« واعلموا أنّ بدء ذهاب الدول من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة، ولا أعمال معلومة. فإذا فشى الفراغ [ في الناس ]، تولّد منه النظر في الأمور، والفكر في الأصول. فإذا نظروا في ذلك، نظروا فيه بطبائع مختلفة، فتختلف بهم المذاهب، ويتولّد من اختلاف مذاهبهم، تعاديهم وتضاغنهم وتطاعنهم، وهم في ذلك مجتمعون - في اختلافهم - على بغض الملوك، لأنّ كل صنف منهم إنما يجرى إلى فجيعة الملك بملكه، ولكنهم لا يجدون سلّما إلى ذلك أوثق من الدين، ولا أكثر أتباعا، ولا أعزّ امتناعا، ولا أشدّ على الناس صبرا. ثم يتولّد من تعاديهم أنّ الملك لا يستطيع جمعهم على هوى واحد، فإذا انفرد ببعضهم، فهو عدوّ بقيّتهم، ثم تتولّد من عداوتهم [ للملك ] كثرتهم، فإنّ من شأن العامّة الاجتماع على استثقال الولاة والنفاسة عليهم. لأنّ في الرعيّة المحروم، والمضروب، والمقام عليه وفيه وفي حميمه الحدود، والداخل عليه بعزّ الملك الذلّ في نفسه وخاصّته. فكلّ هؤلاء يجرى إلى متابعة أعداء الملك. ثم يتولّد من كثرتهم أن يجبن الملك عن الإقدام عليهم، فإنّ إقدام الملك على جميع الرعيّة تغرير بملكه ونفسه، ويتولّد من جبن الولاة عن تأديب العامة تضييع الثغور التي فيها الأمم من ذوي الدين والبأس، لأنّ الملك إن سدّ الثغور بخاصّته المناصحين له، وخلت به العامّة الحاسدة المعادية، لم يعد بذلك تدريبهم في الحرب، وتقويتهم في السلاح، وتعليمهم المكيدة مع البغضة، فهم عند ذلك أقوى عدو [ وأضرّه، وأحنقه ]، وأحضره، وأخلقه بالظفر، ولا بدّ من استطراد هذا كله إذا ضيّع أوّله.
« فمن ألفى منكم الرعيّة بعدي وهي على حال أقسامها الأربعة التي هي: أصحاب الدين، والحرب، والتدبير، والخدمة - من ذلك:
الأساورة صنف، والعبّاد والنسّاك وسدنة النيران صنف، والكتّاب والمنجّمون والأطبّاء صنف، والزرّاع والمهّان والتجار صنف - فلا يكوننّ بإصلاح جسده أشدّ اهتماما منه بإحياء تلك الحال، وتفتيش ما يحدث فيها من الدخلات، ولا يكوننّ لانتقاله عن الملك بأجزع منه من انتقال صنف من هذه الأصناف إلى غير مرتبته. لأنّ تنقّل الناس عن مراتبهم سريع في نقل الملك عن ملكه: إمّا إلى خلع، وإمّا إلى فتك. فلا يكوننّ من شيء من الأشياء أوحش بتّة من رأس صار ذنبا، أو ذنب صار رأسا، أو يد مشغولة أحدثت فراغا، أو كريم ضرير، أو لئيم مرح. فانّه يتولّد من تنقّل الناس عن حالاتهم، أن يلتمس كلّ امرئ منهم أشياء فوق مرتبته. فإذا انتقل أو شك أن يرى أشياء أرفع مما انتقل إليه، فيغبط وينافس. وقد علمتم أنّ من الرعيّة أقواما هم أقرب الناس من الملوك حالا. وفي تنقّل الناس عن حالاتهم مطمعة للذين يلون الملوك في الملك، ومطمعة للذين دون الذين يلون الملوك في تلك الحال، وهذا لقاح بوار الملك.
« ومن ألفى منكم الرعيّة وقد أضيع أوّل أمرها، فألفاها في اختلاف من الدين، واختلاف من المراتب، وضياع من العامّة، وكانت به على المكاثرة قوّة، فليكاثر بقوّته ضعفهم، وليبادر بالأخذ بأكظامهم قبل أن يبادروا بالأخذ بكظمه، ولا يقولنّ:
أخاف العسف. فإنّما يخاف العسف من يخاف جريرة العسف على نفسه، فأمّا إذا كان العسف لبعض الرعيّة صلاحا لبقيّتها، وراحة له ولمن بقي معه من الرعيّة، من النغل والدغل والفساد، فلا يكوننّ إلى شيء بأسرع منه إلى ذلك، فإنّه ليس نفسه ولا أهل موافقته يعسف، ولكنّما يعسف عدوّه.
« ومن ألفى منكم الرعيّة في حال فسادها، ولم ير بنفسه عليها قوّة في [ إ ] صلاحها، فلا يكوننّ لقميص قمل بأسرع خلعا منه لما لبس من ذلك الملك، وليأته البوار - إذا أتاه - وهو غير مذكور بشؤم، ولا منوّه به في دنياه، ولا مهتوك به ستر ما في يديه.
« واعلموا أنّ فيكم من يستريح إلى اللهو والدعة، ثم يديم من ذلك ما يورثه خلقا وعادة. فيكون ذلك لقاح جدّ لا لهو فيه، وتعب لا خفض فيه، مع الهجنة في الرأي والفضيحة في الذكر. وقد قال الأولون منّا: لهو رعيّة الصدق بتقريظ الملوك، ولهو ملوك الصدق بالتودّد إلى الرعيّة.
« واعلموا أنّ من شاء منكم ألّا يسير بسيرة إلّا قرّظت له فعل، ومن شاء منكم بعث العيون على نفسه فأذكاها، فلم تكن الناس بعيب نفوسهم بأعلم منه بعيبه.
« ثم إنه ليس منكم ملك إلّا كثير الذكر لمن يلي الأمر بعده، ومن فساد الرعيّة نشر أمور ولاة العهود، فإنّ في ذلك من الفساد أنّ أوّله دخول عداوة ممضّة بين الملك، وولى عهده، وليس يتعادى متعاديان بأشدّ من أن يسعى كلّ واحد منهما في قطع سؤل صاحبه. وهكذا الملك، وولى عهده: لا يسرّ الأرفع أن يعطى الأوضع سؤله في فنائه. ولا يسرّ هذا الأوضع أن يعطى الآخر سؤله في البقاء، ومتى يكن فرح أحدهما في الراحة من صاحبه، تدخل كل واحد منهما وحشة من صاحبه في طعامه وشرابه، ومتى تداينا بالتهمة، يتّخذ كلّ واحد منهما [ أحبّاء وأخدانا وأهلا، ثم يدخل كلّ واحد منهما ] وغر على أحبّاء صاحبه. ثم تنساق الأمور إلى هلاك أحدهما لما لا بدّ منه من الفناء، فتفضى الأمور إلى الآخر وهو حنق على جيل من الناس، يرى أنه موتور إن لم يحرمهم ويضعهم، وينزل بهم التي كانوا يريدون إنزالها به لو ولوا.
فإذا وضع بعض الرعية وأسخط بعضا على هذه الجهة، تولّد من ذلك ضغن وسخط من الرعيّة، ثم ترامى ذلك إلى بعض ما أحذر عليكم بعدي. ولكن ليختر الوالي منكم لله، ثم للرعيّة، ثم لنفسه، وليّا للعهد من بعده، ثم ليكتب اسمه في أربع صحائف، فيختمها بخاتمه، فيضعها عند أربعة نفر من خيار أهل المملكة. ثم لا يكوننّ منه في سرّ ولا في علانية أمر يستدلّ به على وليّ ذلك العهد، لا في إدناء وتقريب يعرف به، ولا في إقصاء وتنكّب يستراب له، وليتّق ذلك في اللحظة والكلمة. فإذا هلك، جمعت تلك الكتب التي عند الرهط الأربعة، إلى النسخة التي عند الملك، ففضضن جميعا، ثم نوّه بالذي وضع اسمه في جميعهن. فيلقى الملك - إذا لقيه - بحداثة عهده بحال السوقة، فلبس ذلك الملك - إذا لبسه - ببصر السوقة، وسمعها، ورأيها. فإنّ في سكر السلطان الذي سيناله، ما يكتفى به له من سكر ولاية العهد مع سكر الملك.
فيصمّ ويعمى قبل لقاء الملك لصمم الملوك وعماهم، ثم يلقى الملك، فيزيده صمما وعمى مع ما يلقى في ولاية العهد من بطر السلطان، وحيلة العتاة، وبغى الكذّابين و [ ترقية ] النمّامين وتحميل الوشاة بينه وبين من فوقه.
« ثم اعلموا أنّه ليس للملك [ أن يبخل، لأنه لا يخاف الفقر، وليس له ] أن يكذب، لأنه لا يقدر أحد على استكراهه، وليس له أن يغضب، لأنّ الغضب والعداوة لقاح الشرّ والندامة، وليس له أن يلعب ولا يعبث، لأنّ العبث واللعب من عمل الفرّاغ، وليس له أن يفرغ، لأنّ الفراغ من أمر السّوق، وليس له أن يحسد إلّا ملوك الأمم على حسن التدبير، وليس له أن يخاف، لأنّ الخوف من المعور، وليس له أن يتسلّط، إذ هو معور.
« واعلموا أنّ زين الملوك، في استقامة الحال: أن لا تختلف منه ساعات العمل والمباشرة، وساعات الفراغ والدعة، وساعات الركوب والنزهة، فإنّ اختلافها منه خفّة، وليس للملك أن يخفّ.
« اعلموا أنّكم لن تقدروا على ختم أفواه الناس من الطعن والإزراء عليكم، ولا قدرة بكم على أن تجعلوا القبيح حسنا.
« واعلموا أنّ لباس الملك ومطعمه مقارب للباس السوقة ومطعمهم، وبالحريّ أن يكون فرحهما بما نالا من ذلك واحدا.
وليس فضل الملك على السوقة إلّا بقدرته على اقتناء المحامد واستفادة المكارم. فإنّ الملك إذا شاء أحسن، وليس السوقة كذلك.
« واعلموا أنّه يحقّ على الملك منكم أن يكون ألطف ما يكون نظرا، أعظم ما يكون خطرا، وألّا يذهب حسن أثره في الرعيّة خوفه لها، وألّا يستغنى بتدبير اليوم عن تدبير غد، وأن يكون حذره للملاقين أشدّ من حذره للمباعدين، وأن يتّقى بطانة السوء أشدّ من اتّقائه عامّة السوء، ولا يطمعنّ ملك في إصلاح العامّة إذا لم يبدأ بتقويم الخاصّة.
« واعلموا أنّ لكل ملك بطانة، وأنّ لكل رجل من بطانته بطانة، ثم لكلّ امرئ من بطانة البطانة بطانة، حتى يجتمع في ذلك [ جميع ] أهل المملكة! فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب، أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك حتى يجتمع على الصلاح عامّة الرعيّة.
« اعلموا أنّ الملك منكم قد تهون عليه العيوب، لأنّه لا يستقبل بها إن عملها حتى يرى أنّ الناس يتكاتمونها بينهم كمكاتمتهم إيّاه تلك العيوب. وهذا من الأبواب الداعية إلى طاعة الهوى، وطاعة الهوى داعية إلى غلبته، فإذا غلب الهوى اشتدّ علاجه من السوقة المغلوب فضلا عن الملك الغالب.
« اتّقوا بابا واحدا طالما أمنته فضرّنى، وحذرته فنفعني: احذروا إفشاء السرّ عند الصغار من أهليكم وخدمكم، فانّه لا يصغر أحد منهم [ عن ] حمل ذلك السرّ كاملا! لا يقول منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون، إمّا سقطا وإما غشّا، والسقط أكثر ذلك. اجعلوا حديثكم لأهل المراتب، وحباءكم لأهل الجهاد، وبشركم لأهل الدين، وسرّكم عند من يلزمه خير ذلك وشرّه وزينه وشينه. « واعلموا أنّ صحة الظنون مفاتيح اليقين، وأنكم ستستيقنون من بعض رعيّتكم بخير وشرّ، وستظنّون ببعضهم خيرا وشرّا، فمن استيقنتم منه بالخير والشرّ، فليستيقن منكم بهما، ومن ظننتموهما به، فليظنّهما بكم في أمره، فعند ذلك يبدو من المحسن إحسانه، فيخالف الظنّ فيغتبط، ومن المسيء إساءته، فيصدق الظنّ به فيندم.