فمما حكى ونقل من تدابير منوشهر أنّه لما مضى من ملكه نحو ثلاثين سنة، تناولت الأتراك أطراف أعماله، فجمع قومه، ووبّخهم، ثم خطب عليهم، وهذه أوّل خطبة عرفناها، ونقلت إلينا. قال:
« أيها الناس: إنّكم لم تلدوا الناس كلّهم. وإنّما الناس ناس ما حفظوا أنفسهم، ودفعوا العدوّ عنهم. وقد نالت الترك منكم، ومن أطرافكم، وليس ذلك إلّا من ترككم جهاد عدوّكم، وقلّة المبالاة، وإن الله تعالى أعطانا هذا الملك ليبلونا: أنشكر فيزيدنا، أم نكفر فيعاقبنا؟ ونحن أهل بيت خير، ومعدن الملك. فإذا كان غدا، فاحضروا. » فاعتذر الناس، وواعدوه الحضور. فلمّا كان من غد، أرسل إلى أهل بيت المملكة وأشرافهم، وإلى الأساورة وكبارهم، فدعاهم، وأذن للرؤساء من الناس ودعا « موبذان موبذ »، وأقعده على كرسي مقابل سريره، ثم قام على سريره خطيبا. فقام أشراف الناس، وأهل بيت المملكة والأساورة، فقال: اجلسوا. فإني إنّما قمت لأسمعكم. فجلسوا، فقال:
« أيها الناس، إنما الخلق للخالق، والشكر للمنعم، والتسليم للقادر، ولا بدّ مما هو كائن، وإنّه لا أضعف من مخلوق، طالبا كان أو مطلوبا، ولا أقوى من خالق، ولا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه.
« ألا وإنّ التفكّر نور، والغفلة ظلمة، والجهالة ضلالة. وقد ورد الأوّل، ولا بدّ للآخر من اللحوق بالأوّل، وقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله، وإنّ الله - عز وجل - أعطانا هذا الملك، فله الحمد، ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين.
« ألا وإنّ للملك على أهل مملكة حقّا، ولأهل مملكته عليه حقّا. فحقّ الملك على أهل مملكته، أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوّه، وحقّهم على الملك أن يعطيهم أرزاقهم في أوقاتها، إذ لا معتمد لهم على غيرها، وإنّه تجارتهم وحقّ الرعية على الملك، أن ينظر لهم، ويرفق بهم، ولا يحمّلهم ما لا يطيقون. فإنّ أصابتهم مصيبة تنقص من ثمارهم، لآفة أو ضرر من السماء أو الأرض، أن يسقط عنهم خراج ما نقص وإن اجتاحتهم مصيبة، أن يعوّضهم ما يقوّيهم على عمارتهم، ثم يأخذ منهم بعد ذلك على قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين. والجند للملك بمنزلة جناحي الطير، فهم أجنحة الملك، ومتى قصّ من الجناح ريشة، كان ذلك نقصانا منه، وكذلك الملك، إنّما هو بجناحه وريشه.
« وإن الملك ينبغي له أن يكون فيه ثلاث خلال: أوّلها أن يكون صدوقا فلا يكذب، وأن يكون سخيّا فلا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب، فإنّه مسلّط، ويده مبسوطة، والخراج يأتيه.
فينبغي له أن لا يستأثر عن جنده ورعيته، بما هم أهل له، وأن يكثر العفو. فإنّه لا ملك أبقى من ملك فيه العفو، ولا أهلك من ملك فيه العقوبة. وإن المرء لأن يخطئ في العفو، خير له من أن يخطئ في العقوبة. فينبغي له أن يتثبّت في الأمر الذي فيه قتل النفس وبوارها. وإذا رفع إليه من عامل من عماله ما يستوجب به العقوبة، فلا ينبغي له أن يحابيه، وليجمع بينه وبين المتظلّم، فإن صحّ عليه للمظلوم حقّ خرج إليه منه، وانعجز عنه أدّى الملك عنه، وردّه إلى موضعه، وأخذه بإصلاح ما أفسد. فهذا لكم علينا. ألا ومن سفك دما بغير حقّ، أو قطع يدا بغير حقّ، فإني لا أعفو عن ذلك إلّا أن يعفو عنه صاحبه. فخذوا هذا عني.
« ألا وإنّ الترك قد طمعت فيكم فاكفونا، فإنّما تكفون أنفسكم. وقد أمرت لكم بالسلاح والعدّة وأنا شريككم في الرأي.
وإنّما لي من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم. ألا وإنّ الملك ملك إذا أطيع، فإذا خولف، فذلك مملوك وليس بملك. ومهما بلغنا من الخلاف، فإنّا لا نقبله من المبلغ، حتى نتيقّنه. فإذا صحّت معرفة ذلك، أنزلناه منزلة المخالف.
« ألا وإنّ أكمل الأداة عند المصيبات، الأخذ بالصبر، والراحة إلى اليقين. فمن قتل في مجاهدة العدو، رجوت له الفوز برضوان الله.
وأفضل الأمور التسليم لأمر الله، والراحة إلى اليقين، والرضا بقضائه. أين المهرب مما هو كائن، وإنّما نتقلّب في كفّ الطالب.
وإنّما هذه الدنيا سفر، أهلها لا يحلّون عقد الرحال إلّا في غيرها.
إنّما بلغتهم فيها بالعوارى. فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم لمرّ قضاء الحق، ومن أحقّ بالتسليم لمن فوقه ممن لا يجد مهربا إلّا إليه [ ولا معوّلا إلّا عليه ]. فثقوا بالغلبة إذا كانت نيّاتكم أنّ النصر من عند الله. وكونوا على ثقة من درك الطلبة إذا صحّت نيّاتكم. واعلموا أنّ هذا الأمر لا يقوم إلّا بالاستقامة، وحسن الطاعة، وقمع العدوّ، وسدّ الثغور، والعدل للرعيّة، وإنصاف المظلوم.
فشفاؤكم عندكم، والدواء الذي لا داء فيه الاستقامة والأمر بالخير والنهي عن الشرّ، ولا قوّة إلّا بالله.
« أنظروا للرعية، فإنّها مطعمكم ومشربكم، ومتى عدلتم فيهم، رغبوا في العمارة، فزاد ذلك في خراجكم، وتبيّن في زيادة أرزاقكم. وإذا حفتم على الرعيّة زهدوا في العمارة وعطّلوا أكثر الأرض، فنقص ذلك من خراجكم، وتبيّن في نقص أرزاقكم.
فتعاهدوا الرعيّة بالإنصاف. وما كان من الأنهار، والبثوق، مما نفقته على السلطان، فأسرعوا فيه قبل أن يكبر. وما كان من ذلك على الرعيّة، فعجزوا عنه، فأقرضوهم من بيت مال الخراج، فإذا جاءت أوقات خراجهم، فخذوا من خراج غلّاتهم على قدر ما لا يجحف بهم. ذلك ربع في كل سنة، أو ثلث، أو نصف، لكيلا يتبيّن عليهم.
هذا قولي وأمري. يا موبذ موبذان، الزم هذا القول، وجدّ في الذي سمعت في يومك. أسمعتم أيّها الناس؟ » قالوا: « نعم. » وأثنوا عليه، ودعوا له، ثم أمر بالطعام. فوضع، وأكلوا وشربوا، وخرجوا وهم له شاكرون. ثم كان من أمره ما كان مما ذكرناه.
منوشهر والرايش بن قيس

وفي أيّامه غزا الرايش بن قيس بن صيفي بن يشجب بن يعرب بن قحطان من ملوك اليمن. وكان اسم الرايش الحارث. غزا الهند، فغنم غنائم عظيمة، فأنفذ رجلا من أصحابه يعرف بشمر بن العطّاف، فدخل الترك من أرض آذربيجان، وهي يومئذ في أيديهم، فقتل وسبى وغنم.
وغزا بعده ذو منار بن الرايش بعد أبيه، وانّما سمّى ذا منار لأنّه غزا بلاد المغرب، فوغل فيها برّا وبحرا، وخاف على جيشه الهلاك عند قفوله، فبنى المنار ليهتدوا بها. ثم وجّه ابنه إلى أقاصى المغرب، فغنم، وأصاب مالا، وقدم عليه بسبي لهم خلقة منكرة، فذعر الناس منهم، فسمّوه ذا الأذعار.
وإنّما ذكرتهم في هذا الموضع، لاتصال ذلك بذكر منوشهر، وأنّ الفرس تدّعى أنّ ملوك اليمن كانت عمّالا لملوك الفرس بها، وأنّ الرايش كان من قبل منوشهر يغزو الترك وغيرهم. والعرب تنكر ذلك، وتزعم أن ملكهم لم يكن قطّ من قبل أحد، وإنّما كانوا برؤوسهم.
ظهور موسى في أيام منوشهر

وفي أيّام منوشهر ظهر موسى ويقال: إنّ عمره كان مائة وعشرين سنة، منها في أيام أفريذون عشرون سنة، وفي أيام منوشهر مائة سنة. وكان من حديث موسى مع فرعون وما أنزل من الآيات على يده، ما هو مشهور. وقد اعتذرنا من ذكر هذه الأخبار وتركها.
ثم كان من حديث التّيه ما كان، إلى أن أخرج بني إسرائيل منه يوشع بن نون بعد موت موسى، وغزا الكنعانيين، ونفاهم إلى السواحل، وافتتح مدينة الجبّارين. فيقال إنّ إفريقس بن قيس بن صيفي بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مرّ بهم متوجها إلى إفريقية، فاحتملهم من سواحل الشام، حتى أتى بهم إفريقية، فافتتحها، وقتل ملكها جرجيرا، وأسكنها البقية التي كانت بقيت من الكنعانيين الذين كان احتملهم من سواحل الشام، فهم البرابرة. وإنّما سمّوا بذلك لأنّ إفريقس قال لهم: « ما أكثر بربرتكم! » فسمّوا بذلك « بربرا ».
وكان إفريقس هذا عاملا لمنوشهر على ما تزعم الفرس. وكان تدبير يوشع أمر بني إسرائيل، من لدن مات موسى إلى أن توفّى يوشع في زمان منوشهر، عشرين سنة، وفي زمان فراسياب سبع سنين. ولمّا هلك منوشهر، تغلّب فراسياب على مملكة فارس، وطلب بالذحول. وصار إلى أرض بابل وأقام بمهرجاقذق، وأكثر الفساد، وخرّب ما كان عامرا، ودفن الأنهار والقنيّ، فقحط الناس في سنة خمس من ملكه، إلى أن أخرج، وردّ إلى بلاد الترك. فغارت المياه في تلك السنين، وحالت الأشجار المثمرة.
زو بن طهماسب

ولم يزل الناس في أعظم بليّة إلى أن ظهر زوّ بن طهماسب، ويقول بعضهم:
زاغ، وبعضهم: زاب، وبعضهم: زاسب، وهو من أولاد منوشهر، وبينه وبينه عدّة آباء.
فلما ظهر زوّ طرد فراسياب عن مملكة فارس، حتى ردّه إلى الترك بعد حروب كثيرة جرت بينهما لم يذكر لنا منها ما نستفيد منه تجربة. وكانت غلبة فراسياب على إقليم بابل اثنتي عشرة سنة من لدن توفّى منوشهر إلى أن طرده زوّبن طهماسب، إلى تركستان.
ثم ابتدأ زوّ في عمارة ما خرّبه فراسياب. فأمر ببناء ما هدم من الحصون وإعادة ما طمّر وعوّر من الأنهار والقنيّ وكرى ما كان اندفن من المياه حتى عاد جميع ذلك إلى أحسن ما كان، ووضع عن الناس الخراج سبع سنين.
فعمرت البلاد في أيّامه، وكثرت المياه، ودرّت معايش الناس، واستخرج بالسواد نهرا، وسمّاه: الزاب، وبنى على حافتيه مدينة، وهي التي تسمى:
المدينة العتيقة، وكوّرها كورة، وجعلها ثلاث طساسيج: الزاب الأعلى، والزاب الأوسط، والزاب الأسفل، ونقل إليها بذور الرياحين وأصول الأشجار من الجبال. وزوّ هذا أوّل من عرف اتّخذ ألوان الطبيخ، وأصناف الأطعمة، وأعطى جنوده مما غنم بالخيل، ومما أوجف عليه من أموال الترك، وكان وزيره « كرساسف » من أولاد طوج بن أفريذون. وقد حكى أنّ زوّا وكرساسف، اشتركا في الملك. والصحيح من أمره أنّه كان وزيرا لزوّ ومعينا له. فكان جميع ملك زوّ ثلاث سنين.
الكيية ومن عاصرهم

كيقباذ بن زو

ثم ملك بعده كيقباذ بن زوّ، وسلك سبيل أبيه. فكوّر الكور، وبيّن حدودها وحريمها، وأمر الناس بالعمارات، وأخذ العشر من الغلّات لأرزاق الجند، وكان حريصا على العمارة، ومانعا لحوزته. والملوك الكييّة من نسله. وجرت بينه وبين الترك حروب كثيرة. وكان مقيما في الحدّ الذي بين مملكة الفرس والترك بناحية بلخ، يمنع الترك من تطرّف شيء من حدود فارس. فجميع هذه العداوات والحروب سببها سوء نظر من قسم الملك بين أولاده، ثم وثوب من وثب من الإخوة بأخيه، واستمرار الشحناء بعد ذلك والعداوات.
وأما القيّم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع، فكان كالب بن توفيل، ثم حزقيل الذي يقال له: ابن العجوز - وكانت لهما أخبار مشهورة تركنا ذكرها لأنها معجزات لا تستفاد منها تجربة - وحزقيل هو صاحب القوم « الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله: موتوا، ثم أحياهم » لأنهم ودّوا لو ماتوا فاستراحوا من بلاء كان أصابهم: إمّا طاعون، أو ما أشبهه، فخرجوا فرارا من ذلك.
ثم إلياس، ثم اليسع، ثم إيلاف. وفي خلال هؤلاء، كان يتملّك عليهم قوم من الكنعانيين وغيرهم، فيسومونهم البلايا والعظائم، وليس في ذكرهم فائدة. إلى أن جاءهم شمويل النبي. وكان من خبره مع جالوت وطالوت ما ذكره الله تعالى.
وملك داود لما كان منه من مبارزة جالوت. والخبر مشهور مقرون بمعجزة الأنبياء. ثم ملك سليمان، وأخباره ومعجزاته مذكورة.