حدة بصر اليمامة
فهرب رجل من طسم يقال له: رياح بن مرّة، حتى أتى حسان بن تبّع، فاستغاث به. فخرج حسّان بن تبّع في حمير، فلمّا كان من اليمامة على ثلاث، قال له رياح:
« أبيت اللعن، إنّ لي أختا متزوّجة في جديس يقال لها: اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها. إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإني أخاف أن تنذر القوم، فمر أصحابك، فليقطع كلّ رجل منهم شجرة فيجعلها أمامه. » ففعلوا ذلك، فأبصرتهم، فقالت لجديس:
« لقد سارت حمير. » فكذّبوها وقالوا:
« ما الذي ترين؟ » قالت: « أرى رجلا في شجر معه كتف يتعرّقها أو نعل يخصفها. » فلم يستمعوا منها، واستهانوا، فكان كما قالت. وصبّحهم حسّان فأبادهم وأخرب بلادهم، وهدّم قصورهم وحصونهم. وأتى حسّان باليمامة ففقأ عينها، وقالت العرب في ذلك الأشعار، وهي معروفة.
الساسانية ومن عاصرهم أردشير بن بابك
ثم لمّا استولى أردشير بن بابك على الأرمانيّين (و هم ملوك العراق وأنباط السواد، وكان كلّ واحد منهم يقاتل صاحبه، فاستولى أردشير عليهما، وقتل الأردوان - ويسمّى « شاهنشاه»)، كره كثير من تنوخ أن يقيموا في مملكته، فخرجوا، فلحقوا بالشام، وانضمّوا إلى من كان هناك، وكان ناس من العرب يحدثون الأحداث لو تضيق بهم المعيشة، فيخرجون إلى ريف العراق وينزلون الحيرة على ثلاثة أثلاث: الثلث [ الأوّل ]: « تنوخ »، وهم من كان يسكن المظالّ وبيوت الشعر والوبر في غربيّ الفرات فيما بين الحيرة والأنبار وما فوقها.
والثلث الثاني: « العبّاد »، وهم الذين سكنوا الحيرة وابتنوا بها. والثلث الثالث:
« الأخلاف »، وهم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيهم ممن لم تكن من تنوخ الوبر ولا من العبّاد الذين دانوا لأردشير. وكانت الحيرة والأنبار جميعا بنيتا في زمن بختنصّر، فخربت الحيرة لما تحول أهلها عند هلاك بختنصّر إلى الأنبار، وعمرت الأنبار خمسمائة وخمسين سنة إلى أن عمرت الحيرة في زمن عمرو بن عديّ باتّخاذه إيّاها منزلا، فعمرت الحيرة خمسمائة وبضعا وثلاثين سنة، إلى أن وضعت الكوفة، ونزلها المسلمون.
ودبّر أردشير أمر الفرس والعرب، وردّ نظام الملك، وكان حازما أريبا كثير الاستشارة طويل الفكر، معتمدا في تدبيره على رجل فاضل من الفرس يعرف ب « تنسر »، وكان هربذا. فلم يزل يدبّر أمره ويجتمع معه على سياسة الملك، إلى أن أطاعه من جاوره من ملوك الطوائف، وعرفوا فضله، ودخلوا تحت رايته رهبة ورغبة، وحارب من امتنع منهم عليه.
وله مكايد وحروب يطول الكتاب بذكرها. فمن أحسن ما حفظ له عهده إلى الملوك بعده، وهذه نسخته:
عهد أردشير
« باسم وليّ الرحمة. من ملك الملوك أردشير بن بابك، إلى من يخلفه بعقبه من ملوك فارس، السلام والعافية. أمّا بعد، فإنّ صيغ الملوك على غير صيغ الرعية، فالملك يطبعه العزّ والأمن والسرور والقدرة، على طباع الأنفة والجرأة والعيث والبطر. ثم كلّما ازداد في العمر تنفّسا وفي الملك سلامة، زاده في هذه الطبائع الأربع، حتى يسلمه إلى سكر السلطان الذي هو أشدّ من سكر الشراب، فينسى النكبات والعثرات والغير والدوائر وفحش تسلّط الأيام، ولؤم غلبة الدهر، فيرسل يده ولسانه بالفعل والقول. وقد قال الأوّلون منّا: عند حسن الظنّ بالأيّام تحدث الغير. وقد كان من الملوك من يذكّره عزّه الذلّ، وأمنه الخوف، وسروره الكآبة، وبطره [ السوقة ]، [ وقدرته المعجزة ]، ولا حزم إلّا في جميعها.
« اعلموا أنّ الذي أنتم لاقون بعدي، هو الذي لقيني من الأمور، وهي بعدي واردة عليكم [ بمثل الذي وردت به عليّ ]، فيأتيكم السرور والأذى في الملك من حيث أتيانى، وأن منكم من سيركب الملك صعبا فيمنى من شماسه وجماحه وخبطه واعتراضه بمثل الذي منيت به. ومنكم من سيرث الملك عن الكفاة المذلّلين له مركبه، وسيجرى على لسانه ويلقى فيه قلبه أن قد فرع له، وكفى، واكتفى وفرغ للسعي في العبث والملاهي، وأنّ من قبله من الملوك إلى التوطيد له أجروا، وفي التمكين له سعوا، وأن قد خصّ بما حرموا، وأعطى ما منعوا، فيكثر أن يقول مسرّا ومعلنا: خصّوا بالعمل وخصصت بالدعة، وقدّموا قبلي إلى الغرر، وخلّفت في الثقة.
وهذا الباب من الأبواب التي تكسر سكور الفساد، ويهاج بها قربات البلاء، ويغنى البصير اللطيف ما ينتهك من الأمور في ذلك. فإنّا قد رأينا الملك الرشيد السعيد المنصور المكفيّ المظفر الحازم في الفرصة، البصير بالعورة، اللطيف [ للشبهة ] المبسوط له في العلم والعمر، يجتهد فلا يعدو صلاح ملكه حياته، إلّا أن يتشبّه به متشبّه. ورأينا الملك القصير عمره، القريبة مدّته، إذا كان سعيه بإرسال اللسان بما قال، واليد بما عملت، بغير تدبير يدرك، أفسد جميع ما قدّم له من الصلاح قبله، ويخلّف المملكة خرابا على من بعده.
« وقد علمت أنكم ستبلون مع الملك بالأزواج والأولاد والقرناء والوزراء والأخدان والأنصار والأصحاب والأعوان والمتنصّحين والمتقربين والمضحكين والمزيّنين: كلّ هؤلاء - إلّا قليلا - أن يأخذ لنفسه أحبّ إليه من أن يعطى منها، وإنّما عمله لسوق يومه وحياة غده. فنصيحته الملوك فضل نصيحته لنفسه، وغاية الصلاح عنده صلاح نفسه، وغاية الفساد عنده فسادها يجعل نفسه هي العامّة، والعامّة هي الخاصّة: فإن خصّ بنعمة دون الناس فهي عنده نعمة عامّة، وإذا عمّ الناس بالنصر على العدوّ، والعدل في البيضة، والأمن على الحريم، والحفظ للأطراف، والرأفة من الملك، والاستقامة من الملك، ولم يخصص من ذلك بما يرضيه، سمّى تلك النعمة نعمة خاصّة. ثم أكثر شكيّة الدهر، ومذمّة الأمور. يقيم للسلطان سوق المودّة ما أقام له سوق الأرباح، ولا يعلم ذلك الوزير والقرين أنّ في التماس الربح على السلطان فساد جميع الأمور، وقد قال الأوّلون منّا: رشاد الوالي خير للرعيّة من خصب الزمان.
« واعلموا أنّ الملك والدين أخوان توأمان. لا قوام لأحدهما إلّا بصاحبه، لأنّ الدين أسّ الملك وعماده، وصار الملك بعد حارس الدين، فلا بدّ للملك من أسّه، ولا بدّ للدين من حارسه، فإنّ ما لا حارس له ضائع، وإنّ ما لا أسّ له مهدوم. وإنّ رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إيّاكم إلى دراسة الدين [ وتلاوته والتفقّه فيه، فتحملكم الثقة بقوّة السلطان ] على التهاون بهم، فتحدث في الدين رئاسات مستسرّات في من قد وترتم وجفوتم وحرمتم وأخفتم وصغّرتم من سفلة الناس والرعيّة وحشو العامّة، ولم يجتمع رئيس في الدين مسرّ، ورئيس في الملك معلن، في مملكة واحدة قطّ، إلّا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك، لأنّ الدين أسّ والملك عماد، وصاحب الأسّ أولى بجمع البنيان من صاحب العماد.
« وقد مضى قبلنا ملوك كان الملك منهم يتعهد الجملة بالتفسير والجماعات بالتفصيل، والفراغ بالأشغال، كتعهّده جسده بقصّ فضول الشعر والظفر وغسل الدرن والغمر ومداواة ما ظهر من الأدواء وما بطن. وقد كان من أولئك الملوك من صحّة ملكه أحبّ إليه من صحّة جسده، وكان بما يخلّفه من الذكر [ الجميل ] المحمود، أفرح وأبهج منه بما يسمعه بأذنه في حياته.
فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد، وكأنّ أرواحهم روح واحدة، يمكّن أوّلهم لآخرهم، ويصدّق آخرهم أوّلهم بجميع أنباء أسلافهم، ومواريث آرائهم، وصياغات عقولهم، عند الباقي منهم بعدهم، فكأنّهم جلوس معه، يحدّثونه، ويشاورونه، حتى كان على رأس دارا بن دارا ما كان، وغلبة الإسكندر على ما غلب من ملكنا. فكان إفساده أمرنا، وتفريقه جماعتنا، وتخريبه عمران مملكتنا، أبلغ له في ما أراد من سفك دمائنا. فلمّا أذن الله في جمع مملكتنا ودولة أحسابنا، كان من ابتعاثه إيّانا ما كان، وبالاعتبار تتّقى الغير، ومن يخلفنا أوجد للاعتبار، منّا، لما استدبروا من أعاجيب ما أتى علينا.
« واعلموا أنّ سلطانكم إنّما هو على أجساد الرعيّة، وأنّه لا سلطان للملوك على القلوب. واعلموا أنكم إن غلبتم الناس على ذات أيديهم، فلن تغلبوهم على عقولهم. واعلموا أنّ العاقل [ المحروم ] سالّ عليكم لسانه، وهو أقطع سيفيه، وإنّ أشدّ ما يضربكم به من لسانه، ما صرف الحيلة فيه إلى الدين: فكأنّ بالدين يحتجّ وللدين - فيما يظهر - يغضب، فيكون للدين بكاؤه، وإليه دعاؤه، وهو أوجد للتابعين والمصدّقين والمناصحين والمؤازرين منكم. لأنّ بغضة الناس هي موكّلة بالملوك، ومحبّتهم ورحمتهم موكلّة بالضعفاء المغلوبين. وقد كان من قبلنا من الملوك يحتالون لعقول من يحذرون، بتخريبها، فانّ العاقل لا تنفعه [ جودة ] نحيزته إذا صيّر عقله خرابا [ مواتا ]، وكانوا يحتالون للطاعنين بالدين على الملوك، فيسمّونهم المبتدعين.
فيكون الدين هو الذي يقتلهم ويريح الملوك منهم. ولا ينبغي للملك أن يعترف للعبّاد والنسّاك [ والمتبتّلين ] أن يكونوا أولى بالدين، ولا أحدب عليه، ولا أغضب له منه. ولا ينبغي للملك أن يدع النسّاك بغير الأمر والنهى لهم في نسكهم [ ودينهم ] فإنّ خروج النساك وغير النسّاك من الأمر والنهى عيب على الملوك وعيب على المملكة. وثلمة يتسنّمها الناس بنيّة الضرر للملك ولمن بعده.
« واعلموا أنّ مصير الوالي إلى غير أخدانه، وتقريبه غير وزرائه، فتح لأبواب [ الأنباء ] المحجوب عنه علمها. وقد قيل: إذا استوحش الوالي ممّن لم يوطّن نفسه عليه، أطبقت عليه ظلم الجهالة، وقيل: أخوف ما تكون العامّة آمن ما يكون الوزراء.
« اعلموا أنّ دولتكم تؤتى من مكانين: أحدهما غلبة بعض الأمم المخالفة لكم، والآخر فساد أدبكم. ولن يزال حريمكم من الأمم محروسا، ودينكم من غلبة الأديان محفوظا، ما عظّمت فيكم الولاة، وليس تعظيمهم بترك كلامهم، ولا إجلالهم بالتنحّى عنهم، ولا المحبّة لهم بالمحبّة لكل ما يحبّون. ولكن تعظيمهم تعظيم أديانهم وعقولهم، وإجلالهم إجلال منزلتهم من الله، ومحبّتهم محبّة إصابتهم، وحكاية الصواب عنهم.
« واعلموا أنه لا سبيل إلى أن يعظّم الوالي إلّا بالإصابة في السياسة، ورأس إصابة السياسة أن يفتح الوالي لمن قبله من الرعية بابين: أحدهما باب رقّة ورحمة [ ورأفة وتضرّع وبذل وتحنّن وإلطاف ومواساة ومؤانسة ] وبشر وتهلل [ وعفو ] وانبساط وانشراح، والآخر: باب غلظة وخشية وتعنّت وتسدّد وإمساك ومباعدة وإقصاء ومخالفة ومنع وقطوب وانقباض [ وتضييق وعقوبة ] ومحقرة إلى أن يبلغ القتل. واعلموا انّى لم أسمّ [ هذين البابين ] باب رفق وباب عنف، ولكني [ سمّيتهما ] جميعا « بابى رفق »، لأنّ فتح باب المكروه مع باب السرور هو أو شك لغلقه، حتى لا يبتلى به أحد. وفي الرعيّة من الأهواء الغالبة للرأى والفجور المستثقل للدين والسفلة الحنقة على الوجوه بالنفاسة والحسد، ما لا بدّ معه أن يقرن بباب الرأفة باب الغلظة، وبباب الاستبقاء باب القتل، وقد يفسد الوالي بعض الرعيّة من حرصه على صلاحها، ويغلظ عليها من رقّته لها، ويقتل فيها من حرصه على حياتها.
« واعلموا أنّ قتالكم الأعداء من الأمم قبل قتالكم الأدب من أنفس رعيّتكم، ليس بحفظ، ولكنّه إضاعة. وكيف يجاهد العدوّ بقلوب مختلفة، وأيد متعادية. وقد علمتم أنّ الذي بنى عليه الناس، وجبلت عليه الطباع، حبّ الحياة وبغض الموت، [ وأنّ الحرب تباعد من الحياة وتدنى من الموت ]، فلا دفع ولا منع ولا صبر ولا محاماة مع هذا، إلّا بأحد وجهين: إمّا بنيّة، والنيّة ما لن يقدر على الوالي عند الناس بعد النيّة التي تكون في أوّل الدولة، وإمّا بحسن الأدب وإصابة السياسة.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)