقين. وفوجئ الفرنسيون بالهجوم وتقدم المجاهدون وضغطوا على ثكنات المدينة ودارت معركة عنيفة استعمل فيها السلاح الأبيض. وكاد الثوار أن يستولوا على طرطوس لولا تدخل قطع البحرية الفرنسية التي تدخلت بقصف عنيف وبإنزال قوات البحرية، مما دفع الثوار إلى الانسحاب خوفاً على طرطوس وسكانها الآمنين من دمار رهيب، بعد أن أنزلوا خسائر فادحة بالفرنسيين وحملوا معهم كميات من الأسلحة والذخائر استولوا عليها من مستودع عسكري.
معركة القدموس
في أعقاب هجوم طرطوس زحف الشيخ صالح العلي مع 400 مقاتل من رجاله في يوم 3 آذار 1920 على القدموس، التي تعتبر بحكم موقعها الجغرافي قلعة محصنة، حيث حاصرها وطلب من حاميتها الاستسلام، وقد رفضت بادئ الأمر إلى أنها اضطرت مع استمرار المناوشات والحصار الشديد، إلى الاستسلام، وهكذا سقطت القدموس في يد الثوار.
استمر القتال سجالاً بين قوات الشيخ صالح العلي وقوات الاحتلال الفرنسي، وكانت القوات الفرنسية قد استقدمت مع إحساسها بمدى قوة وجدية ثورة الشيخ صالح العلي، وبأنها أصبحت خطراً جدياً يهدد سيطرة فرنسا على الساحل السوري وبالتالي على كافة الأراضي السورية، عدداً كبيراً من الفرق العسكرية المدربة على حرب الجبال والغابات، من الهند الصينية وإفريقية، كما دعمت هذه القوات بالطائرات والمدفعية والأسلحة الرشاشة الحديثة.
الشيخ المجاهد
صالح العلي
وفي صيف العام 1920 قام وزير الحربية في حكومة دمشق يوسف العظمة بزيارة مناطق القتال على الجبهة الغربية واجتمع بالشيخ صالح في قرية السودة من أعمال مصياف، وبعد أن شرح له الشيخ صالح ظروف الثورة وعد الوزير بإمدادها بما تحتاجه من سلاح ومعدات. وتعاهد الرجلان على النضال وكان هذا اللقاء الأول والأخير بينهما، وقد كان الوزير يوسف العظمة يدرك تماماً أن الجنرال غورو عازم على إسكات الجبهتين الغربية والشمالية قبل التحرك باتجاه دمشق.
معركة وادي العيون
وفي منتصف حزيران 1920 قررت الفرنسيون إرسال قواتهم بقيادة الجنرال نييجر للقضاء على ثورة الشيخ صالح العلي واضعة تحت تصرفه قوات ضخمة. وبدأ نييجر هجومه بين قريتي خربة الريخ ونهر الصوارني بالقرب من الشيخ بدر، واتسع الهجوم ليشمل جبهة واسعة على امتداد 30 كم، مما اضطر الثوار للانسحاب.
تقدمت الحملة الفرنسية وهي تحرق في طريقها القرى والمزارع، فأحرقت مراكز القيادة في الشيخ بدر وبيوت الشيخ صالح نفسه في قرية الرسته. وأثناء سير الحملة شرقاً كانت تعبر الوديان السحيقة ومجاري الأنهار البعيدة عن القرى المأهولة، ولما اقتربت من منطقة وادي العيون، استطاب جنودها المنطقة وأنزلوا عتادهم وأمتعتهم ونصبوا خيامهم بقصد الاستراحة. فانهالت نيران الثوار المرابطين فوق التلال المرتفعة المحيطة بوادي العيون عليهم، مما شكل مفاجأة صاعقة، فتكت بهم وبخيولهم فحاولوا الانسحاب باتجاه قرية النيحا، فوجدوا الثوار قد سبقوهم وقطعوا عليهم الطريق، وأخذوا يغيرون مساراتهم ليفاجؤوا بكمائن الثوار أينما ذهبوا، والثوار يطاردون ويسدون عليهم السبل. وقد انكفأت القوات الفرنسية إلى قواعدها في الساحل تاركة على أرض المعركة عدداً كبيراً من القتلى وكميات من المعدات والذخائر، كما وقع عشرات الأسرى من الفرنسيين بيد الثوار.
معركة بانياس
في مطلع تموز عام 1920 علمت قيادة الثورة من حاميتها في قلعة المرقب أن الفرنسيين يحشدون قواتهم حول بانياس بقصد الهجوم على القلعة واحتلالها، فأصبح لزاماً على قيادة الثورة مهاجمة التجمعات الفرنسية في بانياس للحيلولة دون خسارة هذا المرصد الهام. وقد زحفت وحدات من الثوار ليلة 3-4 تموز على المدينة بقيادة الشيخ صالح نفسه وحاصرت بانياس من ثلاث جهات ودارات معركة استمرت حتى الظهر وتم الاستيلاء على المدينة وإحراق دار الحكومة، وأخلى الفرنسيون ثكناتهم وانسحبوا إلى الشاطئ تحت حماية قنابل الأسطول، وقد اضطر الثوار للانسحاب حتى يجنبوا المدينة الهدم تحت نيران الأسطول الفرنسي.

بعد ذلك جاءت فاجعة ميسلون في 24 تموز 1920 ووقوع دمشق وسائر سورية تحت الاحتلال الفرنسي لتنعكس سلباً على كافة الثورات السورية في الشمال والساحل، حيث أخذ الفرنسيون يهددون تلك المناطق تهديداً مباشراً. ولكن صلابة الشيخ صالح وقوة إرادته وتصميمه على مواصلة القتال حتى النصر أو الشهادة شددت عزائم الثوار.
معركة مصياف
كان على قيادة الثورة وضع الخطط الكفيلة بحماية ظهرها فقررت مهاجمة مصياف، وقد أصبحت المركز الرئيسي لتجمعات العدو في تلك الناحية، وفي منتصف كانون أول 1920 صب الثوار نيرانهم على مصياف وحاصروها إلا أن مناعة أسوارها أنقذت الحامية الموجودة فيها، وحاول بعض الثوار إحراق أحد أبواب السور والدخول منه إلى المدينة غير أن الفرنسيين صدوهم بنيران حامية. ودام الحصار تسعة أيام قبل أن تأتي حملة فرنسية كبيرة من حماة، دفعت الثوار إلى الانسحاب.
اغتنم الفرنسيون فرصة انتقال زعيم الثورة على رأس الشطر الأكبر من قواته إلى الشرق وانشغاله بحصار مصياف، فوجهوا حملة كبيرة على قرية الشيخ بدر قاعدة الثورة الرئيسية. وباغتت الحملة الفرنسية من بقي من الثوار واحتلت قرية الشيخ بدر والمرتفعات المحيطة بها، وأحرقت عدداً من القرى والمزارع القريبة، واعتقلت بعضاً من وجوه المنطقة بتهمة تأييد الثورة وشكلت مجلساً عرفياً لمحاكمتهم محاكمة صورية، وأصدر المجلس أمراً بإعدامهم ونُفذ الحكم فوراً.
وصلت أنباء احتلال الشيخ بدر إلى الشيخ صالح العلي وهو لا يزال في المنطقة الشرقية، لكنه صمم على الاستمرار في قتال الفرنسيين حتى النهاية، وسار مع رفاقه الثوار إلى قرية بشراغي من أعمال جبلة، حيث أعلن سكان تلك المناطق ولاءهم للثورة واستعدادهم للدفاع عن قائدها.
معركة وادي فتوح
حاول الفرنسيون مبادهة الشيخ صالح العلي في قرية بشراغي بحملة كبيرة، واتخذت الحملة طريقها في وادي فتوح الواقع بين هضاب مرتفعة، وقد استنفر سكان القرى المجاورة للوادي للتصدي للحملة وهب الأنصار من كل النواحي بما توفر لديهم من سلاح، وتولى الشيخ صالح قيادة المعركة وإلى جانبه ثلاثة من قدامى قادة الثورة، وتركز الشيخ ورفاقه على الهضاب المحيطة بجنبات الوادي، وما إن توسط الفرنسيون الوادي حتى أمطرهم الثورا بنيرانهم، ولم تمضِ ساعات حتى هرب من بقي حياً من الفرنسيين تاركين جثث قتلاهم وعتادهم وذخيرتهم.
معركة وادي أبو قبيس
حاول الفرنسيون القضاء على الثورة انطلاقاً من حماة عن طريق محردة. إلا أن الشيخ صالح العلي وثواره تمكنوا من استدراج الحملة الفرنسية إلى وادي أبو قبيس، الذي كان الثوار قد تحصنوا على صخوره الشاهقة، وعندما أعطاهم الشيخ صالح العلي إشارة الانطلاق انصبت نيران الثوار على جنود الحملة ودارات معركة رهيبة، فر على إثرها من بقي حياً من جنودها، وغنم الثوار جميع أنواع الأسلحة والعتاد والخيم والمؤن والألبسة والمواد الطبية.
لقد ظلت الجبهة الشمالية من منطقة الجبال الساحلية متماسكة منيعة الجانب، وعجز الجيش الفرنسي رغم وسائله الكبيرة عن احتلال الجبال أو النفاذ إليها، واستمر القتال والمناوشات سجالاً بين القوات الفرنسية وقوات الثوار الذين يسيطرون على الجبال والطرق والممرات الرئيسية المؤدية إليها.
أدرك الفرنسيون أنه لن تستقر لهم الأمور قبل القضاء على الثورة نهائياً والقبض على زعيمها الشيخ صالح العلي، فوضعوا لذلك خطة محكمة، ووظفوا في طريقها الكثير من الموارد والقوى البشرية والمادية.

واندفع الفرنسيون بقواتهم الضخمة ليواجهوا قوات الثوار التي أصابها الوهن بعد انقطاع مصادر الإمداد بالمال والعتاد والسلاح والذخيرة والذي كان يأتيها من عمقها السوري في الداخل بعد أن احتله الفرنسيون، بالإضافة إلى التفوق الفرنسي في سلاحي الطائرات والمدفعية، مما لم يكن يمتلكه الثوار. ومع ذلك فقد أبدى الثوار على طول جبهات القتال مقاومة عنيفة، وتواصلت الاشتباكات لمدة طويلة، حيث ظل القبض على الشيخ صالح العلي (وهو روح التمرد والقتال والثورة) مطلباً عصياً لفترة طويلة، إذ تشير التقارير الفرنسية إلى استمرار المناوشات والعجز عن القبض على الشيخ صالح العلي في تموز من عام 1921.
الشيخ صالح العلي
نهاية الثورة
ظل الشيخ صالح العلي مع عدد من مغاويره مصراً على مواصلة القتال والتصدي للمحتل. ولكنه اضطر للتواري مع نفر من أتباعه في غار يبعد عدة كيلومترات عن قرية الشيخ بدر، وأخذ الفرنسيون يبحثون عنه في كل مكان ويبثون العيون والأرصاد ويضعون المكافآت لمن يرشد عن مخبأه، ولكنهم أخفقوا. ولما عجزوا عن القبض عليه لمحاكمته موجوداً شكلوا محكمة لمحاكمته غيابياً، وقد أصدرت هذه المحكمة حكماً عليه بالإعدام، ونشر هذا الحكم في بلاغ مطبوع ألقته الطائرات الفرنسية في مختلف أنحاء الجبل. وألقت مع هذا البلاغ بلاغاً آخر تهدد فيه بإعدام كل من يخبئ الشيخ صالح العلي في بيته أو يراه ولا يخبر السلطات الفرنسية عنه، ووعدت المخبر بمكافأة قدرها 1000 فرنك فرنسي.
وذهبت كل التدابير التي اتخذتها السلطات الفرنسية هباءً، حيث كان الشيخ صالح العلي يتنقل في الجبل من مكان لآخر حوالي سنة كاملة، والفرنسيون يجدون في إثره ويتعقبون خطواته، وكثيراً ما التقى به الجنود الفرنسيون، ولكن براعته في التمويه وقوة أعصابه جعلته في مأمن من شرهم.

وبعد أن عجز الفرنسيون عن الوصول إلى الشيخ صالح، ولخشيتهم أن بقاءه مختبئاً سيجعل أنصاره متحفزين لمعاودة القتال في أي وقت، وجدوا أنه من الأفضل أن يسلكوا طريقاً آخر هو وضع حد للثورة من الناحية السياسية. فأصدر الجنرال غورو في مطلع صيف عام 1922 قراراً بالعفو عن الشيخ وأعوانه شرط عدم عودتهم إلى الثورة. وأعلن هذا العفو بشتى وسائل الدعاية والإعلام، وألقت الطائرات الفرنسية آلاف النسخ على مدن وأرياف المنطقة. وبلغ الشيخ قرار العفو عنه، وكانت حوادث عدوان الفرنسيين على الناس والتنكيل بهم وإحراق قرى بكاملها بذريعة مروره بها، تحز في نفسه، ووجد أنه لا سبيل لإنهاء هذه المتاعب إلا باستسلامه فقرر ذلك مكرهاً.
وتم الاستسلام في قرية بشراغي في 2 حزيران 1922. حيث أعطت السلطات الفرنسية للشيخ الأمان مع الإقامة الجبرية في قريته الشيخ بدر. وفي مقابلة جرت ما بين الشيخ صالح والجنرال بيوت قائد حامية اللاذقية، سأله الجنرال عما أخره عن الاستسلام فأجابه الشيخ: «والله لو بقي معي عشرة رجال مجهزين بالسلاح والعتاد الكافيين لمتابعة الثورة لما تركت ساحة القتال».
ولزم الشيخ بيته بعد ذلك فارضاً على نفسه عزلة شديدة، ولكن هذه العزلة لم تكن تمنع الشيخ من المجاهرة برأيه في المواقف الوطنية الحاسمة، حيث كان مستعداً دائماً لتلبية نداء الوطن. وقد أمد الله في عمره ليشاهد جلاء القوات المستعمرة عن ربوع الوطن الذي أحبه وجاهد في سبيل حريته، وذلك في 17 نيسان 1946.
ds-saleh-alali03.jpg
واستمر الشيخ صالح العلي في نشاطه الوطني قدر استطاعته حتى وافاه الأجل في 13 نيسان 1950.