المحققين، بل يجب أن يكون مردودا عند جميع المسلمين لما عرفته من أمارات الكذب، قوله: وإن صح الخ إشارة إلى منع صحته رواية لما قاله القاضي عياض في «الشفاء»: إنه لم يوجد في شيء من الكتب المعتمدة بسند صحيح وقال إنه من وضع الزنادقة. وقال القاضي عياض: إن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواة ثقة بسند سليم متصل إنما أولع به المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب. قال ابن حزم في كتاب «الملل والنحل» جزء 4 ص 23: وأما الحديث الذي فيه «وأنهن الغرانيق العلا وأن شفاعتهن لترتجى» فكذب بحت لأنه لم يصح قط من طريق النقل ولا معنى للاشتغال به إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد.
وقال البيهقي: رواة هذه القصة كلهم مطعون فيهم، وقال الإمام النووي نقلا عنه: وأما ما يرويه الأخباريون والمفسرون أن سبب سجود المشركين مع رسول الله ص ما جرى على لسانه من الثناء على آلهتهم فباطل لا يصح منه شيء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل لأن مدح إله غير الله كفر ولا يصح نسبة ذلك إلى رسول الله ص ولا أن يقوله الشيطان على لسانه ص ولا يصح تسلط الشيطان عليه وإلا لزم عدم الوثوق بالوحي، اهـ.
وقال الآلوسي في «تفسيره»: «وأقبح الأقوال التي رأيناها في هذا الباب وأظهرها فسادا أنه ص أدخل تلك الكلمة من تلقاء نفسه حرصا على إيمان قومه ثم رجع عنها، ويجب على قائل ذلك التوبة، كبرت كلمة خرجت من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، وقريب منه ما قيل إنها كانت قرآنا منزلا في وصف الملائكة عليهم السلام، فلما توهم المشركون أنه يريد عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم بها نسخت، وأنت تعلم أن تفسير الآية أي قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا} (الحج: 52) الخ، لا يتوقف على ثبوت أصل لهذه القصة».
أما معنى قوله تعالى في سورة الحج: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} (الحج: 52) الخ الآية، أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى، وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم عن جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر، فالآية ليست بخصوص قصة الغرانيق بل هي بخصوص وسوسة الشيطان على العموم للأنبياء والرسل، فالواجب ألا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم، فذلك هو المحكم، وقال أبو مسلم: معنى الآية أنه لم يرسل نبيا إلا إذا تمنى كأنه قيل وما أرسلنا إلى البشر ملكا، وما أرسلنا إليهم نبيا إلا منهم وما أرسلنا نبيا خلا عند تلاوته الوحي من وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره ما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلم صواب ذلك وبطلان ما يكون من الشيطان، قال: وفيما تقدم من قوله: {قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الحج: 49)، تقوية لهذا التأويل فكأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة ولم يرسل الله تعالى مثلي ملكا بل أرسل رجالا فقد يوسوس الشيطان إليهم.
فأمثال هذه القصص المدسوسة المكذوبة على رسول الله هي التي جعلت للطاعنين في الإسلام مجالا للنقد وتشويه الحقائق وتقبيح المحاسن، وقد حُشِرت في كتبنا من غير تحقيق وهاك دليلا آخر على كذب هذه القصة من الوجهة التاريخية وهو:
إن الهجرة الأولى إلى الحبشة كانت في رجب سنة خمس من النبوة وكانت السجدة في رمضان من السنة نفسها أي قبل إسلام حمزة وعمر لأنهما أسلما في السنة السادسة.
وقد أجمع المؤرخون على أن المسلمين قبل إسلام عمر كانوا يستخفون في دار الأرقم ويؤدون شعائرهم الدينية في منازلهم، وكان أصحاب النبي ص لا يقدرون أن يصلوا عند الكعبة حتى أسلم عمر. فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلوا معه واتفقوا على تسميته «الفاروق».
فإذا كان المسلمون قبل إسلام عمر ما كانوا يستطيعون الصلاة عند الكعبة فكيف مع هذا يقال: إن رسول الله سجد عند الكعبة وسجد معه القوم جميعا؟ الحقيقة أن الرواية كذب واختلاق محض.
قال «موير» في الجزء الثاني من «حياة محمد»: إن حمزة وعمر أسلما في السنة السادسة من النبوة، وقال: إن المسلمين لم يعودوا يخفون صلاتهم في منازلهم بل كانوا بعدئذ يجتمعون حول الكعبة ويصلون وهم آمنون مطمئنون.
إن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة عادوا إلى مكة بسبب ما بلغهم من تحسن الأحوال أو أنهم سمعوا إشاعة كاذبة تطمئنهم فقدموا في شوال سنة خمس إلا أنه لم يدخل أحد منهم إلا بجوار عثمان بن مظعون فإنه دخل بلا جوار ومكث قليلا ثم أسرع الرجوع إلى الحبشة لأن المسلمين كانوا لا يزالون يُضطهدون وكان النبي ص يعيب الأصنام».
فكل هذه البراهين تؤيد أن قصة شفاعة الغرانيق أو أن النبي ص ذكر آلهة قريش بخير، افتراء واختلاق ولا يمكن أن يصدق هذه القصة أحد من المؤرخين المحققين، وقد ذُكِرَت في كتاب «تاريخ القرون الوسطى» لجامعة كامبردج الجزء الثاني ص 310، 311، باعتبار أنها صحيحة، وأنه ص ندم على ما قال ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه، واستنتج الكاتب أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعتقد أنه إنما يتبع أمرا إلهيا سواء عند تلفظه بهذه الكلمات أو عند عدوله عنها، لكنه علق في الهامش بما يأتي:
«إن كثيرا من المحققين المسلمين يعتبرون هذه القصة خرافية وهذا ما كان ينتظر منهم، لكن من المدهش أن مؤرخا غير متحيز مثل - كايتاني - ينكرها أيضا».
وأنا أقول: لا وجه للدهشة لأن المؤرخ الذي يقدر موقفه ولا يتحيز لأحد يعترف بالحقيقة بغض النظر عن أي اعتبار آخر فإذا كان الأستاذ (كايتاني) وهو ذلك المؤرخ الإيطالي الكبير الذي يصدر المؤلفات الضخمة عن تاريخ الإسلام ينكر هذه القصة فما ذلك إلا أنه لم يرد أن يثبت إلا ما وصل إليه تحقيقه في هذه المسألة دون تحيز.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 19 (0 من الأعضاء و 19 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)