ظهور زردشت

وظهر في أيامه زردشت، وأراده على قبول دينه، فامتنع من ذلك، ثم صدّقه، وقبل ما دعاه إليه وأتاه به، من كتاب يكتب في جلد اثنى عشر ألف بقرة، حفرا في الجلود، ونقشا بالذهب. وصيّر بشتاسف ذلك بإصطخر ووكّل به الهرابذة، ومنع تعليمه العامة، وبنى ببلاد الهند بيوتا للنيران، وتنسّك واشتغل بالعبادة. وهادن خرزاسف بن كي سواسف ابن أخي فراسياب وملك الترك على ضرب من الصلح. وفي شريطة الصلح أن يكون [ بباب ] خرزاسف دابّة موقوفة في منزلة الدواب التي تكون على أبواب الملوك، فأشار زردشت على بشتاسف، بنقض الهدنة، ومفاسدة ملك الترك. فقبل منه، وبعث إلى الدابّة، والموكّل بها، أن ينصرف، وأظهر الغدر. فغضب خرزاسف، وكتب إليه كتابا غليظا، وأمره بتوجيه زردشت إليه، وأقسم - إن امتنع - أن يغزوه حتى يسفك دمه ودماء أهل بيته.
فلما ورد الرسول بالكتاب، كتب كتابا أغلظ منه جوابا عن كتابه، وآذنه بالحرب، وأعلمه أنّه غير ممسك [ عنه ] إن أمسك، فسار بعضهما إلى بعض، ومع كلّ واحد منهما إخوته وأهل بيته. فقتل بينهما خلق كثير، وأحسن الغناء ابن بشتاسف إسفنديار، وقتل بيدرفش الساحر بيده مبارزة. فصارت الدبرة على الترك، فقتلوا قتلا ذريعا، ومضى خرزاسف هاربا على وجهه، ورجع بشتاسف إلى بلخ.
فلمّا مضت لتلك الحرب سنون، سعى على إسفنديار رجل يقال له: فرّوخ، فأفسد قلب بشتاسف عليه. وذاك أنه أعلمه: أنه ينتدب للملك، ويزعم أنه أحقّ به، وأن الناس مائلون إليه. فصدّق بشتاسف بذلك، وترك الرفق ومعالجة الأمور على تؤدة، وأخذ في أن يندبه لحرب دون حرب. فكان ينجح فيها كلّها، ثم أمر بتقييده، وصيّره في الحصن الذي فيه حبس النساء. وصار بشتاسف إلى جبل يقال له: « طميذر »، لدراسة دينه، والتنسك هناك، وخلّف أباه لهراسف في مدينة بلخ شيخا هرما قد أبطله الكبر، وترك خزائنه وأمواله على امرأته.
فكان من عاقبة ذلك، أن حملت الجواسيس خبره إلى خرزاسف، فجمع جنودا لا يحصون كثرة، وشخص من بلاده نحو بلخ. فلما انتهى إلى تخوم ملك فارس، قدّم أمامه جوهرمز أخاه - وكان مرشّحا للملك - في جماعة من المقاتلة كثيرة، وأمرهم أن يغذّوا السير، حتى يتوسطوا المملكة، ثم يوقعوا بأهلها ويغيروا على المدن والقرى. ففعل جوهرمز ذلك، وسفك الدماء، واستباح الحرم، وسبى ما لا يحصى كثرة، واتبعه خرزاسف، فأحرق الدواوين، وقتل لهراسف والهرابذة، وهدم بيوت النيران، واستولى على الأموال والكنوز، وسبى ابنتين لبشتاسف، وأخذ فيما أخذ « درفش كابيان »، وشخص يتبع بشتاسف، فهرب منه بشتاسف، حتى تحصّن في الجبل الذي يعرف بطميذر مما يلي فارس، ونزل ببشتاسف ما ضاق به ذرعا وندم على ما صنعه بإسفنديار.
فيقال: إنه وجّه إليه بجاماسف، حتى استخرجه من محبسه، وصار به إلى أبيه. فلما دخل عليه، اعتذر إليه ووعده عقد التاج على رأسه، وأن يفعل به مثل الذي فعل به لهراسف، وقلّده عسكره، وأمره بمحاربة خرزاسف. فلما سمع إسفنديار كلام أبيه، طابت نفسه، وكفّر بين يديه، وتولّى الأمر، وتقدم فيما احتاج إليه.
ثم عبّى ليلته أصحابه، فلما أصبح، أمر بنفخ القرون، وسار بالجنود نحو عسكر الترك. فلما رأت الترك عسكره، خرجوا إليه على وجوههم يتسابقون وفي القوم جوهرمز وأندرمان. فالتحمت الحرب بينهم، وانقضّ إسفنديار [ و ] بيده الرمح كالبرق، حتى خالط القوم، وأكبّ عليهم بالطعن. فلم تكن هنيهة حتى ثلم في القوم ثلمة عظيمة، وفشا في الترك: إسفنديار قد أطلق من الحبس، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار وقد ارتجع العلم الأكبر، وحمل معه منشورا.
فلمّا دخل على بشتاسف، استبشر بظفره، وأمر باتّباع القوم وقتل خرزاسف إن قدر عليه، بلهراسف، وبقتل جوهرمز وأندرمان، بمن قتل من ولده، وبهدم حصون الترك وبحرق مدنها وبقتل أهلها، بمن قتلوا من حملة الدين، وباستنقاذ السبايا، ووجّه معه من القواد والعظماء خلقا كثيرا. فدخل إسفنديار بلاد الترك، ورام ما لم يرمه أحد، واعترض - على ما تزعم الفرس - العنقاء المذكورة، ورماها، ودخل مدينة الصفر عنوة، حتى قتل ملكها وإخوته ومقاتلته، واستباح أمواله، وسبى ذراريّه ونساءه واستنقذ أختيه، وكتب بالفتح إلى أبيه.
ياسر أنعم

فأمّا ملوك اليمن، فقد كتبناهم إلى عهد سليمان وأيّامه، ثم صار الملك إلى ياسر بن عمرو الذي يقال له: ياسر أنعم، لإنعامه على العرب. وكان سار غازيا نحو المغرب. حتى بلغ واديا يقال له: وادي الرمل، ولم يكن بلغه أحد قبله، ولم يجد وراءه مجازا لكثرة الرمل. فبينا هو مقيم إذ انكشف الرمل. فأمر بعض أهل بيته أن يعبر هو وأصحابه. فعبروا، ولم يرجعوا. فأمر بصنم من نحاس، فصنع ثم نصب على صخرة عظيمة على شفير الوادي، وكتب في صدره بالمسند:
« هذا الصنم لياسر أنعم الحميري، ليس وراءه مذهب، فلا يتكلّفن ذلك أحد فيعطب. »
تبع

ثم ملك بعد تبّع. وهو تبان، وهو أسعد، وهو أبو كرب بن مليكيكرب، تبّع بن زيد بن عمرو بن تبّع ذي الاذعار بن أبرهة تبّع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ.
وكان تبّع هذا في أيام بشتاسف وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسف.
خرج وغزا، وبلغ الأنبار، والموصل، ثم آذربيجان، ولقي بها الترك، فهزمهم، وقتل بها المقاتلة، وسبى الذريّة، فأقام بها دهرا، وهابته الملوك، وأهدت إليه، وقدم عليه رسول ملك الهند بالهدايا والطرف من الحرير والمسك، وسائر الطرف، فرأى ما لا يرى مثله.
فقال: « ويحك! أكلّ هذا في بلادكم؟ » فقال: أبيت اللعن، هذا أقلّ ما ترى في بلادنا، وأكثره في بلاد الصين. » ووصف له بلاد الصين، وسعتها وخصبها. فآلى ليغزونّها، وسار بحمير، حتى أتى الصين في جمع عظيم، حتى دخلها، فقتل مقاتلتها، واكتسح ما وجد فيها.
ويزعمون أنّ مسيره إليها كان - ومقامه بها ورجعته منها - في سبع سنين. وخلّف بالتبّت اثنى عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التبت اليوم، ويزعمون أنهم عرب، وخلقهم وألوانهم خلق العرب وألوانهم.
أردشير بهمن

وملك بعد بشتاسف أردشير بهمن. وانبسطت يده، وتناول الممالك بقدرة [ حتى ] ملك الأقاليم. وابتنى بالسواد مدينة وهي المعروفة ب « همينيا » وهو أبو دارا [ الأكبر ]، وأبو ساسان أبي الفرس الأخير أردشير بن بابك وولده.
وكان بهمن بن إسفنديار كريما، متواضعا، مرضيّا. وكانت تخرج كتبه: « من أردشير بهمن عبد الله، وخادم الله، والسائس لأمركم ».
ويقال: إنّه غزا الرومية الداخلة، في ألف ألف مقاتل. ولم تزل ملوك الأرض تحمل إليه الإتاوة، إلى أن هلك، وابنه دارا [ الأكبر ] في بطن أمه. فملّكوا خماى بنته شكرا لأبيها. وكان من أعظم ملوك الفرس شأنا، وأفضلهم تدبيرا. وله كتب ورسائل تفوق كتب أردشير وعهده. وتفسير « بهمن » بالعربية: « الحسن النيّة ».