خطأ في الرأي

فكان من خطأ الرأي والعجلة فيه أن بادر رجل من ثقيف الجسر فقطعه.
فانتهى الناس إليه، والسيوف تأخذهم من خلفهم، فتهافتوا في الفرات. فأصابوا يومئذ من المسلمين أربعة آلاف بين غريق أو قتيل، وحمى الناس المثنى وعاصم ومذعور، وقد كان سليط - كما قدمنا الخبر عنه - يناشد أبا عبيد مع وجوه الناس، ويقولون: « إنّ العرب لم تلق مذ كانوا، مثل جنود فارس، وقد حفلوا لنا واستقبلونا من الزهاء والعدّة، بما لم يلقنا به [ أحد ] قبل، وقد نزلت منزلا لنا فيه مجال ومرجع من فرّة إلى كرّة. » فقال: لا أفعل، جبنت يا سليط.
فقال سليط: « أنا والله أجرأ منك، نفسا، وقد أشرنا عليك بالرأي، فستعلم. »
رؤيا رأتها امرأة أبي عبيد

وكانت امرأة أبي عبيد رأت رؤيا وهو في المروحة: أنّ رجلا نزل من السماء بإناء فيه شراب، فشرب أبو عبيد وابنه وجماعة من أهل بيته.
فأخبرت أبا عبيد، فقال: « هذه الشهادة. » وعهد أبو عبيد إلى الناس، فقال: « إن قتلت فعلى الناس فلان، فإن قتل فعليكم فلان. » إلى أن أمّر الذين شربوا من الإناء على الولاء.
ثم قال: « إن قتل أبو القاسم فعليكم المثنى. » ثم نهد بالناس وعبر، وعضّلت الأرض بأهلها، والتحمت الحرب. فلمّا نظرت الخيول إلى الفيلة عليها النخل، والخيل عليها التجافيف، والفرسان عليهم الشّعر، رأت شيئا منكرا لم تر مثله. فجعل المسلمون إذا حملوا لم تقدم خيلهم، وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرّقت بين كراديسهم لا تقوم لها الخيل إلّا على نفار. وخرقهم الفرس بالنشّاب، وعض المسلمين الألم، وترجّل أبو عبيد، وترجّل معه الناس، فصافحوهم بالسيوف، فصارت الفيلة إذا حملت دفعتهم.
فنادى أبو عبيد:
« احتوشوا الفيلة وقطّعوا بطنها، واقلبوا عنها أهلها. » وواثب هو الفيل الأبيض، فتعلّق ببطانه فقطّعه، ووقع الذين عليه. وفعل القوم مثل ذلك: فما تركوا فيلا إلّا حطّوا رحله وقتلوا أصحابه. وأهوى الفيل لأبي عبيد، فنفح مشفره بالسيف، فاتقاه الفيل بيده ووقع، فخبطه الفيل. وأخذ اللواء، الذي كان أمّره بعده. فقاتل الفيل حتى تنحّى عنه، فاجترّه إلى المسلمين، وأحرزوا شلوه. ثم تجرثم الفيل فاتّقاه بيده، دأب أبي عبيد، وخبطه وقام عليه.
وتتابع سبعة من ثقيف كلّهم يأخذ اللواء فيقاتل حتى يموت. ثم أخذ اللواء المثنى وهرب عنه الناس.
فلما رأى عبد الله بن مرثد الثقفيّ ما يصنع الناس، بادرهم الجسر، فقطعه. فلما توافاه الناس تهافتوا في الفرات، فغرق من لم يصبر، وقتل من صبر. وهذا الخبر تصديق لدريد حيث قال: « إنّ المنهزم لا يردّه شيء. » ونادى: « أيّها الناس! أنا دونكم، فاعبروا. » وعقد لهم الجسر وقال: « لا تدهشوا اعبروا على هينتكم، فإنّا لن ندع الموضع ولن نزايل حتى نراكم من ذاك الجانب. » وأتى بعبد الله بن مرثد، وكان يمنع الناس من العبور. فضربه المثنى وقال: « ما حملك على ما فعلت؟ » قال: « ليقاتلوا. » فلمّا ضمّت السفن، وعبر الناس كان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس. وعبر المثنى، وحمى جانبه، واضطرب عسكره، وارفضّ عنه أهل المدينة، حتى لحقوا بالمدينة، وتركها بعضهم فنزلوا البوادي، وبقي المثنى في قلّة.
ورامهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم لاعتراض الفرات، وقطع الجسر.
وهلك يومئذ من المسلمين أربعة آلاف من بين قتيل وغريق، وهرب ألفان، وبقي مع المثنى ثلاثة آلاف، فكأنّ الجميع كانوا تسعة آلاف. وجرح المثنى جراحة شديدة، وأثبت فيه حلق من درعه هتكهنّ الرمح.
ولما بلغ عمر ما صنعه أهل المدينة، وأخبر عمّن سار في البلاد استحياء من الهزيمة اشتدّ عليه، ورحمهم، وقال: « اللهم إنّ كلّ مسلم في حلّ مني، أنا فئة لكل مسلم، يرحم الله أبا عبيد، لو انحاز إليّ لكنت فئة له. » فبينا ذو الحاجب يروم أن يعبر إلى المسلمين أتاه الخبر باضطراب الفرس.
فرجع بعد أن ارفضّ عنه جنده، وأتاه الخبر أنّ الناس في المدائن ثاروا برستم، ونقضوا ما بينهم وبينه، وصاروا فرقتين: الفهلوج على رستم، وأهل فارس على الفيرزان. ثم إنّ جابان ومردانشاه خرجا حتى أخذا بالطريق وهم يرون أنّهم سيرفضّون ولا يشعرون بما جاء ذا الحاجب من فرقة أهل فارس.
وبلغ المثنى فعلة جابان ومردانشاه. فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو، وخرج في جريدة خيل يريدهما وظنّا أنه هارب، فأخذهما أسيرين، وخرج أهل أليس على أصحابهما، فأتوه بهم أسرى، وعقد المثنى لهم بها ذمّة وقدّمهما وضرب أعناقهما وأعناق الأسرى، ثم رجع إلى عسكره. وكان جرير بن عبد الله البجلي يسأل قديما في بجيلة أن تلتقط من القبائل، وكان النبي وعده ذلك، فلمّا ولى عمر دعاه بالبيّنة، فأقامها. فكتب له إلى عمّاله في العرب كلّها ممن كان فيه أحد ينسب إلى بجيلة في الجاهلية، وثبت عليه في الإسلام بغير ذلك فأخرجوه إلى جرير. فلما أعطى جرير حاجته في استخراج بجيلة من الناس وجمعهم، أخرجوا إلى المثنى مددا له. وكتب عمر يستنفر الناس من أهل الردّة وغيرهم، فلم يرد عليه أحد إلّا رمى به المثنى.
يوم البويب ويسمى يوم الأعشار

وبعث المثنى بعد الجسر في من يليه من الممدّين، فتوافوا إليه في جمع عظيم.
وبلغ رستم والفيرزان ذلك، وأتتهم العيون به، وبما ينتظرون من الأمداد، فاجتمعا على أن يبعثا بمهران الهمذاني حتى يريا من رأيهما ويجتمع أمرهما. فخرج مهران في الخيول، وأمره بالحيرة. وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بين القادسية وخفّان في الذين أمدّوه من العرب. فاستبطن فرات بادقلى، وأرسل إلى جرير وعصمة، وإلى كلّ قائد أظلّه أنّه:
« جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجّلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب. » وسلك المثنى وسط السواد، وسلك جرير على الجوف ومن كان معه، حتى انتهوا إلى المثنى وهو على البويب، ومهران من وراء الفرات بإزائه، وكان عمر عهد إليهم ألّا يعبروا بحرا ولا جسرا إلّا بعد ظفر. فاجتمعوا بالبويب، واجتمع العسكر على شاطئ البويب الشرقيّ. وكان البويب مغيضا للفرات أيام المدود أزمان فارس يصبّ في الجوف.
وقدم على عمر غزاة بنى كنانة، والأزد، فأمّر على بنى كنانة غالب بن عبد الله، وعلى الأزد عرفجة بن هرثمة، وأمرهم بالعراق. فقدموا على المثنى، وقدم عليه هلال بن علّفة فيما اجتمع إليه من الرياب. فأمره عمر وسرّحه، فقدم على المثنّى، وكذلك فعل بغزاة كلّ قبيلة من جشم وخثعم وبنى حنظلة وبنى ضبّة وغيرهم. فاجتمعوا عند المثنى.
واجتمع رستم والفيرزان معا، واستأذنا بوران - وكذلك كانا يعملان إذا أرادا شيئا استأذنا من حجّابها فكلّماها به - فأخبراها بعدد الجيش وكثرة الذين ينفذون مع مهران، وكانت فارس لا تكثر البعوث.
فقالت بوران: « ما بال فارس لا يخرجون إلى العرب كما كانوا يخرجون قبل اليوم؟ » قالا: « إنّ الهيبة كانت قبل اليوم مع عدوّنا وإنّها اليوم فينا. » فعرفت رأيهم واستصوبته.
ولما نزل مهران في جنده وراء الفرات - والفرات بينهما - قال: « إمّا أن تعبروا إلينا، وإمّا أن نعبر إليكم. » فقال المسلمون: « اعبروا إلينا. » فعبروا، وأقبلوا إلى المسلمين في صفوف ثلاثة مع كلّ صفّ فيل، ورجلهم أمام فيلهم، وجاءوا لهم زجل. فقال المثنى للمسلمين: « إنّ هذا الزجل وجل! » قالوا: « أجل. » قال: « فالزموا الصمت وائتمروا همسا. » فدنوا من المسلمين وجاءوهم من قبل نهر بنى سليم اليوم. فلما دنوا زحفوا، وركب المثنى فرسه الشموس، وكان لا يركبه إلّا إذا قاتل. ودعى الشموس للين عريكته وطهارته. فوقف على الرايات يحضّهم ويذكر أحسن ما فيهم ويقول: « إني أرجو ألّا يؤتى العرب اليوم من قبلكم، والله ما يسرّنى اليوم لنفسي شيء إلّا وهو يسرّنى لعامّتكم. » فيجيبونه بمثل ذلك، وأنصفهم المثنى بالقول والفعل، وخلط الناس في المكروه والمحبوب، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا.
ثم قال: « إني مكبّر ثلاثا، فتهيّأوا، ثم احملوا مع الرابعة. » فلما كبّروا أوّل تكبيرة أعجلهم فارس، فعاجلوهم وخالطوهم مع أوّل تكبيرة.
وركدت الحرب مليّا. فرأى المثنى خللا في بعض صفوفه، فأرسل إليهم: « الأمير يقرأ السلام ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم. » فقالوا: « نعم. » واعتدلوا.
وكانوا يرونه قبل ذلك وهو يمدّ بلحيته لما يرى منهم! فلمّا أعتبوه رأوه يضحك فرحا.