ذكر احتجاج الخوارج مع علي

أتى عليّ بن أبي طالب رجلان من الخوارج: زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي، فدخلا عليه، فقالا له: « لا حكم إلّا لله. » فقال عليّ: « لا حكم إلّا لله. » فقال حرقوص: « فتب من خطيئتك، وارجع عن قضيّتك، واخرج بنا إلى عدوّنا نقاتلهم، حتى نلقى ربنا. » فقال عليّ: « قد أردتكم على ذلك فعصيتموني. وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وشروطا، وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا، وقد قال الله تعالى: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتهم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، إنّ الله يعلم ما تفعلون » فقال له حرقوص: « ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه. » فقال عليّ: « ما هو ذنب، ولكنّه عجز من الرأي، وضعف في العقل، وقد تقدّمت فنهيتكم عنه. » فقال له زرعة: « أما والله، يا عليّ، لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله، لأقاتلنّك. » فقال عليّ: « يوسى لك، ما أشقاك كأنّى بك قتيلا تسفى عليك الريح. » قال: « وددت أن قد كان ذاك. » فخرجا من عنده يحكّمان.
صياح أثناء خطبته

ثم إنّ عليّا خطب ذات يوم. فإنّه لفي خطبته، إذ صاح صائح من جانب المسجد: « يا عليّ، لا حكم إلّا لله. »
فقال عليّ: « الله أكبر، كلمة حقّ يراد بها باطل. إن سكتوا غممناهم، وإن تكلّموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم. » فوثب يزيد بن عاصم المحاربي، فقال: « الحمد لله، اللهمّ إنّا نعوذ بك من إعطاء الدنيّة في ديننا. يا عليّ، أبالقتل تخوّفنا؟ أما والله، إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل، غير مصفّحات، ثم لنعلم أيّنا أولى بها صليّا. » فقال عليّ: « أما إنّ لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا لا نمنعكم: » « لا نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. » « ولا نمنعكم الفيء، ما دامت أيديكم فيه مع أيدينا. » « ولا نقاتلكم حتى تبدأونا. » ثم رجع إلى مكانه الذي كان فيه من خطبته.
وخرج الرجلان يحكّمان، واجتمع معهم قوم. فبعث عليّ عبد الله بن العباس، وقال له: « لا تعجل إلى جوابهم حتى آتيك. »
ذكر ما جرى بينهم من الجدال ورجوعهم مع علي وهذه الدفعة الأولى من خروجهم

فخرج ابن عباس إليهم، فأقبلوا يكلّمونه. فلم يصبر حتى راجعهم، فقال: « ما الذي نقمتم من الحكمين؟ وقد قال الله عز وجل: فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفّق الله بينهما، فكيف بأمّه محمد ؟ » فقالت الخوارج: « أمّا ما جعل حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه والإصلاح له، فهو إليكم كما أمر به، وأمّا ما حكم فأمضاه، فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق بقطع يده، وليس لأمثال هذا أن ينظر فيه مخلوق. » قال ابن عباس: « فإنّ الله يقول: يحكم به ذوا عدل منكم. » فقالوا له: « أو تجعل الحكم في الصيد والحدث يكون بين المرأة وزوجها، كالحكم في دماء المسلمين؟ » وقالت الخوارج: « قلنا له، فهذه الآية بيننا وبينك. أعدل عندك ابن العاص، وهو يقاتلنا، ويسفك دماءنا؟ فإن كان عدلا فلسنا عدلا، وقد حكّمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا. ثم كتبتم بينكم وبينهم كتابا جعلتم نيّتكم الموادعة والاستفاضة، وقد قطع الله تعالى الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب، إلّا من أقرّ بالجزية. »
ثم خرج عليّ حتى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس، فقال: « انته عن كلامهم! ألم أنهك - رحمك الله؟ » ثم تكلّم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « اللهمّ، إنّ هذا مقام، من فلج فيه، كان أولى بالفلج يوم القيامة، ومن نطف فيه، أو وعث، فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا. » ثم قال: « من زعيمكم؟ » قالوا: « ابن الكوّاء. » قال عليّ: « فمن أخرجكم علينا. » قالوا: « حكومتكم يوم صفّين. » قال: « أنشدكم الله، هل تعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف، فقلتم: نجيبكم إلى كتاب الله، قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم، إنّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا. امضوا على حقكم وصدقكم. فلما رفع القوم لكم المصاحف خديعة ودهنا ومكيدة، فرددتم عليّ رأيي وقلتم: لا بل نقبل منهم، فقلت لكم: اذكروا قولي ومعصيتكم إيّاى. فلما أبيتم إلّا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيى القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن. فإن حكما حكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكمه، وإن أبينا، فنحن منه برءاء ».
فقالوا له: « فخبّرنا: أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟ » فقال: « إنّا لسنا الرجال حكّمنا، إنّما حكّمنا القرآن، وهذا القرآن إنّما هو خطّ مسطور بين دفّتين لا ينطق، إنما يتكلّم به الرجال. » قالوا: « فخبّرنا عن الأجل: لم جعلته في ما بينك وبينهم؟ »
قال: « ليعلم الجاهل، ويثبت العالم. ولعلّ الله يصلح في هذه المدة هذه الأمة، ادخلوا مصركم، رحمكم الله. »
فدخل القوم من عند آخرهم.
ابتداء يوم النهر

ثم اجتمعوا بالكوفة، وتذكروا أمرهم، وكاتبوا إخوانهم بالبصرة، وتواعدوا ليوم يخرجون فيه إلى المدائن، ومنها إلى النهر. ففعلوا ذلك، واستعرضوا الناس، وقتلوا عبد الله بن خبّاب بن الأرتّ، وبلغ ذلك عليّا، فسار إليهم. ثم لما اجتمعوا كلّمهم واستعطفهم. فأبوا إلّا قتاله، وجرت بينهم مخاطبات تركت ذكرها.
ثم تنادوا أن: « دعوا مخاطبة عليّ وأصحابه، وبادروا إلى الجنة. » فصاحوا: « الرواح الرواح إلى الجنة! »
علي يعبئ ويرفع راية أمان

فعبّى عليّ أصحابه، ورفع راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبو أيوب فقال: « من جاء هذه الراية منكم، ممن لا يقتل ولا يستعرض، فهو آمن، ومن انصرف منكم إلى الكوفة، أو المدائن، وخرج من هذه الجماعة، فهو آمن. إنه لا حاجة لنا - بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم - في سفك دمائكم. » فقال فروة بن نوفل الأشجعى: « والله ما أدري: على أيّ شيء، أقاتل عليّ بن أبي طالب. » فانصرف في خمسمائة فارس. وخرج إلى عليّ منهم نحو ذلك. وكانوا أربعة آلاف، ورئيسهم عبد الله بن وهب الراسبي.
وكان عليّ قدّم الخيل دون الرجال، وصفّ الناس وراء الخيل صفّين، وصفّ المرامية أمام الصفّ الأول، وقال لأصحابه: « كفّوا عنهم حتى يبدءوكم، فإنّهم لو قد شدّوا عليكم وخلفهم رجال، لم ينتهوا إليكم إلّا لاغبين، وأنتم له قارّون حامّون. » فأقبل الخوارج وهم يتنادون: « الرواح الرواح إلى الجنّة. » وشدّوا، فلم تثبت خيل عليّ لشدّتهم، وافترقت الخيل فرقتين: فرقة نحو الميمنة، وفرقة نحو الميسرة. وأقبلوا نحو الرجال، فاستقبلت المرامية وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فما لبّثوهم أن أناموهم عن آخرهم.
قال حكيم بن سعد: ما هو إلّا أن لقينا أهل النهر، فما لبّثناهم، كأنّما قيل لهم: موتوا! فماتوا.
ولم يقتل من أصحاب عليّ إلّا سبعة، واستخرج ذو الثديّة، على الحكاية المعروفة، وخبره مشهور. وانصرف عليّ إلى معكسره بالنخيلة من ظاهر الكوفة، وأمر الناس أن يسيروا على تعبئتهم إلى الشام.