ذكر حيلة للمهلب بخراسان

كان زياد ولّى الحكم بن عمرو ناحية من خراسان، وكتب إليه: « إنّ أهل ختّل سلاحهم اللّبود، وآنيتهم الذهب. »
فغزاهم، حتى إذا توسّطهم، أخذوا عليه بالشعاب والطرق، وأحدقوا به فعيّ بالأمر، فتولّى المهلّب الحرب، وولى المغيرة بن أبي صفرة أمر العسكر، ولم يزل المهلّب يحتال، حتى أخذ عظيما من عظماء الأعاجم فقال له: « اختر بين أن أقتلك، وبين أن تخرجنا من هذا المضيق. »
فقال له: « أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق، ومر بالأثقال فلتوجّه نحوه، حتى إذا ظنّ القوم أنّكم قد دخلتم الطريق لتسلكوه، فإنّهم سيجتمعون لكم، ويعرون ما سواه من الطرق، إلّا من لا يبالى به، فبادروهم إلى غيره، فإنّهم لا يدركونكم حتى تخرجوا منه. » ففعلوا ذلك، ونجوا، وغنموا غنيمة عظيمة، والقوم كانوا أتراكا.
أسماء كتاب معاوية ومطالبته الهدايا في النوروز والمهرجان

كتب له على الرسائل عبيد الله بن أوس الغسّانى، ثم تولّى له ديوان ما بالعراق من صوافي كسرى وآل كسرى، وكتب له على الخراج سرجون بن منصور الروميّ.
وكان لمعاوية كاتب يقال له: عبد الرحمن بن الدرّاج، كان من مواليه، فقلّده خراج العراق لمّا قلّد المغيرة الحرب بها، وطالب أهل السواد بأن يهدوا إليه في النوروز، والمهرجان. ففعلوا ذلك، فبلغ عشرة آلاف ألف درهم في سنة.
ثم دعا بالدهاقين، فسألهم عمّا كان من صوافي كسرى، فعرّف أنّ الديوان بحلوان، فبعث، فأحضر، ثم استخرج ما كان فيه، فكان أوّل ذلك كلواذى للأساورة، والكتّاب، والحاشية.
وكان كسرى لا يقطع الكتّاب أكثر من ثلاثين جريبا. فكتب ابن الدرّاج إلى معاوية بذلك، فكتب إليه معاوية: أن استصفها، واستخرج ما فيها. ففعل، فبلغت صوافي معاوية على يده خمسين ألف ألف.
وكان عمرو بن سعيد بن العاص يكتب له على ديوان الجند.
معاوية واتخاذ ديوان الخاتم

وكان معاوية أوّل من اتّخذ ديوان الخاتم. وكان سبب ذلك أنّه كتب لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم إلى زياد، وهو عامله على العراق، ففضّ عمرو الكتاب، وجعلها مائتي ألف درهم.
فلما رفع زياد حسابه قال له معاوية: « ما كتبت له إلّا مائة ألف. » وقال معاوية: « المائة الألف ينبغي أن تؤخذ منه. » فحبسه مروان، فصار عبد الله بن الزبير إلى مروان، وهو على المدينة، فأخبره بقصّته، فقال مروان: « فإنّ الخبر كيت وكيت. » فقال عبد الله: « أرأيت - إن أعطيناكها - ألك عليه سبيل؟ » قال: « لا. » قال: « فابعث، فخذها. » ففعل. واتّخذ معاوية ديوان الخاتم، وقلّده عبد الله بن مجمّر، وكان قاضيا.
من سيرة زياد

وكان زياد يجلس في كلّ يوم، إلّا يوما في الجمعة، فيبدأ برسل عمّاله، فينظر في ما قدموا له، ويسألهم عن بلادهم، ويجيبهم عن كتبهم، ثم ينظر في نفقاته، وفي أعطيات رجاله، ثم في ما دخل من البياعات، وفي الأسعار، ويسأل عن الأخبار، وينظر في ما يحتاج إليه من حفر نهر، وإصلاح قنطرة، أو تسهيل عقبة، أو نقل طريق إلى غيره، ثم يأخذ في كتب العمّال، فيمليها بنفسه، فكان معاوية يفعل مثل ذلك سواء، ولا يخالفه حتى كبر. وكان الضحّاك بن قيس يملى وهو يسمع.
وخلا زياد يوما على كاتبه أسرارا له، وبحضرته عبيد الله ابنه. فنعس زياد، فقام لينام، وقال لعبيد الله: « تعهّد هذا، لا يغيّر شيئا ممّا رسمته له. » فعرض لعبيد الله حاجة إلى البول، واشتدّ به ذلك، وكره أن ينبّه أباه، وكره أن يقوم عن الكاتب ويخلّيه، فشدّ إبهاميه بخيط، وختمهما، وقام لحاجته، فاستيقظ زياد قبل عوده. فلمّا نظر إلى الكاتب سأله عن خبره، فأخبره، فأحمد ذلك من فعل عبيد الله.
وأهدى زياد إلى معاوية هدايا كثيرة، وكان فيها عقد جوهر نفيس، فأعجب به معاوية. فلما رأى ذلك زياد، قال له: « يا أمير المؤمنين، دوّخت لك العراق، وجبيت لك برّها وبحرها، وغثّها وسمينها، وحملت لك لبّها وقشرها. » فقال له يزيد: « أين فعلت ذلك؟ لقد نقلناك من ولاء ثقيف إلى عزّ قريش، ومن عبيد إلى أبي سفيان، ومن القلم إلى المنابر، وبعد، فما أمكنك شيء ممّا اعتددت به، إلّا بنا. » فقال معاوية: « حسبك! وريت بك زنادي. »
كل شيء هالك

وقلّد معاوية عبد الرحمن بن زياد خراسان بعد موت أبيه، وكان سخيّا، فلم يزل عليها إلى أن ولى يزيد، وقتل الحسين بن عليّ - عليهما السلام - واستخلف على عمله قيس بن الهيثم، وأقبل إلى يزيد، فأنكر قدومه، ثم رضى عنه، وسأله عمّا حصل له، فاعترف له بعشرين ألف ألف درهم، فسوّغه إيّاها، وكان معه من العروض أكثر منها.
فقال يوما لكاتبه إصطفانوس: « ويحك! كيف يجيئني النوم وهذا المال عندي؟ » فقال له: « وكم مبلغه؟ »، فقال: « قدّرت منه لمائة سنة، في كلّ يوم ألف درهم، لا أحتاج منه إلى شراء رقيق، ولا كراع، ولا عرض من الأعراض. »
فقال له إصطفانوس: « أنام الله عينك أيّها الأمير، لا تعجب من نومك وعندك هذا المال، ولكن اعجب من نومك إن ذهب، ثم نمت. » قال: والله، لقد ذهب ذلك المال كلّه، أودع بعضه فجحد، وأنفق بعضه، وسرق أسبابه بعضه، فآل أمره إلى أن باع فضّة كانت حلية مصحفه، وكان يركب حمارا صغيرا تنال رجله الأرض عليه.
فلقيه مالك بن زياد، فقال له: « ما فعل المال الذي كنت تقول فيه ما تقول؟ » فقال: « كلّ شيء هالك إلّا وجهه، يا با يحيى! »
تحريض معاوية بين سعيد بن العاص ومروان

وكتب معاوية إلى سعيد بن العاص: أن: « اقبض أموال مروان، واهدم داره. » فأمسك سعيد عن ذلك. ثم كاتبه في ذلك ثانيا، فراجعه سعيد، فقال: « يا أمير المؤمنين، قرابته قريبة. » فكتب إليه ثالثا، بقبض أمواله، وهدم داره، فلم يفعل. فعزل سعيدا، وولّى مروان، وكتب إليه أن: « اهدم دار سعيد. » فأرسل الفعلة، وركب ليهدمها، فقال له سعيد: « يا با عبد الملك، أتهدم دارى؟ » قال: « نعم! كتب إليّ أمير المؤمنين، ولو كتب إليك، لفعلت. » قال: « ما كنت لأفعل. » قال: « بلى والله، لو كتب إليك لفعلت. » قال: « كلّا، يا با عبد الملك. » وقال لغلامه: « انطلق، وجئني بكتب معاوية. » فجاء بها، فقرأها عليه في ما كتب في هدم داره.
فقال مروان: « يا با عثمان! وردت عليك هذه الكتب في هدم دارى، فلم تفعل، ولم تعلمني! » قال: « ما كنت لأهدم دارك، ولا أمنّ عليك، وإنّما أراد معاوية أن يحرّض بيننا. » فقال مروان: « بأبي أنت، والله أكثر منّا ريشا وعقبا. » ورجع ولم يهدم دار سعيد.
بين سعيد ومعاوية

وقدم سعيد على معاوية، فقال: « يا با عثمان، كيف تركت أبا عبد الملك؟ » قال: « تركته ضابطا لأعمالك، منفّذا لأمرك. » قال: « إنّه لصاحب الخبزة كفى نضجها، فأكلها. » قال: « كلّا، والله يا أمير المؤمنين، إنّه مع قوم لا يجمل بهم السوط، ولا يحلّ لهم السيف، يتهادون كوقع النبل، سهم لك، وسهم عليك. » قال: « ما الذي باعد بينك وبينه؟ » قال: « خافني على شرفه، وخفته على شرفى. » قال: « فما ذا له عندك؟ » قال: « أسرّه غائبا، وأسوؤه شاهدا. » قال: « تركتني يا با عثمان، في هذه الهنات؟ » قال: « إنّك تحمّلت الثقل، وكفيت الحرم، وكنت قريبا، فلو دعوت لأجبت، ولو وهيت لرقعت. »
كلام واقع ارتفع به صاحبه

ومن الكلام الواقع الذي ارتفع به صاحبه، كلام عبيد الله بن زياد لمعاوية. وذلك أنّه وفد على معاوية، بعد موت أبيه، فقال له معاوية: « من استخلف أخي على عمله؟ » قال عبيد الله: « استخلف خالد بن أسيد على الكوفة، وسمرة بن الجندب على البصرة. » فقال له معاوية: « لو استعملك أبوك، لاستعملتك. » فقال عبيد الله: « أنشدك الله، أن يقولها لي أحد بعدك لو ولّاك أبوك، أو عمّك، ولّيتك. » وكان معاوية لا يولّى أحدا حتى يمتحنه بولاية الطائف، فإن أحسن الولاية، ولّاه مكّة، فإن وفى، ولّاه معها المدينة، ثم يرتّبه كذلك، فلما قال عبيد الله بن زياد ما قال، استرجحه، وعهد إليه، ووصّاه، وولّاه مكان أبيه. فغزا خراسان، وفتح رامين، ونسف، وبيكند، وهي من بخارى. فقدم بألفين من سبى بخارى، وكلّهم جيّد الرمى بالنشّاب.
وكان معاوية ولّى البصرة عبد الله بن عمرو بن غيلان، فاحتال له أهل البصرة، حتى عزله عنهم.