وبادر يزدجرد إلى حلوان، وخلّف مهران الرازي والنخيرجان - وكان على بيت المال بالنهروان - وخرجت الفرس بما قدرت عليه من حرّ المتاع وخفيفه وبالنساء والذراريّ، وتركوا في الخزائن من الثياب، والأمتعة والآنية، والفضول، والألطاف، والعطر، ما لا يدرى: ما قيمته. وخلّفوا ما كانوا أعدّوا للحصار من الأطعمة، والأشربة، وأصناف المأكول والحيوان من البقر، والغنم.
دخول المدائن

فدخل المسلمون المدائن، وأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدا ولا يحسّونه، إلّا من كان في القصر الأبيض. فأحيط بهم ودعوهم. وكانوا قد اتعظوا بأهل بهرسير. وذلك أنّ المسلمين لما نزلوا عليهم أجّلوهم ثلاثا، ودعوهم إلى ثلاث خصال: إمّا الإسلام، وإمّا الجزية، وإمّا الحرب. فلما لم يجيبوا في [ اليوم ] الثالث أبادوهم. ولما دعوا أهل القصر الأبيض إلى مثل ذلك اختاروا الجزية. وكان المخاطب لهم سلمان الفارسي.
وملك المسلمون الغنائم، واحتوى سعد على بيوت المال، فوجد فيها ثلاثة آلاف ألف ألف. فنزل سعد القصر الأبيض، واتّخذ الإيوان مصلّى. وقدّم جيشا إلى النهروان، عليهم زهرة، وتراجع إلى المدائن أهلها على الأمان والرضا بالجزية.
ووجدوا بالمدائن قبابا تركية مملوءة سلالا مختمة بالرصاص، قالوا: فما حسبناها إلّا طعاما من حلواء، فإذا هي آنية الذهب والفضّة! وقسمت بعد في الناس.
قال حبيب: لقد رأيت رجلا يطوف ويقول: « من معه بيضاء بصفراء. » ولقد أتينا على كافور كثير. فما حسبناه إلّا ملحا، فجعلنا نعجّن به الدقيق حتى وجدنا مرارته في الخبز! ولما انتهى زهرة في المقدمة إلى النهروان وجدهم قد ازدحموا، فوقع بغل في الماء كلبوا عليه. فقال زهرة: « إني أقسم بالله انّ لهذا البغل لشأنا ما كلب عليه القوم، ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك إلّا لأمر. » وإذا الذي عليه خرزات كسرى ووشائحه، وعليها من الجواهر ما لا تعرف قيمته، وكان يجلس فيها يوم المباهاة.
فترجّل زهرة يومئذ حتى أزاحهم عن البغل، فاحتمله هو وأصحابه، وجاءوا بما عليه إلى صاحب الأقباض، لا يدرون ما عليه حتى فتح هناك.
تاج كسرى وأدراعه

وحكى هبيرة بن الأشعث عن جدّه قال:
كنت ممن خرج في الطلب، فإذا ببغلين فذاد راكباهما عنهما بالنشّاب، ونظرت، وإذا لم يبق معهما غير نشّابين. فألححت بهما، فاجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: « على ما أرى، ارمه وأحميك، أو أرميه واحمنى! » فحمى كلّ واحد منهما صاحبه حتى رميا بهما. ثم إني حملت عليهما، فقتلتهما، وجئت بالبغلين ما أدري ما عليهما، حتى أتيت بهما صاحب الأقباض وإذا هو يكتب ما يأتى به الناس وما يجمع من الخزائن والدور، فقال: « على رسلك حتى ننظر ما معك! » فأطلت الوقوف بعد ما حصلت عنهما، فإذا سفطان على أحد البغلين فيهما تاج كسرى مفسّخا، وكان لا يحمله إلّا أسطوانتان، وفيهما الجوهر، وإذا على الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى منسوجة بالذهب المنظوم بالجوهر.
وخرج القعقاع بن عمرو يومئذ في الطلب، فلحق بفارسيّ يحمى الناس، فاقتتلا، فقتله، وإذا مع المقتول جنيبة عليها عيبتان وغلافان، وفي أحد الغلافين خمسة أسياف، وفي الآخر ستة أسياف، وإذا في إحدى العيبتين أدراع: درع كسرى، ومغافره، وساقاه، وساعده، ودرع هرقل، وفي الآخر درع سياوخش، ودرع خاقان، ودرع داهر، ودرع بهرام شوبين، ودرع النعمان، وكان الفرس استلبوها من أربابها أيام خالفوا كسرى.
وحكى عاصم بن الحارث قال: خرجت في الطلب. فأخذت طريقا مسلوكا، وإذا حمار. فلمّا رآني صاحبه حثّه، فلحق بآخر أمامه، فمالا، وحثّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كسر جسره، فثبتا حتى أتيتهما، ثم تفرّقا ورمانى أحدهما، فألظظت حتى قتلته، وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض.
فنظرنا، فإذا على أحدهما سفطان، في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضّة، على ثفره ولببه الياقوت والزمرّد منظوما على الفضّة، ولجامه كذلك، وفارس من فضّة مكلّل بالجوهر، وإذا في الآخر ناقة من فضّة عليها شليل من ذهب، وبطان من ذهب، ولهما شناق أو زمام من ذهب، وكلّ ذلك منظوم بالجوهر، وإذا عليها رجل من ذهب مكلّل بالياقوت كان كسرى يضعهما إلى أسطوانتى التاج.
وحكى غيره: أنّ رجلا أقبل بحقّ معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال هو والذين معه: « ما رأينا مثل هذا قطّ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه. » ثم سألوه عن نفسه، فأبى أن يخبرهم، وقال: « لا والله، لا أخبركم لتحمدونى، ولا لتقرّظونى، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه. » وقال سعد: « لولا ما سبق به أهل بدر، لقلت: إنكم أفضل منهم وأكرم وأيم الله، لقد تتبّعت من أهل بدر هنات وهنات فيما أحرزوا، وما أحسّها ولا أسمعها من هؤلاء القوم.
وقال جابر بن عبد الله: « والله الذي لا إله إلّا هو، ما اطّلعنا على أحد من أهل القادسية أنّه يريد الدنيا مع الآخرة. ولقد اتّهمنا ثلاثة أنفس فما رأينا كأمانتهم وزهدهم وورعهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معدى كرب، وقيس بن المكشوح. »
عمر وتاج كسرى

ولما قدم على عمر بن الخطّاب بتاج كسرى وبزّته، وزبرجه، ومنطقته، وسلاحه، قال: « إنّ قوما أدّوا هذا لذو أمانة. » فقال عليّ صلوات الله عليه: « إنّك عففت فعفّت الرعيّة. » ولما قسم سعد الفيء أصاب الفارس اثنا عشر ألف درهم، وكلّهم كان فارسا يوم المدائن، وليس فيهم راجل، وكانت الجنائب كثيرة. ولما نزل سعد المدائن بعث إلى العيالات، فأنزلهم الدور وفيها المرافق، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جلولاء، وحلوان، وتكريت، والموصل. ثم تحوّلوا إلى الكوفة.