ذكر حيلتهم هذه

خطب عبد الله بن عمرو بن غيلان، على منبر البصرة، فحصبه رجل من بنى ضبّة، فأمر به، فقطعت يده، فأتته بنو ضبّة، فقالوا:
« إنّ صاحبنا جنى ما جنى، وقد بلغ الأمير في عقوبته، ولا نأمن أن يبلغ خبره أمير المؤمنين أنه قطع على فاحشة، ونسألك أن تكتب إلى أمير المؤمنين أنه قطع على تبرئة، وأمر لم يضح. »
فكتب لهم إلى معاوية بما سألوه، فأمسكوا الكتاب عندهم، حتى بلغ رأس السنة. ثم وافوه، فقالوا: « يا أمير المؤمنين، إنّه قطع صاحبنا، وهذا كتابه بإقراره على غير ذنب. » فقرأ الكتاب، وقال: « أمّا القود من عمّالى، فلا سبيل إليه، ولكن، إن شئتم، ودينا صاحبكم. » قالوا:
« فده. » فوداه من بيت المال، وعزل عبد الله، وولّى عبيد الله بن زياد.
ذكر بعض سيرة معاوية وآرائه ودهائه

ما قاله عمر فيه

كان عمر بن الخطّاب كثيرا ما يقول: « تذكرون كسرى وقيصر ودهيهما وسياستهما وعندكم معاوية. »
بين معاوية وعمرو بن العاص

فممّا يحضرنا من ذلك: أنّ عمرو بن العاص، كان وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر، فقال لهم عمرو: « انظروا، إذا دخلتم على ابن هند، فلا تسلّموا عليه بالخلافة، فإنّه أعظم لكم في عينه، وصغّروه ما استطعتم. » فلمّا قدموا عليه، قال معاوية لحاجبه:
« كأنّى بابن النابغة، قد صغّر شأنى عند القوم، فإذا دخل الرجل، أو الوفد، فتعتعوهم أشدّ ما يكون، فلا يبلغنّى رجل منهم، إلّا وقد أهمّته نفسه. » فكان أوّل من دخل عليه رجل من مصر، يقال له: ابن خيّاط، فدخل وقد تعتع، فقال:
« السلام عليك، يا رسول الله! » فتتابع القوم على ذلك، فلمّا خرجوا من عنده، قال لهم عمرو:
« لعنكم الله، نهيتكم أن تسلّموا عليه بالإمارة، فسلّمتم عليه بالنبوّة! » وكان معاوية قد لبس ذلك اليوم أبهى لباسه، واكتحل، وكان من أجمل الناس، إذا فعل ذلك.
بينه وبين عمر بن الخطاب

ومن ذلك أنّ عمر بن الخطّاب، كان خرج إلى الشام، فرأى معاوية في موكب يتلقّاه، ثم راح إليه في موكب.
فقال له عمر: « يا معاوية! تغدو في موكب، وتروح في مثله. ويبلغني أنّك تتصبّح في منزلك، وذوو الحاجات ببابك. » فقال: « يا أمير المؤمنين، العدوّ بها قريب، ولهم عيون وجواسيس فأردت أن يروا للإسلام عزّا. » فقال عمر: « إنّ هذا لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب. » فقال معاوية: « يا أمير المؤمنين مرني بما شئت أصر إليه. » قال: « ويحك! ما ناظرتك في أمر أعتب عليك فيه، إلّا تركتني لا أدري: آمرك، أم أنهاك! »
ما كان بينه وبين المغيرة

ومن ذلك أنّ المغيرة كتب إلى معاوية: « أمّا بعد، فإني كبرت، ودقّ عظمي، وشنفت لي قريش، فإن رأيت أن تعزلني، فاعزلني. »
فكتب إليه معاوية:
« جاءني كتابك تذكر أنّه كبرت سنّك، فلعمري، ما أكل عمرك غيرك، وتذكر أنّ قريشا شنفت لك، ولعمري، ما أصبت خيرا إلّا منهم، وتسألنى أن أعزلك، فقد فعلت، فإن تك صادقا فقد شفعتك، وإن تك مخادعا، فقد خادعتك. »
فلما ورد المغيرة باب معاوية، ذهب كاتبه إلى سعيد بن العاص، وأشار عليه أن يخطب ولاية الكوفة، ودلّه على وجوه من الرغائب. فلما بلغ ذلك المغيرة، شقّ عليه، ودخل على يزيد بن معاوية، وعرّض له بالبيعة، فدخل يزيد على أبيه.
فأعلمه ذلك، فدعا معاوية المغيرة، ورفق به، وردّه إلى الكوفة، وسأله أن يأخذ بيعة يزيد على الناس. وقال عمرو بن العاص: « ما رأيت معاوية متّكئا قطّ، واضعا إحدى رجليه على الأخرى، كاسرا عينه، يقول لرجل: تكلّم، إلّا رحمته. »