رواية أخرى في ذلك

وقد حكى في رواية أخرى: أنّ نزار وسنجان كانا متباغضين متحاسدين، وخصّ به نزار فحسده سنجان، فظهر ذلك لنزار، فجعل يوغر صدر يزدجرد ويسعى في قتله، ولم يزل يغرى يزدجرد بسنجان حتى عزم على قتله، وأفشى ما كان عليه عزم من ذلك إلى امرأة من نسائه كان نزار واطأها. فأرسلت إلى نزار تبشّر بإجماع يزدجرد على قتل سنجان، وفشا الحديث وبلغ سنجان.
فجمع جموعا وتوجّه نحو القصر الذي فيه يزدجرد، وبلغ ذلك نزار، فنكص عن سنجان لكثرة جمعه، وأرعب ذلك يزدجرد. فخرج ذاهبا على وجهه راجلا ينجو بنفسه، فمشى نحوا من فرسخين حتى وقع إلى رحى من ماء، فدخل بيت الرحى، فجلس فيه كالّا لغبا، فرآه صاحب الرحى ذا هيئة، وطرّة، وبزّة كريمة. ففرش له وأتاه بطعام. فطعم ومكث عنده يوما وليلة. فسأله صاحب الرحى أن يأمر له بشيء، فبذل له منطقته، وكانت مكلّلة بجوهر. فأبى صاحب الرحى أن يقبلها وقال: « إنما يرضيني من هذه المنطقة أربعة دراهم آكل بها وأشرب ».
فأخبره ألّا ورق معه، فتملّقه صاحب الرحى حتى إذا أغفى، قام إليه بفأس، فضرب بها هامته، فقتله، وأخذ ما كان عليه من ثياب وحليّ، وألقى جيفته في النهر وبقر بطنه، فأدخل فيه من أصول طرفاء كانت نابتة على النهر ليحبس جثته في الموضع الذي ألقاها فيه، فلا ينتقل فيعرف ويطلب وما أخذ من سلبه، وهرب على وجهه.
وبلغ قتل يزدجرد رجلا من الأهواز كان مطرانا على مرو يقال له: إيليا، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال:
« إنّ ملك الفرس قتل وهو ابن شهريار بن كسرى وإنّما شهريار ولد شيرين المؤمنة التي عرفتم حقّها وإحسانها إلى أهل ملّتها وكانت بنت قيصر. ثم لهذا الملك عنصر في النصرانية مع ما نال النصارى في ملك جدّه من الشرف، حتى بنى لهم البيع، وشدّ ملّتهم، فينبغي أن نجزى هذا الملك بقدر طاقتنا من الكرامة، وقد رأيت أن أبنى له ناووسا وأحمل جثّته في كرامة، حتى أجعلها فيه. »
فقال النصارى: « أمرنا لأمرك تبع. » فأمر المطران، فبنى له في جوف بستانه بمرو ناووس، ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثّة يزدجرد، وكفّنها في تابوت، وحمله ومن كان معه من النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس، وواروه فيه، وردموا بابه.
وقيل: بل حمله إلى إصطخر فوضع في الناووس هناك. وذلك في سنة إحدى وثلاثين للهجرة.
وكان ملك يزدجرد عشرين سنة منها أربع سنين في دعة وستّ عشرة سنة في تعب من محاربة العرب إيّاه، ومحنته بهم، وغلظتهم عليه. وكان آخر ملك ملك من آل أردشير بن بابك، وصفا الملك بعده للعرب.
ما جرى في خلافة عثمان مما تستفاد منه تجربة

وقد كنّا ذكرنا ما يجب ذكره من خلافة عثمان - رضي الله عنه - وما تمّ منه على الوجه الذي اقتصصناه.
ثم جرى بعد ذلك مما تستفاد منه تجربة أنّ قوما من المسلمين أنكروا منه أشياء، فكانوا يتذاكرونها بينهم، وذلك بالعراق خاصّة وبالمدينة دون غيرهما. ثم انتشر منهم طائفة في سائر الأعمال ينعون على عثمان أمورا ويشنّعون عليه.
فسيّر عثمان منهم نفرا إلى الشام ليذلّهم بمعاوية، وجرى لهم معه خطب طويل. ثم تكاتبوا بعد ذلك، وجميع ذلك شبيه بالسرّ.
إلى أن شرب الوليد بن عقبة، وهو وال على الكوفة خمرا وشهد عليه به من لم يمكن ردّ شهادته، فاستقدمه عثمان المدينة وجلده الحدّ، وردّ مكانه سعيد بن العاص، فورد سعيد، وأمر بغسل المنبر من مقامه، فكلّمه في ذلك قوم من قريش، فأبى عليهم، وغسل الموضع ودارى الناس، فلم يتمّ له ما أراد، وشغّب عليه الناس.
ثم أجمع رأى الناس على أن يبعثوا إلى عثمان رجلا يكلّمه ويخبره بأحداثه.
فأرسلوا إليه عامر بن عبد القيس التيمي، وكان يعدّ من النسّاك. فأتاه فدخل عليه فقال: « إنّ ناسا من المسلمين اجتمعوا ونظروا في أعمالك، فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما، فاتق الله، وتب إليه، وانزع عنها. » فقال عثمان: « انظروا إلى هذا، فإنّ الناس يزعمون أنه قارئ، ثم يجئ فيكلّمنى في المحقّرات ويزعم أنها عظائم، فوالله ما يدرى أين الله. » قال عامر: « أنا لا أدري أين الله؟ » قال: « نعم، والله لا تدرى أين الله. » قال عامر: « بلى والله، إني لأدرى أنّ الله لك لبالمرصاد. » فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص وأمثالهم، فجمعهم يشاورهم ويخبرهم بما بلغ منه. فلما اجتمعوا عنده قال: « إنّ لكل امرئ وزراء نصحاء، وإنّكم وزرائى ونصحائى وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما رأيتم، وطلبوا إليّ أن أعزل عمّالى وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون. فاجتهدوا لي رأيكم ثم أشيروا عليّ. » فقال عبد الله بن عامر: « رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك، وأن تجمّرهم في المغازي حتى يذلّوا لك، فلا تكون همّة أحدهم إلّا نفسه، وما هو فيه من دبر دابّته وقمل فروته. » ثم أقبل على سعيد بن العاص فقال: « ما رأيك؟ » قال: « يا أمير المؤمنين، إن كنت تريد رأينا فاحسم عنّا الداء، واقطع ما تخاف من الأصل، واعمل برأيي. » قال: « وما هو؟ » قال: « إنّ لكلّ قوم قادة متى تهلك تفرّقوا ولا يجتمع لهم أمر. » فقال عثمان: « إنّ هذا الرأي لولا ما فيه. » ثم أقبل على معاوية، فقال: « ما رأيك؟ » قال: « رأيي يا أمير المؤمنين أن تردّ عمّالك على الكفاية لما قبلهم، وأنا ضامن لما قبلي. » ثم أقبل على عبد الله بن سعد، فقال: « ما رأيك؟ » قال: « يا أمير المؤمنين، الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.
ثم أقبل على عمرو بن العاص، فقال: « ما رأيك؟ » قال: « أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتزل، فإنّك قد ولّيت الناس بني أمية وحملتهم على أرقابهم، فاعتزل، فإن أبيت فامض قدما. » فقال له عثمان: « مالك، قمل فروك مذ عزلتك، أهذا الجدّ منك؟ » فسكت عنه عمرو حتى إذا تفرّق القوم قال عمرو: « لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أعزّ عليّ من ذلك، ولكن قد علمت أنّ الناس قد علموا أنّك جمعتنا لتستشيرنا، وسيبلغهم قول كلّ رجل منّا. فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي لأقود إليك خيرا، وأدفع عنك شرّا. » فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه.
وردّ سعيد بن العاص أميرا على الكوفة.