ماذا جرى في الكوفة

فأمّا أهل الكوفة، فلمّا انتهى إليهم رسول عليّ استشاروا أبا موسى. فقال لهم: « إنما هما أمران: القعود سبيل الآخرة، والخروج سبيل الدنيا. » وجعل يثبّط الناس. إلى أن أنفذ عليّ ابن عباس والأشتر، فلم يغنيا، وكان بعث بهاشم بن عتبة إلى أبي موسى يستنفر الناس. فكتب إليه هاشم: « إني قدمت على رجل مشاقّ ظاهر الغلّ. » فبعث عليّ الحسن وعمارا، وكتب إلى أبي موسى: « أما بعد، فكنت أرى أن بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعل الله لك فيه نصيبا سيمنعك من ردّ أمري. وقد بعثت الحسن بن عليّ، وعمار بن ياسر، وبعثت قرطة بن كعب واليا. فاعتزل عملنا مذموما مدحورا. » فقدم الحسن بن عليّ وعمار بن ياسر. فلطف الحسن وقال: « أيها الناس! أجيبوا أميركم، وسيروا إلى إخوانكم. فإنّه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه. فوالله أن يليه أهل النهى أمثل في العاجلة، وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا، وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم. »
فقام زيد بن صوحان فقال: « يا قوم! سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وانفروا إليه أجمعين. »
فقام القعقاع بن عمرو، فقال: « أيها الناس! إني لكم ناصح وعليكم شفيق، ولأقولنّ لكم قولا هو الحقّ، إنّه لا بدّ لنا من إمارة تنظم الناس، وتردع الظالم، وتعزّ المظلوم، وهذا عليّ ولى ما ولى، وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا، وكونوا من هذا الأمر بمرأى ومسمع. » ثم تكلّم سيحان، وقال مثل قول القعقاع، وتكلّم عديّ بن حاتم في قومه لمّا بلغه كلام الحسن وجواب الناس وقال: « قد بايعنا هذا الرجل، ودعانا إلى أمر جميل، ونحن سائرون. » وتكلّم هند بن عمرو، وحجر بن عديّ، والأشتر، وقالوا مثل ذلك. وقال الحسن: « أيها الناس! إني غاد، فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر، ومن شاء فليخرج في الماء. » فنفر معه تسعة آلاف رجل، وروى أيضا أنهم كانوا اثنى عشر ألفا، وأخرج أبو موسى من القصر، وشدّد عليه الأشتر.
علي يرسل القعقاع إلى أهل البصرة

فلمّا وردوا على عليّ ذا قار، تلقّاهم عليّ، فرحّب بهم، وأثنى عليهم. ثم دعا القعقاع بن عمرو، فأرسله إلى أهل البصرة، وقال: « الق هذين الرجلين، فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الفرقة. » ووصاه بما أراد.
ثم قال له: « كيف أنت صانع في ما جاءك منهم مما ليس عندك وصاة مني؟ »
قال: « نلقاهم بالذي أمرت به. فإذا جاءنا أمر ليس عندنا منك فيه وصاة اجتهدنا الرأي، وكلّمناهم على قدر ما نسمع منهم ونرى أنّه ينبغي. » قال: « أنت لها. » فخرج القعقاع حتى قدم البصرة. فبدأ بعائشة، فسلّم عليها، ثم قال: « أي أمّه! ما أشخصك. وما أقدمك؟ » قالت: « أي بنيّ! الإصلاح بين الناس. » قال: « فابعثي إلى طلحة والزبير، حتى تسمعي كلامي وكلامهما. » فبعثت إليهما، فجاءا. فقال: سألت أم المؤمنين: ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: « الإصلاح بين الناس. » [ فقلت ]: « فما تقولان أنتما: متابعان، أم مخالفان؟ » قالا: « متابعان. » قال: فأخبرانى ما وجه هذا الصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحنّ، وإن أنكرناه لا نصلح. » قالا: « قتلة عثمان. فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن، وإن عمل به كان إحياءا للقرآن. » قال: « قد قتلتم بالبصرة من زعمتم أنهم قتلة عثمان، وأنتم كنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة إلّا رجلا فغضب لهم ستة آلاف، فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم ذلك الواحد الذي أفلت - يعنى حرقوص بن زهير - فمنعه ستة آلاف وهم على رجل. فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوا فأديلوا عليكم، فالذي حذرتم وقوّيتم به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهون، وإن أنتم أحميتم مضر وربيعة من أهل هذه البلاد، فاجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء، كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير. » قال: أقول: « إنّ هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن احتلجوا. فإن أنتم تابعتمونا فعلامة خير، وتباشير رحمة، ودرك بثأر هذا الرجل، وعافية لهذه الأمة. وإن أبيتم إلّا مكاثرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شرّ، وذهاب هذا الثأر، وفناء هذه الأمة. فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم تكونون، ولا تتعرّضوا للبلاء ولا نتعرض له فيصرعكم ويصرعنا. إنّ هذا الأمر الذي أنتم فيه، أمر ليس يقدّر، وليس كالأمور، ولا كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة الرجل. » فقالوا: « إذا أحسنت وأصبت المقالة. فارجع، فإن قدم عليّ وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر. » فرجع إلى عليّ، فأخبره الخبر، فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كرهه من كرهه، ورضيه من رضيه. وأقبلت وفود البصرة نحو عليّ حين نزل بذي قار.
فجاء وفد تميم وبكر قبل رجوع القعقاع لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة وعلى أيّ حال نهضوا [ إليهم ] وليعلمو هم أنّ الذي عليه رأيهم الإصلاح، ولا يخطر قتالهم على بالهم.
فلما لقوا عشائرهم من أهل الكوفة بالذي بعثهم فيه عشائرهم من أهل البصرة، وقالوا لهم مثل مقالتهم، فأدخلوهم إلى عليّ، فأخبروه بخبرهم. فسأل عليّ جرير بن شرس عن طلحة والزبير، وعن نياتهما، فأخبره بدقيق أمرهما وجليله، وحتى تمثّل له [ طلحة ]:
ألا أبلغ بنى بكر رسولا ** فليس إلى بنى كعب رسول
سيرجع ظلمكم منكم عليكم ** طويل الساعدين له فضول
فتمثّل عليّ عندها:
ألم تعلم أبا سمعان أنّا ** نردّ الشيخ مثلك ذا الصداع
ونذهل عقله بالحرب حتى ** يقوم، فيستجيب بغير داع
فدافع عن خزاعة جمع بكر ** وما بك يا سراقة من دفاع
وتحدّث الناس بهذه الأبيات، وتداولوها، لأنّ طلحة كان يديم إنشاد البيتين الأوّلين.
ورجع القعقاع من عند أم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم. فجمع عليّ الناس، ثم قام على الغرائر، فخطب، وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة، وإنعام الله على الأمة بالجماعة، وحضّ الناس على الألفة. ثم قال:
« إنّ قوما حسدوا هذه الأمة التي أفاء الله عليها ما أفاءه على الفضيلة، وأرادوا ردّ الأمور على أدبارها، والله مصيب أمره، وبالغ ما أراد. ألا وإني راحل غدا، فارتحلوا. ولا يرحلنّ أحد أعان على عثمان بشيء، في شيء من أمور الناس، وليغن سفهاؤهم عني أنفسهم. »
ذكر السبب في نقض ما أشرف عليه القوم من الإصلاح

فاجتمع نفر منهم: علباء بن الهيثم، وعديّ بن حاتم، وشريح بن أوفى، والأشتر، وغيرهم من طبقتهم ممن سار إلى عثمان، أو رضى بسير من سار.
وجاءهم ابن السوداء، وخالد بن ملجم، ومعهم المصريّون، فتشاوروا.
ذكر آراء هؤلاء وما تقرر عليه الرأي في ما اجتمعوا عليه ودبوا له من الحيلة في نقض الصلح

فقال القوم: « هذا والله عليّ، وهو أعلم وأبصر بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلّا هم، والقليل من غيرهم. فكيف به إذا شامّ القوم وشامّوه، ورأوا قلّتنا في كثرتهم. أنتم والله ترادون، وما أنتم بأنجى من شيء. » فقال الأشتر: « أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما. وأما عليّ فلم نعرف أمره حتى كان اليوم، ورأي الناس فينا واحد، وإن يصطلحوا مع عليّ فعلى دمائنا. فهلمّوا نتوثب على عليّ فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكوت. »
فقال عبد الله بن السوداء: « بئس الرأي رأيت. أنتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة. وهذا ابن الحنظليّة في خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلا فارق على ظلعك. » وقال علباء بن الهيثم: « انصرفوا بنا ودعوهم، فإن قلّوا كان أقوى لعدوّهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم، ارجعوا فتعلّقوا ببلد من البلدان، وامتنعوا من الناس. » فقال ابن السوداء: « بئس ما رأيت، ودّ - والله - الناس أنكم على جديلة، ولم تكونوا مع قوم برءاء، ولو كان ذلك الذي تقول لتخطّفكم كلّ شيء. » فقال عديّ بن حاتم: « والله ما رضيت، ولا كرهت. ولقد عجبت من تردّد من تردّد عن قتله في خوض الحديث. فأما إذا وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة، فإنّ لنا عناقا من خيول، وسلاحا محمولا. فإن أقدمتم أقدمنا، وإن أمسكتم أمسكنا. » فقال ابن السوداء: « أحسنت. » وقال سالم بن ثعلبة: « من كان أراد بما أتى الدنيا، فإني لم أرد ذلك. والله لئن لقيتهم غدا لا أرجع إلى شيء، ولئن طال بقائى إذا أنا لاقيتهم لا يزد على جزر جزور. وأحلف بالله، إنكم لتفرقون السيف فرق قوم لا تصير أمورهم إلّا إلى السيف. » فقال ابن السوداء: « قد قال قولا. »