ذكر حيلة لقصير على الزباء تمت له عليها

كانت الزبّاء قد سألت الكهنة والمنجّمين عن أمرها وملكها، فقالوا:
« نرى هلاكك بسبب غلام مهين غير أمين. » ووصفوا قصيرا وعمرو بن عديّ، وقالوا:
« لن تموتي إلّا بيده، ولكنّ حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون. » فحذرت عمرا، واتّخذت نفقا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه، إلى حصن لها داخل مدينتها، وقالت: إن فجئنى أمر دخلت النفق إلى حصني.
ثم دعت مصوّرا حاذقا فجهّزته، وقالت:
« سر حتى تقدم على عمرو بن عديّ متنكّرا فتخلو بحشمه وتخالطهم بما عندك من التصوير، ثم أثبت عمرو بن عديّ معرفة، فصوّره جالسا، وقائما، وراكبا، ومتفضّلا، ومتسلّحا بهيئته، ولبسته، وثيابه، ولونه. فإذا أحكمت ذلك، فأقبل إليّ. » فانطلق المصوّر، حتى قدم على عمرو بن عديّ وبلغ جميع ما وصّته به، ثم رجع إليها بما وجّهته له من الصور. فعرفت عمرا على جميع هيئاته، وحذرته.
ثم إنّ قصيرا قال لعمرو: « إجدع أنفى، واضرب ظهري، ودعني وإيّاها. » فقال عمرو: « وما أنا بفاعل، ولا أنت بمستحقّ مني لذلك. » فقال قصير: « خلّ عني إذا وخلاك ذمّ. » فذهبت مثلا.
فقال له عمرو: « فأنت أبصر. » فجدع قصير أنف نفسه، وأثّر بظهره، وقيلت فيه الأشعار. وخرج قصير كأنّه هارب، وأظهر أنّ عمرا فعل به ذلك، وأنّه يزعم أنّه مكر بخاله جذيمة، وغرّه من الزبّاء.
فسار قصير حتى قدم على الزبّاء. فقيل لها: « إنّ قصيرا بالباب. » فأمرت به، فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب.
فقالت: « ما الذي أرى بك يا قصير؟ » قال: « زعم عمرو أنّى غررت خاله، وزيّنت له المسير إليك، وغششته، ومالأتك عليه، ففعل بي ما ترين، فأقبلت إليك، وعرفت أنّى لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك. » فأكرمته، وأصابت عنده حزما ورأيا وتجربة ومعرفة بأمور الملوك. فلمّا علم أنّها قد وثقت به، واسترسلت إليه، قال لها:
« إنّ لي بالعراق أموالا كثيرة، وبها طرائف وثياب وعطر، فابعثني إلى العراق لأحمل مالي، وأحمل إليك من بزوزها، وطرائف ثيابها، وصنوف ما يكون بها من الأمتعة، والطيب، والتجارات، فتصيبين ما لا غناء للملوك عنه، مع أرباح عظيمة، فإنّه لا طرائف كطرائف العراق. » فلم يزل بها يزيّن لها ذلك، حتى سرّحته، ودفعت إليه أموالا، وجهّزت معه عيرا، وقالت:
« انطلق إلى العراق، فبع بها ما جهّزناك به، وابتع لنا طرائف ما يكون بها. » فسار قصير، وأتى الحيرة متنكّرا، فدخل على عمرو، وأخبره بالخبر، وقال:
« جهّزنى بالبزّ والطرف من الأمتعة، لعلّ الله يمكّن من الزبّاء، فتصيب ثأرك، وتقتل عدوّك. » فأعطاه حاجته، وجهّزه بصنوف الثياب وغيرها. فرجع بذلك كلّه إلى الزبّاء فعرضه عليها. فأعجبها ما رأت، وازدادت به ثقة، وإليه طمأنينة، ثم جهّزته بأكثر ممّا كانت جهّزته به. فسار حتى قدم العراق، ولقي عمرو بن عديّ، وحمل من عنده ما ظنّ أنّه موافق للزبّاء، ولم يترك جهدا ولا حيلة في طرفة ولا متاع قدر عليه إلّا حمله إليها.
ثم عاد الثالثة إلى العراق. فقال لعمرو:
« اجمع إليّ ثقات قومك وأصحابك وجندك، وهيّئ لي الغرائر والمسوح. » وحمل كلّ رجلين في غرارتين، وجعل معقد رؤوس الغرائر من باطنها، وقال:
« إذا دخلنا مدينة الزبّاء، أقمتك على باب نفقها، وخرجت الرجال من الغرائر، فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قتلوه، وإذا أقبلت الزبّاء تريد النفق، حلّلتها بالسيف. » ففعل عمرو بن عدى جميع ذلك. فلمّا قرب من المدينة، تقدّم قصير إليها، وبشّرها، وأعلمها كثرة ما حمل إليها من الثياب، وسألها أن تخرج فتنظر إلى قطرات تلك الإبل، وما عليها من الأحمال. وكان قصير يكمن النهار ويسير بالليل. فخرجت الزبّاء فأبصرت الإبل. فلمّا توسّطت الإبل المدينة أنيخت، ودلّ قصير عمرا على باب النفق، وخرجت الرجال من الغرائر، وصاحوا بأهل المدينة، ووضعوا فيهم السلاح. وقام عمرو بن عديّ بباب النفق، وأقبلت الزبّاء مبادرة تريد النفق لتدخله. فأبصرت عمرا قائما، فعرفته بالصورة التي صوّرها المصوّر، فمصّت خاتمها وكان فيه سمّ، وقالت:
« بيدي، لا بيدك يا عمرو! » فحلّلها بالسيف، فقتلها وأصاب ما أصاب، وانكفأ سالما.
عمرو بن عدي

وصار الملك بعد جذيمة لعمرو بن عديّ بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم، وهو أول من اتّخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وإليه تنسب ملوك آل نصر، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة، لا يدين لملوك الطوائف، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس، فكان من أمرهم ما كان. ولم يكن لملوك اليمن نظام قبل آل نصر، وإنّما كان الرئيس يكون ملكا على مخلافه ومحجره، ولا يتجاوزه، فإن نبغ منهم نابغ مثل تبّع وغيره، فتجاوز ذلك، فإنّما هو عن غير نظام ولا ملك موطّد [ له ] ولا لآبائه، ولا لأبنائه، ولكن كالذي يكون من بعض من تشرّد، فيغير عند الغرّة، فإذا قصده الطلب، لم يكن له ثبات. فكذلك كان أمر ملوك اليمن كان الواحد منهم بعد الواحد، في قديم الدهر، يخرج من مخلافه ومحجره أيّاما، فيصيب ما مرّ به، ثم يتشمّر عند الطلب راجعا إلى موضعه من غير أن يدين له أحد من غير أهل مخلافه ومحجره بالطاعة، أو يؤدّى إليه خرجا إلّا ما يصيب على جهة الغارة، حتى كان عمرو بن عديّ، ابن أخت جذيمة، فإنّه اتّصل له ولعقبه ولأسبابه الملك على من كان بنواحي العراق، وبادية الحجاز، باستعمال ملوك فارس إيّاهم واستكفائهم أمر من وليهم من العرب.
طسم وجديس

وممّن أساء السيرة فاصطلم، طسم وجديس، وكانوا في أيّام ملوك الطوائف. فأما طسم فكان الملك فيهم، وكانوا ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيرا، لهم فيها صنوف الثمار، ومعجبات الحدائق والقصور الشامخة. وكان ملكهم ظلوما غشوما راكبا هواه. فكان مما لقوا من ظلمه: أنه أمر ألّا تهدى بكر من جديس إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها. فغبر على ذلك دهرا، حتى أنف منهم رجل يقال له: الأسود بن عفار.
فقال لرؤساء قومه:
« قد ترون ما نحن فيه من العار والذلّ، الذي ينبغي للكلاب أن تعافه، وتمتعض منه، فأطيعونى، فإني أدعوكم إلى عزّ الدهر ونفى الذلّ. » قالوا: « وما ذاك؟ » فأخذ عهودهم إلى أن وثق ثم قال:
« إني صانع للملك طعاما، فإذا حضر نهضنا إليهم بأسيافنا، فانفردت به فقتلته، وأجهز كلّ رجل منكم على جليسه. » فأجابوه إلى ذلك، واجتمع رأيهم عليه. فاتّخذ طعاما وأمر قومه، فانتضوا سيوفهم ودفنوها في الرمل، وقال:
« إذا أتاكم القوم يرفلون في حللهم فخذوا سيوفكم ثم شدّوا عليهم قبل أن يأخذوا مجالسهم، ثم اقتلوا الرؤساء، فإنّكم إذا قتلتموهم لم تكن السفلة شيئا. » وحضر الملك، فقتل وقتل الرؤساء، ثم شدّوا على البقيّة، فأفنوهم.