بهرسير وأبيض كسرى

ولما دخل المسلمون بهرسير لاح لهم الأبيض. فقال ضرار بن الخطّاب: « الله أكبر، هذا ما وعد الله ورسوله: أبيض كسرى. » والله لتتابعوا بالتكبير حتى أصبحوا. وخبّرهم ذلك الرجل الذي نادى بالأمان: أنّكم حصرتم القوم حتى أكلوا الكلاب والسنانير.
ولمّا نزل سعد بهرسير - وهي المدينة التي كان فيها منزل كسرى - طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى، فلم يقدر على شيء، وأقام أيّاما يصعّد ويصوّب. فأتاه أعلاج يدلّونه على مخاضة تخاض إلى صلب الوادي، فأبى وأبقى على المسلمين وفجئهم المدّ، فرأوا أمرا هائلا في سنة جود صيفها متتابع.
فجمع سعد الناس وخطبهم وقال بعد حمد الله: « إنّ عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، وقد كفاكموهم أهل الأيام، وعطّلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم. وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدوّ بنيّاتكم قبل أن تحصدكم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم. » فقالوا جميعا: « عزم الله لنا ولك على الرشد. » فندب سعد الناس إلى العبور، فقال: « من يبدأ ويحمى لنا الفراض حتى لا يتلاحقوا ويلحق الناس، فلا يمنعوا من الخروج من الماء؟ ».
فانتدب له عاصم بن عمرو وجماعة من ذوي البأس. ثم انتدب بعدهم ستمائة من أهل النجدات. فاستعمل عليهم عاصما، فسار فيهم حتى وقف على شاطئ دجلة، وقال: « من ينتدب معي لمنع الفراض من عدوّكم لنحميكم حتى تعبروا؟ » فانتدب له ستون، فجعل نصفهم على خيول إناث، ونصفهم على ذكورة. ثم اقتحموا دجلة، واقتحم بقيّة الستمائة على أثرهم. فكان أول من فصل من الستمائة، رجل يعرف بأصمّ التيم وشرحبيل وعدّة من معه.
فلمّا رآهم الفرس وما صنعوا، أعدّوا للخيل التي عبرت مثلها، فاقتحموا دجلة فأعاموها إليهم. فقال عاصم وقد لقوه في السرعان وقد دنا من الفرضة: « الرماح، الرماح أشرعوها، وتوخّوا بها العيون ».
فالتقوا، وتوخّى المسلمون عيونهم. فولّوا بأجمعهم والمسلمون يشمّصون بهم خيلهم ما يملك رجالها منع شيء منها، فلحقوهم في الجدّ فقتلوا عامّتهم، ونجا من نجا منهم عورانا، وتزلزلت بهم الخيل، وتلاحق الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين، وأذن سعد للناس في الاقتحام وأمرهم بالاقتران، فتلاحق عظم الجند، فركبوا من دجلة اللجّة وإنّها لترمى بالزبد وهي مسودّة، وإنّ الناس ليتحدّثون في عومهم، وقد اقترنوا ما يكترثون، كما يتحدّثون في مسيرهم على الأرض. ففجئوا أهل فارس بما لم يكن في حسابهم، فأعجلوهم عن جمهور أموالهم.
وكان يزدجرد قد قدّم عياله وما خفّ من ذخائره معهم حين نزل المسلمون بهر سير إلى حلوان. وبلغ ذلك سعدا. جاءه بالخبر بعض الأعلاج وقال: « ما تنتظر إذا كان بعد ثلاث لم يبق بالمدائن مال لكسرى، ولا لأهله ».
فكان ذلك مما هيّج سعدا وحمله على ما فعل. فكان قرين سعد الذي يسايره في الماء سلمان الفارسيّ، وكان سفيرهم، والمترجم لهم وعنهم.
وحكي: أنّ ذلك الخيل عبر بأجمعه، وقد اسودّت منه دجلة حتى ما يرى الماء، فسلموا بأجمعهم، ما فقدوا رجلا واحدا، ولا أداة. غير أنّ رجلا كانت له علاقة في قدح رثّة، فانقطعت، وذهب القدح في الماء، والتقطه رجل من الماء كان أسفل، تناوله برمحه، وجاء به إلى العسكر يعرّفه، فأخذه صاحبه.
وزال رجل من بارق يومئذ يدعى غرقدة عن ظهر فرس له شقراء، فنظر إليها المسلمون عريا تنفض أعرافها والغريق طاف، فثنّى القعقاع بن عمرو عنان فرسه إليه، فأخذ بيده، وجرّه حتى عبر، وكان البارقيّ من أشدّ الناس، فقال: أعجزت الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع؟ » - وكان للقعقاع فيهم خؤولة.
وما زالت حماة فارس يقاتلون على الفراض حتى أتاهم آت فقال:
« علام تقاتلون، ولم تقتلون أنفسكم؟ فوالله ما في المدائن أحد. »
مبادرة يزدجرد إلى حلوان