وكان لفراسياب أخ يقال له: كي شواسف، صار إلى بلاد الترك بعد أخيه، وكان له ابن يقال له: خرزاسف، فملك البلاد بعد أبيه كي شواسف، وهو ابن أخي فراسياب الذي حارب منوشهر.
ولما فرغ كيخسرو من المطالبة بوتره، واستقرّ في ملكه، زهد في الملك، وتنسّك وأعلم الوجوه من أهل بيته ومملكته، أنّه على التخلّى. فاشتدّ جزعهم، وتضرّعوا إليه، وراودوه على المقام على تدبير ملكهم. فأبى عليهم، ولما يئسوا، قالوا:
« فإذا قمت على ما أنت عليه، فسمّ من يقوم به. » وكان لهراسف حاضرا، فأشار بيده إليه، وأعلمهم أنّه خاصّته ووصيّه. فقبل لهراسف الوصية، وأقبل الناس عليه، وفقد كيخسرو. فبعض الناس يقول: إنّه غاب للتنسك، ولا يدرى أين مات. وبعضهم يقول غير ذلك. وكان ملكه ستين سنة. ثم ملك بعده لهراسب.
لهراسب وما كان من أمر بختنصر

ويقال: إنّه ابن أخي كيقابوس. واتّخذ سريرا من ذهب مكلّلا بالجوهر، للجلوس عليه. وبنيت له بأرض خراسان مدينة بلخ وسمّاها: الحسناء. وهو أوّل من دوّن الدواوين، وقوّى ملكه بانتخاب الجنود لنفسه وعمر الأرض.
وذلك أنّ الأتراك اشتدت شوكتهم في زمانه، فجعل منزله بلخ ليقاتل الأتراك.
ووجّه بختنصّر إصبهبدا لما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربي دجلة.
ويقال: إن اسمه بالفارسية: بخت نرسى. فشخص حتى أتى دمشق، فصالحه أهلها.
ووجّه قائدا له، فأتى بيت المقدس، فصالح ملك بني إسرائيل، وهو رجل من ولد داود، وأخذ منه رهائن وانصرف. فلما بلغ طبرية وثبت بنو إسرائيل على ملكهم، فقتلوه وقالوا:
« داهنت أهل بابل وخذلتنا »، واستعدّوا للقتال.
فكان من عاقبة جنايتهم على ملكهم أن كتب قائد بختنصّر إليه بما كان.
فكتب إليه يأمره أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأن يضرب أعناق الرهائن الذين معه، وسار بختنصّر، حتى أتى بيت المقدس، فأخذ المدينة عنوة، وقتل المقاتلة، وسبى الذرية، وهرب الباقون إلى مصر.
فكتب بختنصّر إلى ملك مصر: « إنّ عبيدا لي هربوا مني إليك. فسرّحهم إليّ، وإلّا غزوتك وأوطأت بلادك الخيل. » فكتب إليه ملك مصر:
« ما هم عبيدك، ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار. » فغزاه بختنصّر، فقتله، وسبى أهل مصر. ثم انصرف بسبي كثير من أهل فلسطين والأردن فيهم دانيال النبي وغيره من أبناء الأنبياء، وخرب بيت المقدس منذ ذاك.
وكان لهراسف بعيد الهمّة، طويل الفكر، شديد القمع للملوك المحيطة بإيرانشهر. وكانت ملوك الروم والمغرب والهند يحملون إليه في كل سنة وظيفة معروفة وإتاوة معلومة، ويقرّون له أنّه ملك الملوك هيبة له. وكان بختنصّر حمل إليه من بيت المقدس خزائن وأموالا عظيمة. ثم كبرت سنّه، وأحسّ بالضعف.
فملّك ابنه بشتاسف، واعتزل الملك، وكان عمره وملكه فيما ذكر مائة وعشرين سنة. وقد قيل: إنّ بختنصّر كان في خدمة لهراسف، وتوجّه من قبله إلى الشام وبيت المقدس، ليجلى اليهود عنها، ففعل، ثم انصرف. ثم كان في خدمة ابنه بشتاسف، ثم في خدمة ابنه بهمن، وإنّ بهمن أقام ببلخ التي كانت تسمى: الحسناء، وأنفذ بختنصّر إلى بيت المقدس لإجلاء اليهود، وإنّ السبب في ذلك كان وثوب صاحب بيت المقدس على رسل بهمن وقتله بعضهم. فمضى بختنصّر، فسبى وهدم بيت المقدس. وانصرف إلى بابل، وملّك « متنيا » وسمّاه: « صدقيا ». فلمّا صار بختنصّر ببابل، خالفه صدقيا. فغزاه بختنصّر ثانيا، وظفر به. فأخرب المدينة والهيكل وأوثق صدقيا وحمله إلى بابل، بعد أن ذبح ولده وسمل عينيه، فمكث بنو إسرائيل ببابل، إلى أن رجعوا إلى بيت المقدس. فكانت غلبة بختنصّر - وهو بخت نرسى - إلى أن مات، في هذا القول الذي حكيناه آنفا، أربعين سنة.
ثم قام بعده ابن له يقال له: نمروذ، ثم ابن له يقال له: بلتنصّر، فخلّط، ولم يرتض بهمن أمره، فعزله، وملّك مكانه:
كيرش

وتقدّم إليه بهمن أن يرفق ببني إسرائيل، ويطلق لهم النزول حيث أحبّوا، والرجوع إلى أرضهم وأن يولّى عليهم من يختارونه، فاختاروا دانيال النبي فولّا أمرهم. وكان ملك كيرش ومدة سنيه معدودة من خراب بيت المقدس، منسوبة إلى بختنصّر ومبلغها سبعون سنة. ثم ملك بابل وناحيتها من قبل بهمن رجل من قرابته يقال له:
اخشوارس

ابن كيرش بن جاماسب الملقّب ب « العالم ».
وولد لإخشوارس ولد من امرأة من سبى بني إسرائيل يقال لها: أشير، صنعا من الله لبني إسرائيل، فسمّاه:
كيرش

فملك بعد أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وعلّمه خاله التوراة، وفهم أمر دانيال ومن كان معه: مثل حننيا، وعازريا، وعزير. وتأدّب وعلم العلوم. وسأله بنو إسرائيل أن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس فأبى وقال:
« لو كان معي منكم ألف نبي، ما فارقني [ ما فارقني ] ما دمت حيّا ».
وولّى دانيال القضاء، وأمره ان يخرج كل شيء في الخزائن مما كان بختنصّر أخذه من بيت المقدس، فبنى وعمر في أيام كيرش، ومات بهمن لثلاث عشرة سنة خلت من قيام كيرش ببابل.
وقد حكى أهل التوراة في أمر بختنصّر أقوالا مختلفة تركنا ذكرها. إلّا أنهم ذكروا أن بختنصّر لما خرّب بيت المقدس، أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا، ثم يقذفه في بيت المقدس. فقذفوا فيه من التراب ما ملأه. ولما انصرف إلى بابل، اجتمع معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم. فاجتمع عنده الكلّ، فاختار منهم سبعين ألف صبيّ. فلمّا خرجت غنائم جنده، سألوه أن يقسم فيهم الصبيان. فقسم في الملوك منهم، فأصاب كلّ رجل منهم أربعة. فكان من أولئك الغلمة: دانيال النبي، وحننيا، وميشايل، وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط آسر بن يعقوب، وعلى ذلك سائر أولاد يعقوب الأسباط.
ثم غزا بختنصّر العرب. وذلك في زمن معدّ بن عدنان. فوثب على كلّ من كان في بلاده من تجّار العرب، وكانوا يقدمون عليه بالتجارات، ويمتارون من عندهم الحبّ والتمر والثياب وغيرها. فجمع من ظفر به منهم، وبنى لهم حيرا على النجف، وحصّنه، وضمّهم فيه، ووكّل بهم حرسا. ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهّبوا لذلك، وانتشر الخبر في من يليهم من العرب، فخرجت إليهم طوائف منهم مسالمين فأحسن إليهم، وأنزلهم بختنصّر شاطئ الفرات، فابتنوا موضع معسكرهم، وسمّوه: « الأنبار » وخلّى عن أهل الحيرة، فاتّخذوها منزلا مدّة حياة بختنصّر. فلمّا مات انضموا إلى أهل الأنبار وبقي ذلك الحير خرابا.
وملك كي بشتاسف بن كي لهراسف، فبنى مدينة فسّا، وهو أول من عرف بسط دواوين الكتّاب، لا سيّما ديوان الرسائل، وأمر الكتّاب أن يطيلوا كتب الرسائل، ويذكروا فيها الأسباب والعلل.
وكان له ديوانان: أحدهما ديوان الخراج، والآخر ديوان النفقات. فكان كلّ ما يرد، فإلى ديوان الخراج، وكل ما يخرج من جيش وغيره، فإلى ديوان النفقات. وكان من رسم الوزير - واسمه: « برزج فرمذار » - أن يكون له خليفة يسمى:
« إيرانمارغر »، يصل إلى الملك، ويعرض عليه وينوب عن الوزير. فأمّا المتقلّد لديوان الرسائل فيسمّى: « دبيرفذ »، وكان له كاتب موكّل بدار المملكة، فان وقع على أحد تقصير في منزلة، أو حطّ في درجة، رجع إلى ذلك الكاتب حتى يبيّن حال مرتبته، فيجري عليه رسمه.