يزدجرد بن بهرام جور
فكان يسير بسيرة أبيه ولم يزل قامعا لعدوّه رؤوفا برعيّته وجنوده. وكان له ابنان: أحدهما يسمّى هرمز، والآخر فيروز. فغلب هرمز على الملك بعد أبيه يزدجرد، وهرب فيروز منه ولحق ببلاد الهياطلة، وأخبر ملكها بقصّته وقصّة أخيه هرمز، وأنّه أولى بالملك منه، وسأله أن يمدّه بجيش يقاتل بهم أخاه. فأبى عليه ملك الهياطلة وقال:
« سأعلم علمه، ثم أمدّك إن كنت صادقا. » فلما عرف ملك الهياطلة أنّ هرمز ملك ظلوم غشوم، قال:
« إن الجور لا يرضاه الله، ولا يصلح عليه الملك، ولا تقوم به سياسة، ولا يحترف الناس في ملك الملك الجائر إلّا بالجور، وفي هذا هلاك الناس وخراب الأرض. » فأمدّ فيروز، ودفع إليه الطالقان. فأقبل فيروز من عنده بجيش طخارستان وطوائف خراسان، وسار إلى أخيه هرمز بن يزدجرد وهو بالريّ، وكانت أمّهما واحدة، وكانت بالمدائن تدبّر ما يليها من الملك، فظفر فيروز بأخيه، فحبسه وأظهر العدل وحسن السيرة، وكان يتديّن، إلّا أنّه كان محارفا مشؤوما على رعيته، وقحط الناس في زمانه سبع سنين، فأحسن فيها إلى الناس، وقسم ما في بيوت الأموال وكفّ عن الجباية، وساسهم أحسن سياسة.
ويقال: إنّ الأنهار غارت في مدّة هذه السبع السنين، وكذلك القنيّ والعيون، وقحلت الأشجار والغياض، وتماوتت الوحوش والطيور، وجاعت الأنعام والدوابّ، حتى كانت لا تطيق أن تحمل حمولة، وعمّ أهل البلاد الجهد والمجاعة.
حسن سياسة من فيروز
فبلغ من حسن سياسة فيروز لذلك الأمر أن كتب إلى جميع أهل رعيّته: أنّه لا خراج عليكم ولا جزية ولا سخرة، وأنّه قد ملّكهم أنفسهم وأمرهم بالسعي فيما يقوتهم ويصلحهم. ثم كتب إليهم في إخراج الهوى والطعام والمطامير لكلّ من كان يملك شيئا من ذلك مما يقوت الناس، والتآسى فيه، وترك الاستيثار به، وأن يكون حال أهل الفقر والغنى وأهل الشرف والضعة في التآسى واحدة، وأخبرهم أنّه إن بلغه أن إنسيّا مات جوعا، عاقب أهل تلك المدينة أو القرية أو الموضع الذي يموت فيه ذلك الإنسى، ونكّل بهم أشدّ النكال.
ويقال: إنّه لم يهلك في تلك اللزبة والمجاعة أحد من رعيّته إلّا رجل من رستاق كورة أردشير خرّة.
ثم إنّ فيروز لما حييت بلاده، وأغاثه الله بالمطر، وعادت المياه، وصلحت الأشجار، واستوسق له الملك، أثخن في الأعداء وقهرهم، وبنى مدنا:
إحداها بالريّ، والأخرى بين جرجان وصول، والأخرى بناحية آذربيجان.
ثم سار بجنوده نحو خراسان مريدا حرب أخشنواز ملك الهياطلة، لأشياء كانت في نفسه، ولأنّ هؤلاء القوم كانوا يأتون الذكران ويرتكبون الفواحش، فتأوّل بها وسار إليهم. فلما بلغ أخشنواز خبره اشتدّ منه رعبه وعلم أن لا طاقة له به.
حيلة تمت لملك الهياطلة على فيروز
فكان مما تمّ له على فيروز من الحيلة حتى قهره وقتله وقتل عامّة من كان معه: أنّ رجلا من أصحاب أخشنواز، لما علم أنّ ملكه قد بعل، وأنه قد أشرف على الهلاك هو وأهل بلاده، تنصّح إليه وقال:
« إني رجل كبير السنّ قريب الأجل، وقد فديت الملك وأهل مملكته بنفسي فاقطع يديّ ورجليّ وأظهر في جسمي وجنبي آثار السياط والعقوبات، وألقنى في طريق فيروز، وأحسن إلى ولدي وعيالي بعدي، فإني أكفيك أمر فيروز. » ففعل ذلك أخشنواز بذلك الرجل، وألقاه في طريق فيروز. فلمّا مرّ به أنكر حاله ورأى شيئا فظيعا. فسأله عن أمره، فأخبره: أنّ أخشنواز فعل به ذلك، لأنّه قال له: « لا قوام لك بالملك فيروز وجنوده »، وأشار عليه بالانقياد له والعبودة.
فرقّ له فيروز، ورحمه، وأمر بحمله معه، فأعلمه على وجه النصح، أو في ما زعم، أنه يدلّه على طريق قريب مختصر لم يدخل أحد منه قطّ إلى أخشنواز على طريق المفازة، وسأله أن يشتفى له منه. فاغترّ فيروز بذلك منه وأخذ الأقطع بالقوم في الطريق الذي ذكره له، فلم يزل يقطع بهم مفازة بعد مفازة.
فلما شكوا عطشا أعلمهم أنّهم قد قربوا من الماء ومن قطع المفازة، حتى بلغ بهم موضعا علم أنهم لا يقدرون فيه على تقدّم ولا تأخر، بيّن لهم أمره.
فقال أصحاب فيروز لفيروز:
« قد كنّا حذّرناك، أيّها الملك، فلم تحذر، فأمّا الآن فلا بدّ من المضيّ قدما، فإنّه لا سبيل إلى الرجوع، فلعلّك توافى القوم على الحالات كلّها. » فمضوا لوجوههم وقتل العطش أكثرهم، وصار فيروز بمن نجا معه إلى عدوّهم. فلمّا أشرفوا عليهم - وهم بأسوأ حال من الضرّ والضعف - دعوا أخشنواز إلى الصلح، على أن يخلّى سبيلهم حتى ينصرفوا إلى بلادهم، على أن يجعل له فيروز عهد الله وميثاقه ألّا يغزوهم ولا يروم أرضهم ولا يبعث إليه جندا يقاتلونهم، ويجعل بين المملكتين حدّا لا يجوزه. فرضي أخشنواز بذلك، وكتب له كتابا مختوما وأشهد له على نفسه شهودا، ثم خلّى سبيله وانصرف. فلما صار إلى مملكته حمله الأنف على معاودة أخشنواز.
عاقبة غدره
فكان من عاقبة غدره: أنّه غزاه بعد أن نهاه وزراؤه وخاصّته عن ذلك، لما فيه من نقض العهد، فلم يقبل منهم وأبي إلّا ركوب رأيه. وكان في من نهاه عن ذلك رجل يخصّه ويجتبى رأيه يقال له: مربوذ. فلمّا رأي لجاجته، كتب ما دار بينهما في صحيفة، وسأله الختم عليها. ومضى فيروز لوجهه نحو بلاد أخشنواز.
فلمّا بلغ فيروز منارة كان بناها بهرام جور في ما بين تخوم بلاد خراسان وبلاد الترك - لئلّا يجوزها الترك إلى خراسان، لميثاق كان بين الترك والفرس على ترك الفريقين التعدّى لها، وكان فيروز عاهد أخشنواز أن لا يجاوزها إلى بلاد الهياطلة - أمر فيروز فصمد فيها خمسون فيلا وثلاثمائة رجل، فجرّت أمامه جرّا واتّبعها، وزعم أنّه يريد بذلك الوفاء، وترك مجاوزة ما عاهد عليه.
فلمّا بلغ أخشنواز ذلك من فعل فيروز، أرسل إليه يقول له:
« إنّ الله عز وجل لا يخادع ولا يماكر، فانته عمّا انتهى عنه أسلافك، ولا تقدم على ما لم يقدموا عليه ».
فلم يحفل فيروز لقوله، ولم يكترث برسالته، وجعل يستطعم محاربة أخشنواز ويدعوه إليها، وجعل أخشنواز يمتنع من محاربته ويتكرّهها، لأنّ جلّ محاربة الترك إنّما هو بالخداع والمكر والمكائد.
ثم إنّ أخشنواز أمر فحفر خلف عسكره خندق عرضه عشرة أذرع وعمقه عشرون ذراعا، وغمّى بخشب ضعاف، وألقى عليه التراب، ثم ارتحل في جنده ومضى غير بعيد. فبلغ فيروز رحلة أخشنواز بجنده من معسكره، فلم يشكّ أنّ ذلك هزيمة منهم وأنّه قد انكشف وهرب. فأمر بضرب الطبول، وركب في جنده في طلب أخشنواز وأصحابه وأغذّوا السير. وكان مسلكهم على ذلك الخندق. فلمّا بلغوه اقتحموه على عماية، فتردّى فيها فيروز وعامّة جنده، وهلكوا من آخرهم. وعطف أخشنواز إلى عسكر فيروز واحتوى على كلّ شيء فيه، وأسر موبذان موبذ، وصارت فيروز دخت بنت فيروز في من صار في يده من نساء فيروز.
ثم قام بالملك بعد فيروز بن يزدجرد، ابنه:
بلاش بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور
وكان حسن السيرة، حريصا على العمارة. وبلغ من حسن نظره أنّه كان لا يبلغه أنّ بيتا خرب وجلا أهله عنه، إلّا عاقب صاحب القرية التي فيها ذلك البيت، على تركه إنعاشهم وسدّ فاقتهم، حتى لا يضطروا إلى الجلاء عن أوطانهم.
ثم ملك قباذ بن فيروز أخو بلاش
وكان صار إلى خاقان يستنصره على أخيه بلاش ويذكر أنّه أحقّ بالملك منه.
فبقى هناك أربع سنين، ثم جهّزه خاقان. فلمّا عاد وبلغ نيسابور بلغه موت أخيه بلاش. وكان في وقت اجتيازه تزوّج ابنة رجل من الأساورة متنكّرا، وواقعها، فحملت بأنوشروان. ولما عاد في هذا الوقت الذي ذكرناه، سأل عن الجارية، فأتى بها وبابنه أنوشروان. فتبرّك به وبها. ولما بلغ حدود فارس والأهواز بنى مدينة أرجان، وبنى حلوان، وبنى قباذ خرّة، وعدة مدن أخر.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
من آرائه الجيدة
فكان من آرائه الجيّدة وعزائمه النافذة، قبضه على خاله « سوخرا ». وكان سبب ذلك أنّ فيروز لما جرى عليه ما جرى من الهياطلة كان سوخرا يخلفه على مدينة الملك بالمدائن. فجمع جموعا كثيرة من الفرس، وقصد أخشنواز ملك الهياطلة وحاربه وانتقم منه وتحكّم عليه. وكان وقع في يده دفاتر الديوان الذي صحب فيروز. فتقاضى بجميع ما كان في خزائنه وخزائن قوّاده وأهله، وطلب الوجوه من الأسارى الذين بقوا في يد أخشنواز. ولم يزل يحارب أخشنواز ويكيده ويبلغ منه ما يتحكّم به عليه، حتى استنقذ من يده عامّة الفرس، وأكثر ما احتوى عليه من خزائن فيروز.
فكان له أثر حسن عند الفرس وعند ابني فيروز، أعنى: بلاش وقباذ. فعظّموه ورفعوا منزلته إلى حيث ليس بينه وبين الملك إلّا مرتبة واحدة. فتولّى سياسة الأمر بحنكة وتجربة، واستوى على الأمر، ومال إليه الناس واستخفّوا بقباذ، وتهاونوا به. فلم يحتمل قباذ ذلك، وكتب إلى سابور الرازي - الذي يقال للبيت الذي هو منه مهران، وكان اصبهبذ البلاد - في القدوم عليه في من قبله من الجند، فقدم بهم سابور، فواضعه قتال خاله سوخرا، وأمره فيه بأمره، على لطف وكتمان شديد خفيّ. فغدا سابور على قباذ، فوجد عنده سوخرا جالسا. فمشى نحو قباذ مجاوزا له، وتغفّل سوخرا. فلم يأبه سوخرا لإرب سابور، حتى ألقى وهقا كان معه في عنقه، ثم اجتذبه، فأخرجه، وأوثقه، واستودعه السجن. فحينئذ ضربت الفرس المثل بأن قالوا:
« نقصت ريح سوخرا، وهبّت ريح مهران ».
ثم قتل قباذ سوخرا. فكان هذا رأيا تمّ على سكون، ولم يضطرب فيه أمر.
سوء تدبير قباذ عند ظهور مزدك وزوال ملكه
وكان ممّا أساء فيه التدبير والرأي حتى اجتمعت كلمة موبذان موبذ وجماعة الفرس على حبسه وإزالة ملكه عنه. أنّه اتّبع رجلا يقال له « مزدك »، مع أصحاب له يقال لهم: « العدليّة ».
قالوا: « إنّ الله جعل الأرزاق في الأرض مبسوطة ليقسمها عباده بينهم بالتآسى، ولكن الناس تظالموا. »
وزعموا: أنّهم يأخذون للفقراء من الأغنياء ويردّون من المكثرين على المقلّين، وأنّه من كان عنده فضل في المال والقوت، أو النساء والأمتعة، فليس هو أولى به من غيره.
فافترص السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه حتى قوى أمرهم.
فكانوا يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على ماله ونسائه، فلا يستطيعون الامتناع منهم. وقوّاهم قبول الملك رأيهم، ودخوله معهم. فلم يلبثوا إلّا قليلا حتى صار الرجل لا يعرف أباه، ولا الأب ولده، ولا يملك أحد شيئا ممّا يتّسع به.
وصيّروا قباذ في مكان لا يصل إليه غيرهم فيه. فأجمعت الفرس - حين رأوا فساد الملك - على تمليك أخيه جاماسف بن فيروز.
وقد حكى أيضا: أنّ المزدكيّة هم الذين أجلسوا جاماسف ليكون الملك من قبلهم لا منّة لغيرهم عليهم، إلّا أنّ الحكاية الأولى أشبه بالحقّ.
ذكر حيلة تمت لأخت قباذ حتى أخرجته من الحبس
ثم إنّ أختا لقباذ أتت الحبس الذي كان فيه قباذ. فحاولت الدخول إليه، فمنعها الموكّل الذي كان ثقة عليه، وطمع أن يفضحها بذلك السبب وألقى طمعه فيها.
فأخبرته أنّها غير مخالفة له في شيء مما يهواه منها. فأذن لها حتى دخلت السجن وأقامت عند قباذ يوما. ثم أمرت فلفّ قباذ في بساط، وحمل على عاتق غلام قويّ ضابط كان معه في الحبس. فلمّا مرّ الغلام بوالي الحبس، سأله عمّا يحمله. فأفحم، فاضطرب. فلحقته أخت قباذ فأخبرته أنّه فراش كانت افرشته في عراكها، وأنّها إنّما خرجت لتتطهر وتنصرف. فصدّقها ولم يمس البساط، ولم يدن منه استقذارا له على مذهبهم، وخلّى عن الغلام الحامل لقباذ. فمضى به، وخرجت في أثره، وهرب قباذ، فلحق بأرض الهياطلة، ليستمدّ ملكها فيحارب من يخالفه.
فيقال: إنّه نزل في مسيره ب « أبرشهر » على رجل من عظمائها. فتزوّج ابنة له معصرا، وإنّها أمّ كسرى أنوشروان وإنّ نكاحه لأم أنوشروان في سفره هذا. ثم إنّ قباذ رجع من سفره هذا بابنه أنوشروان. وغلب أخاه جاماسف بعد أن ملك اخوه ستّ سنين. ثم غزا الروم وافتتح آمد وبنى مدنا منها: أرجان وغيرها، وملّك ابنه كسرى أنوشروان وأعطاه خاتمه.
وهلك قباذ وكان ملكه بسنى ملك أخيه ثلاثا وأربعين سنة.
سبب هلاك قباذ
وكان سبب هلاكه سوء رأيه، وفساد عقيدته، وضعف ملكه. وذلك أنّه لمّا التقى الحارث بن عمرو بن حجر الكندي والنعمان بن المنذر بن إمرئ القيس، قتله، وأفلت المنذر بن النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك النعمان. فبعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي أنّه:
« قد كان بيننا وبين الملك الذي كان قبلك عهد وإني أحبّ لقاءك ». وكان قباذ زنديقا يظهر الخير، ويكره سفك الدماء، ويدارى أعداءه في ما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه واستضعفه الناس.
فخرج إليه الحارث بن عمرو في عدد وعدّة، حتى التقيا بقنطرة الفيّوم. فأمر قباذ بطبق من تمر، فنزع نواه، وأمر بطبق آخر، فجعل فيه تمر بنواه. ثم وضعا بين أيديهما، وجعل الذي فيه النوى بين يدي الحارث بن عمرو، والذي لا نوى فيه بين يدي الملك قباذ. فكان الحارث يأكل التمر ويلقى النوى، والملك يأكل التمر ولا يحتاج إلى إلقاء النوى.
فقال الحارث: « ما لك لا تأكل كما آكل؟ » فقال الحارث: « إنّما يأكل النوى إبلنا وغنمنا. » وعلم أنّ قباذ يهزأ به. ثم افترقا على الصلح وعلى أن لا يتجاوز الحارث وأصحابه الفرات.
إلّا أنّ الحارث استضعفه وطمع فيه، فأمر أصحابه أن يعبروا الفرات ويغيروا على قرى السواد. فأتى قباذ الصريخ وهو بالمدائن، فقال:
« هذا من تحت كنف ملكهم ».
ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو: أنّ لصوصا من العرب قد أغاروا على السواد وأنه يحبّ لقاءه.
فلقيه، فقال قباذ كالعاتب:
« لقد صنعت صنيعا ما صنعه أحد قبلك. » فطمع الحارث في لين كلامه فقال:
« ما علمت ولا شعرت، ولا أستطيع ضبط لصوص العرب، وما كلّ العرب تحت طاعتي، وما أتمكّن منهم إلّا بالمال والجنود. » فقال له قباذ: « فما الذي تريد؟ » قال: « أريد أن تطعمني من السواد ما أتّخذ به سلاحا. » فأمر له بما يلي جانب الغرب من أسفل الفرات وهي ستّة طساسيج.
فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبّع وهو باليمن:
« إني قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستّة طساسيج، فأجمع الجنود وأقبل، فانّه ليس دون ملكهم شيء، لأنّ الملك عليهم لا يأكل اللحم، ولا يستحلّ هراقة الدماء، وله دين يمنعه من ضبط الملك، فبادر بعدّتك وجندك. » فجمع تبّع الجنود، وسار حتى نزل الحيرة، وقرب من الفرات، فآذاه البقّ، فأمر الحارث بن عمرو أن يشقّ له نهرا إلى النجف، ففعل وهو نهر الحيرة، فنزل عليه، ووجّه ابن أخيه شمرا ذا الجناح إلى قباذ. فقاتله، فهزمه شمر، حتى لحق بالريّ، ثم أدركه بها فقتله.
ذكر ما تم لتبع وابن أخيه شمر وابنه حسان بعد احتوائهم على مملكة الفرس
ثم إنّ تبّعا أمضى شمرا ذا الجناح إلى خراسان، ووجّه ابنه حسّان إلى السغد وقال:
« أيّكما سبق إلى الصين فهو عليها. » وكان كلّ واحد منهما في جيش عظيم يقال: إنهما كانا ستمائة ألف وأربعين ألفا. وبعث ابن أخيه الآخر واسمه: « يعفر » إلى الروم.
فأمّا يعفر فإنّه سار حتى أتى قسطنطينية. فأعطوه الطاعة والإتاوة. ثم مضى إلى روميّة فحاصرها. ثم أصابهم جوع، ووقع فيهم طاعون فرقّوا. وعلم الروم بذلك، فوثبوا عليهم فلم يفلت منهم أحد.
وأمّا شمر ذو الجناح فانّه سار حتى انتهى إلى سمرقند، فحصرها، فلم يظفر منها بشيء. فلمّا رأى ذلك، أطاف بالحرس حتى أخذ رجلا من أهلها، فاستمال بقلبه، ثم سأله عن المدينة وملكها.
فقال: « أمّا ملكها فأحمق الناس ليس له همّ إلّا الشرب والأكل والجماع، ولكن له بنت هي التي تقضى أمر الناس. » فمنّاه ووعده حتى طابت نفسه. ثم بعث معه هديّة إليها وقال:
« أخبرها أنّى إنّما جئت من أرض العرب للذي بلغني من عقلها، لتنكحنى نفسها، فأصيب منها غلاما يملك العرب والعجم، وأنّى لم أجئ التماس المال، وأنّ معي من المال أربعة آلاف تابوت ذهبا وفضّة هاهنا، وأنا أدفعها إليها وأمضى إلى الصين، فإن كانت لي الأرض، كانت امرأتى، وإن هلكت كان المال لها. » فلمّا انتهت رسالته إليها قالت:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
« قد أجبته، فليبعث بالمال. » فأرسل إليها بأربعة آلاف تابوت، وفي كلّ تابوت رجلان. وكان لسمرقند أربعة أبواب، على كلّ باب منها أربعة آلاف رجل. وجعل شمر العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجلجل. وتقدّم في ذلك إلى رسله الذين وجّه معهم. فلمّا صاروا في المدينة ضرب لهم بالجلجل. فخرجوا، فأخذوا بالأبواب ونهد شمر في الناس فدخل المدينة، وقتل أهلها وحوى ما فيها.
ثم سار إلى الصين. فلقى زحوف الترك فهزمهم، وانتهى إلى الصين.
فوجد حسّان [ بن ] تبّع قد كان سبقه إليها ثلاث سنين. فأقاما بها - في بعض الروايات - حتى ماتا، وكان مقامهما إحدى وعشرين سنة. وفي بعض الروايات - وهو المجمع عليه -: أنّ شمرا وحسّانا انصرفا في الطريق التي كانا أخذا فيه، حتى قدما على تبّع بما حازا من الأموال بالصين وصنوف الجوهر والطيب والسبي، ثم انصرفوا جميعا إلى بلادهم. وذلك أنّه كانت همّة ملوك العرب الغزو والغنيمة ولم يطمعوا في الملك الثابت. وكان أحدهم إذا ملأ يده من الغنائم وأرضى جنده وظفروا بما في نفوسهم، انكفأوا إلى بلادهم.
وكانت وفاة تبع باليمن ولم يخرج أحد من ملوك اليمن بعده غازيا إلى شيء من البلاد. وكان ملكه مائة وإحدى وعشرين سنة.
وأمّا في الرواية الأخرى: فإنّه أقام تبّع وواطأ ابن أخيه شمرا وابنه حسّانا أن يملكا الصين، ويحملا إليه الغنائم، ونصب بينه وبينهم المنار. فكان إذا حدث حدث أوقدوا النار، فأتى الخبر في ليلة. وكان جعل آية ما بينه وبينهم [ أنه ]:
« إن أنا أوقدت نارين من عندي فهو هلاك يعفر، وإن أوقدت ثلاثا فهو هلاك تبّع. وإن كانت من عندهم نار فهو هلاك حسّان، وإن كانت نارين فهو هلاكهما ».
فمكثوا بذلك. ثم إنه أوقد نارين فكان هلاك يعفر، ثم أوقد ثلاثا فكان هلاك تبّع.
وقد ذكر بعض الرواة: أنّ الذي سار إلى المشرق من التبابعة، تبّع الآخر وهو:
تبّع تبان أسعد أبو بكر بن مليكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار وهو أبو حسّان.
وقام بالملك بعد قباذ ابنه كسرى أنوشروان
فاستقبل الأمر بجدّ وسياسة وحزم. وكان جيّد الرأي، كثير النظر، صائب التدبير، طويل الفكر ثم الاستشارة. فجدّد سيرة أردشير، ونظر في عهده، وأخذ نفسه به، وأدّب به رعيته وبطانته، وبحث عن سياسات الأمم، واستصلح لنفسه منها ما رضيه، ونظر في تدابير أسلافه المستحسنة فاقتدى بها.
وكان أوّل ما بدأ به أن أبطل ملّة زرداشت الثاني الذي كان من أهل فسّا، وكان ممّن دعا إليها مزدك بن فامارد، وكان ممّا آمن به الناس - لما زيّنه لهم وحثّهم عليه - التآسى في أموالهم وأهاليهم. وذكر أنّ ذلك من البرّ الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وأنّه لو لم يكن الذي أمرهم به من الدين، لكان مكرمة في الفعال ورضى في التفاوض. فحضّ السفلة بذلك على الأشراف واختلط أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وسهّل سبيل الظلمة إلى الظلم، والعهّار إلى قضاء نهمتهم وإلى الوصول إلى الكرائم. فشمل الناس بلاء عظيم.
فلما أبطل الملك أنوشروان ملّة هذين، وقتل عليه بشرا كثيرا، وسفك من الدماء ما لا يحصى كثرة ممن لا ينتهى، وقتل قوما من المانوية وثبت ملة المجوسية القديمة، كتب في ذلك كتبا بليغة إلى أصحاب الولايات والاصبهبذين، وقوّى الملك بعد ضعفه بإدامة النظر، وهجر الملاذ وترك اللهو إلّا في أوقات، حتى نظّم أموره وقوّى جنوده بالأسلحة والكراع، وعمر البلاد، وحفظ الأموال، وفرّق منها ما لا يسع حفظه من الأرزاق والصلات الموضوعة مواضعها، وسدّ الثغور، وردّ كثيرا من الأطراف التي غلب عليها الأمم بعلل وأسباب شتّى، منها: السّند، والرّخج، وزابلستان، وطخارستان، ودروستان وغيرها. وقتل أمّة يقال لها: البافرز واستبقى منهم من فرّقهم واستعبدهم واستعان بهم في حروبه. وأسرت له أمّة يقال لهم: صول، وقدم بهم عليه، فقتلهم واستبقى ثمانين رجلا من كماتهم، وعمل أعمالا عظيمة منها: بنيانه الحصون والآطام والمعاقل لأهل بلاده، يكون حرزا لهم يلجأون إليها من عدوّ إن دهمهم.
من ثمرة أعماله
فكان من ثمرة هذه الأعمال: أنّ خاقان - واسمه سنحوا - كان في ذلك الوقت أمنع الترك وأشجعهم. وهو الذي قاتل « ورز » ملك الهياطلة، غير هائب كثرة الهياطلة ومنعتهم، وبأسهم. فقتل ورز وعامّة جنده، وغنم أموالهم واحتوى على بلادهم إلّا ما كان كسرى غلب عليه منها. وأقبل في جموعه من أمم استمالهم، وهم: أبجر، وبنجر، وبلنجر. وبلغت عدّة الجميع مائة ألف وعشرة آلاف مقاتل أنجاد.
فأرسل إلى كسرى يتوعّده ويطلب منه أموالا، وأنّه إن لم يجعل بالبعثة إليه ما سأله، وطئ بلاده وناجزه. فلم يحفل كسرى به ولم يجبه إلى ما سأل، لتحصينه نواحيه لا سيما ناحية صول التي أقبل منها خاقان، ولمناعة السبل والفجاج، ولمعرفته بمقدرته على ضبط ثغر أرمينية. فأقدم خاقان على ناحية صول من نواحي جرجان، فرأى من الحصون والرجال الذين أعدّهم كسرى ما لا حيلة له فيه، فانصرف خائبا.
فأما تدبيره للمزدكية ورده المظالم وما دبر في أمر النساء المغلوبات على أنفسهن وتدابيره الأخرى
فإنّه ضرب أعناق رؤسائهم، وقسم أموالهم في أهل الحاجة، وقتل جماعة كثيرة ممن كان دخل على الناس في أموالهم وأهاليهم ممن عرف، وردّ الأموال إلى أربابها، وأمر بكل مولود اختلف فيه، أن يلحق بمن هو في سيما ذلك منهم إذا لم يعرف أبوه، وأن يعطى نصيبا من مال الرجل الذي يسند إليه، إن قبله الرجل، وبكلّ امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ الغالب لها حتى يغرم لها مهرها ويرضى أهلها، ثم تخيّر المرأة بين الاقامة عليه وبين تزويج غيره، إلّا أن يكون لها زوج أوّل فتردّ إليه. وأمر بكل من كان أضرّ برجل في ماله، أو ركب أحدا بمظلمة أن يؤخذ منه الحقّ ثم يعاقب الظالم بعد ذلك بقدر جرمه. أمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيّمهم فكتبوا له، فأنكح بناتهم الأكفاء، وجعل جهازهم من بيت المال، وأنكح بنيهم من بيوتات الأشراف، وأغناهم وأمرهم بملازمة بابه ليستعان بهم في أعماله. وخير نساء والده أن يقمن مع نسائه فيواسين ويصيّرن في الإجراء أمثالهن، أو تبتغى لهن أكفاؤهن من البعولة. وأمر بكرى الأنهار وحفر القنيّ وإسلاف [ أصحاب ] العمارات وتقويتهم. وأمر بإعادة كلّ جسر أو قنطرة خرّبت أن تردّ إلى أحسن ما كانت عليه. وأمر بتسهيل سبل الناس، وبنى في الطرق القصور والحصون، وتخيّر الحكام والعمّال وتقدّم إلى من ولّى منهم أبلغ التقدّم، وتقدّم بكتب سير أردشير ووصاياه، فاقتدى بها وحمل الناس عليها.
فتوح أنوشروان
فلما انتظمت له هذه الأمور واستوسق ملكه ووثق بجنده وقوّته، سار نحو أنطاكية فافتتحها وأمر أن تصوّر له المدينة على ذرعها وطرقها وعدّة منازلها، وأن يبنى على صورتها له مدينة إلى جانب المدائن، فبنيت المدينة المعروفة بالروميّة.
ثم حمل أهل أنطاكية حتى أسكنهم إيّاها. فلمّا دخلوا باب المدينة مضى أهل كلّ بيت منهم إلى ما يشبه منازلهم التي كانوا فيها بأنطاكية. ثم قصد لمدينة هرقل فافتتحها، ثم الاسكندرية، وأذعن له قيصر، وحمل إليه الفدية.
ثم انصرف من الروم وأخذ نحو الخزر، فأدرك فيهم تبله، وما كانوا وتروه به في رعيّته، ثم نحو عدن، فسكر هناك ناحية من البحر بين جبلين بالصخور وعمد الحديد. ثم سار إلى الهياطلة مطالبا لهم بدم فيروز، بعد أن صاهر خاقان واستعان به. فأتاهم، فقتل ملكهم، واستأصل أهل بيته، وتجاوز بلخ وما وراءها، وأنزل جنوده فرغانة. ثم انصرف إلى المدائن، وبعث قوما إلى الحبشة في جند من الديلم. فقتلوا مسروقا الحبشي باليمن. وأقام مظفّرا منصورا يهابه جميع أمرائهم، ويحضر بابه وفود الترك والصين والخزر ونظرائهم. وكان مكرما للعلماء. وقد كان غزا برجان. ثم رجع فبنى الباب والأبواب.
وفي زمانه ولد عبد الله أبو النبي . والنبي أيضا وملك ثماني وأربعين سنة. أمّا عبد الله بن عبد المطلب فانّه ولد لأربع وعشرين سنة من ملكه. وبعث إلى المنذر بن النعمان - وأمّه ماء السماء امرأة من اليمن - فملّكه الحيرة وما كان يليه آل الحارث بن عمرو، وردّ الأمر إلى نصابه.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
تدابير أنوشروان لاستغزار الأموال وتثميرها
ومن أحسن ما دبّره أنوشروان في استغزار الأموال وتثميرها أنّه بعد فراغه من الثغور وملوك الأطراف، وتوظيفه الوظائف على أقاصى الملوك من الترك والخزر والهند وغيرهم، وبيعه مدن الشام ومصر والروم على ملك الروم بأموال عظيمة، وإلزامه جزية يحملها في كلّ سنة على ألّا يغزو بلاده، نظر في الخراج وأبواب المال التي كان يستأديها الملوك قبله من بلاده. فإذا رسوم الناس كانت جارية على الثلث من الارتفاع خراجا، ومن بعض الكور الربع، ومن بعضها الخمس، ومن بعضها السدس، على حسب شربها وعمارتها، ومن جزية الجماجم شيئا معلوما.
وكان الملك قباذ بن فيروز تقدّم - في آخر ملكه - بمسح الأرض سهلها وجبلها، ليصحّ الخراج عليها، فمسحت. غير أنّ قباذ هلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة. فلمّا ملك أنوشروان أمر باستتمامها وإحصاء النخل والزيتون وغير ذلك، والجماجم. ثم أمر الكتّاب فأخرجوا جمل ذلك غير مفصّلة، وأذن للناس إذنا عامّا، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ عليهم الجمل المستخرجة من أصناف الغلّات وعدد النخل والزيتون والجماجم. فقرأ ذلك عليهم.
ثم قال لهم كسرى:
« إنّا رأينا أن نضع على ما أحصى من جربان هذه المساحة ومن النخل والزيتون والجماجم وضائع، ونأمر بإنجامها في السنة في ثلاثة أنجم. ونجمع في بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا عن ثغر من الثغور، أو طرف من الأطراف، فتق أو شيء نكرهه واحتجنا إلى تداركه أو حسمه ببذلنا فيه مالا، كانت الأموال عندنا معدّة موجودة، ولم نرد استيناف اجتبائها على تلك الحال. فما ترون في ما رأينا من ذلك وأجمعنا عليه؟ » فلم يشر عليه أحد منهم بمشورة ولم ينبس بكلمة. فكرر كسرى هذا القول عليهم ثلاث مرات.
فقام رجل من عرضهم وقال لكسرى:
« أتضع أيّها الملك - عمّرك الله خالدا - من هذا الخراج على الفاني من كرم يموت، وزرع يهيج، ونهر يغيض، وعين أو قناة ينقطع ماؤها؟ » فقال له كسرى: « يا ذا الكفلة المشؤوم! من أيّ طبقات الناس أنت؟ » قال: « أنا رجل من الكتّاب. » فقال كسرى: « اضربوه بالدويّ حتى يموت. » فضربوه بها الكتّاب خاصّة تبرّيا منه إلى كسرى من رأيه وما جاء منه حتى قتلوه.
وقال الناس:
« نحن راضون أيّها الملك بما أنت ملزمنا من خراج. » وإنّ كسرى اختار رجالا من أهل الرأي والنصيحة. فأمرهم بالنظر في أصناف ما ارتفع إليه من المساحة وعدد النخل والزيتون ورؤوس الجزية، ووضع الوضائع على ذلك بقدر ما يرون أنّ فيه صلاح الرعية ورفاغة معايشهم، ورفع ذلك إليه.
فتكلّم كل امرئ منهم بمبلغ رأيه في ذلك وفي قدر الوضائع، وأداروا الأمر بينهم، فاجتمعت كلمتهم على وضع الخراج على ما يعصم الناس والبهائم وهو: الحنطة، والشعير، والأرز، والكرم، والرطاب، والنخل، والزيتون.
وكان الذي وضعوا على كل جريب أرض من مزارع الحنطة والشعير درهما، وعلى كل جريب كرم ثمانية دراهم، وعلى كلّ جريب أرض رطاب سبعة دراهم، وعلى كلّ أربع نخلات فارسية درهما، وعلى كلّ ست نخلات دقل مثل ذلك، وعلى كلّ ستّة أصول زيتون مثل ذلك. ولم يضعوا إلّا على كلّ نخل في حديقة، أو مجتمع غير شاذّ، وتركوا ما سوى ذلك من الغلّات السبع.
فقوى الناس في معايشهم، وألزموا الناس الجزية ما خلا أهل البيوتات، والعظماء، والمقاتلة، والهرابذة، والكتّاب، ومن كان في خدمة الملك. وصيّروها على طبقات:
اثنى عشر درهما، وثمانية، وستّة، وأربعة، على قدر إكثار الرجل وإقلاله. ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السنين دون العشرين، أو فوق الخمسين.
عمر يقتدي بوضائع كسرى
ورفعوا هذه الوضائع إلى كسرى. فرضيها، وأمر بإمضائها، والاجتباء عليها في ثلاثة أنجم كلّ سنة، وسمّاها « أبراسيار » - وتأويله: الأمر المتراضى به - وهي الوضائع التي اقتدى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بها حين افتتح بلاد الفرس، وأمر باجتباء الناس من أهل الذمّة عليها. إلّا أنّه وضع على كلّ جريب غامر على قدر احتماله مثل الذي وضع على الأرض المزروعة، وزاد على كلّ جريب أرض - مزارع حنطة أو شعير - قفيزا من حنطة إلى القفيزين، ورزق منه الجند. ولم يخالف بالعراق خاصّة وضائع كسرى على جربان الأرض وعلى النخل والزيتون والجماجم، وألغى ما كان كسرى ألغاه في معايش الناس.
ذكر قطعة من سيرة أنوشروان وسياساته كتبتها على ما حكاه أنوشروان نفسه في كتاب عمله في سيرته وما ساس به مملكته
وقرأت فيما كتب أنوشروان من سيرة نفسه قال:
رجل اخترط السيف وأراد الوثوب علينا
« كنت يوما جالسا بالدّسكرة وأنا سائر إلى همذان لنصيف هناك وقد أعدّ طعام للرسل الذين بالباب من قبل خاقان، والهياطلة، والصين، وقيصر، وبغبور، إذ دخل رجل من الأساورة مخترطا سيفه حتى وصل إلى الستر. فقطع الستر في ثلاثة أماكن، وأراد الدخول حيث نحن، والوثوب علينا. فأشار عليّ بعض خدمي أن أخرج إليه بسيفي. فعلمت أنّه إن كان إنّما هو رجل واحد، فسوف يحال بيننا وبينه، وإن كانوا جماعة فانّ سيفي لا يغنى شيئا، فلم أخف ولم أتحرّك من مكاني. فأخذه بعض الحرس، فإذا هو رجل رازي من حشمنا وخاصتنا فلم يشكّوا أنّ من هو على رأيه كثير، فسألونى ألّا أجلس ولا أحضر الشرب في جماعة حتى أستبين الأمر. فلم أجبهم إلى ذلك لئلّا يرى الرسل مني جبنا، فخرجت لشربى، فلمّا فرغنا هدّدت الرازي بقطع اليمين والعقوبات، وسألت أن يصدقني عن الذي حمله على ذلك، وأنّه إن صدقنى لم تنله عقوبة بعد ذلك. فذكر أنّ قوما وضعوا من قبل أنفسهم كتبا وكلاما، وذكروا أنّه من عند الله، أشاروا عليه بذلك وأخبروه أن قتله - إن قتلني - يدخله الجنّة. فلمّا فحصت عن ذلك وجدته حقّا، فأمرت بتخلية الرازي وبردّ ما أخذ منه من المال، وتقدّمت بضرب رقاب أولئك الذين انتحلوا الدين، وأشاروا به عليه حتى لم أدع منهم أحدا. » وقال أنوشروان:
استحلال قتلي
« إني لمّا أحضرت القوم الذين اختلفوا في الدين وجمعتهم للنظر فيما يقولونه، بلغ من جرأتهم وخبثهم وقوّة شياطينهم أن لم يبالوا بالقتل والموت في إظهار [ دينهم ] الخبيث، حتى إني سألت أفضلهم رجلا، على رؤوس الناس، عن استحلاله قتلى فقال:
« نعم! أستحلّ قتلك وقتل من لا يطاوعنا على ديننا. » « فلم آمر بقتله حتى إذا حضر وقت الغذاء، أمرت أن يحتبس للغداء، وأرسلت إليه بظرف من الطعام، وأمرت الرسول أن يبلّغه عني: أنّ بقائى أنفع له ممّا ذكر. فأجاب رسولي:
« أنّ ذلك حقّ، ولكن سألنى الملك أن أصدقه ذات نفسي ولا أكتمه
شيئا مما أدين به، وإنّما أدين بما أخذته من مؤدّبى. » وقال أنوشروان:
تصدقت على مساكين الروم
« لمّا غدر بي قيصر وغزوته فذلّ وطلب الصلح وأنفذ إليّ بمال وأقرّ بالخراج والفدية، تصدّقت على مساكين الروم وضعفاء مزارعيها مما بعث إليّ قصير بعشرة آلاف دينار، وذلك في ما وطئته من أرض الروم دون غيرها. » وقال:
تخفيف الخراج لعمارة الأراضي
« لما هممت بتصفّح أمر الرعية بنفسي، ورفع البلاء والظلم عنهم، وما ينوبهم من ثقل الخراج - فإنّ فيه مع الأجر تزيين المملكة، وغناهم، وقدرة الوالي على ما يجب أن يستخرج منهم، إن هو احتاج إلى ذلك، وقد كان في آبائنا من يرى أنّ وضع الخراج عنهم للسنة والسنتين والتخفيف أحيانا، ممّا يقوّيهم على عمارة أرضيهم - فجمعت العمال ومن يؤدّى الخراج، فرأيت من تخليطهم ما لم أر له حيلة إلّا التعديل والمقاطعة على بلدة بلدة، وكورة كورة، ورستاق رستاق، وقرية قرية، ورجل رجل، واستعملت عليهم أهل الثقة والأمانة في نفسي، وجعلت في كلّ بلد مع كلّ عامل أمناء يحفظون عليه، وولّيت قاضى كلّ كورة النظر في أهل كورته، وأمرت أهل الخراج أن يرفعوا ما يحتاجون إلى رفعه إلينا، إلى القاضي الذي ولّيته أمر كورهم، حتى لا يقدر العامل أن يزيد شيئا، وأن يؤدّوا الخراج بمشهد من القاضي، وأن يعطى به البراءة، وأن يرفع خراج من هلك منهم، ولا يراد الخراج ممن لم يدرك من الأحداث، وأن يرفع القاضي وكاتب الكورة وأمين أهل البلد والعامل، محاسبتهم إلى ديواننا، وفرّقت الكتب بذلك. » وقال:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)