ذكر رأي آخر أشير به عليه

فأمّا محمد بن الحنفيّة، فإنه أتاه، فقال: « يا أخي، أنت أعزّ خلق الله عليّ، ولست أدّخرك نصيحتي، تنحّ عن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الشام، فادعهم إلى نفسك فإن بايعوك، حمدت الله عليه، وإن اجتمع على غيرك، لم ينقص الله بذلك دينك، ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك. إني أخاف أن تأتى مصرا من الأمصار، فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك، والأخرى عليك، فيقتتلوا، فتكون لأوّل الأسنّة، فإذا خير هذه الأمّة نفسا، وأبا، وأمّا، أضيعها دما، وأذلّها أهلا. » فقال له الحسين: « فأين أذهب يا أخي؟ » قال: « انزل مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت لك، لحقت بالرمال، وشعف الجبال، وتنقّلت من بلد إلى بلد حتى يفرق لك الرأي، فتستقبل الأمور استقبالا، وتستدبرها استدبارا. » فقال: « يا أخي، قد نصحت وأشفقت. »
ما كتبه إليه أهل الكوفة

ثم إنّ أهل الكوفة، من شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب اجتمعوا، فكاتبوا الحسين بن عليّ: « إنّا قد اعتزلنا الناس، فلسنا نصلّى بصلاتهم، ولا إمام لنا، فلو أقبلت إلينا رجونا أن يجمعنا الله لك على الإيمان. » ثم اجتمع رؤساء الشيعة مثل سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة وأشباههم، وكتبوا إليه:
[ « بسم الله الرحمن الرحيم» ] « لحسين بن عليّ من شيعته المؤمنين. أما بعد، فحيّ هلا، فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم في غيرك، فالعجل، ثم العجل، والسلام. »
ثم اجتمعوا ثالثة، فكتبوا إليه:
« من شبث بن ربعيّ، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رويم، وعمرو بن الحجاج، ومحمد بن عمير. أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، [ وطمّت الجمام، ] فإذا شئت فاقدم على جنود مجنّدة لك، والسلام. »
فاجتمعت الرسل كلّهم عند الحسين، وقرأ الكتب، وسأل الرسل عن أمر الناس، ثم كتب أجوبة كتبهم، وأنفذ مسلم بن عقيل بن أبي طالب إليهم، وقال له:
« اذهب، فاعرف أحوال الناس، وانظر ما كتبوا به، فإن كان صحيحا قد اجتمع عليه رؤساؤهم، وتابعهم من يوثق به، خرجنا إليهم. » فسار مسلم إلى الكوفة، وبها النعمان بن بشير الأنصاري أميرا من قبل يزيد. فلما تحدّث الناس بمقدمه دبّوا إليه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفا. فقام عبد الله بن مسلم الحضرمي إلى النعمان بن بشير، فقال له: « إنك ضعيف، أو متضعّف، قد فسد البلاد، وليس يصلح ما ترى إلّا الغشم. » فقال النعمان: « لأن أكون ضعيفا وأنا في طاعة الله، أحبّ إليّ من أن أكون قويّا، وأنا في معصية الله، وما كنت لأهتك سترا ستره الله. » فكتب بقول النعمان إلى يزيد وقيل له: « إن كانت لك حاجة في الكوفة، فابعث إليها رجلا قويّا ينفّذ أمرك، ويعمل مثل عملك، فإنّ النعمان بن بشير إمّا ضعيف، أو متضعّف. » فدعا يزيد كاتبه سرجون، وكان يستشيره، فأخبره الخبر.
ذكر رأي أشار به الكاتب على يزيد

قال له: « أكنت قابلا من معاوية لو كان حيّا. » قال: « نعم. » قال: « فاقبل مني، فإنّه ليس للكوفة إلّا عبيد الله بن زياد، فولّه. » وكان يزيد ساخطا عليه، وهمّ بعزله عن البصرة. فكتب إليه برضاه عنه، وأنه قد ولّاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل، فيقتله.
فأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة، حتى قدم الكوفة متلثّما، فلا يمرّ على مجلس من مجالسهم فيسلّم، إلّا قالوا: « وعليك السلام يا بن بنت رسول الله. » وهم يظنّون أنه الحسين بن عليّ، حتى نزل القصر، واجما كئيبا لما رأى.
ثم جمع الناس فخطبهم، وأعلمهم نيّة يزيد في الإحسان إلى سامعهم ومطيعهم، والشدّة على مريبهم وعاصيهم، ووعد، وأوعد، وختم الخطبة بأن قال: « ليبق امرؤ على نفسه، الصدق ينبئ عنك لا الوعيد » ثم أخذ العرفاء أخذا شديدا، ودعا الناس، فقال: « اكتبوا لي العرفاء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، وأهل الريب، الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم لنا، فهو بريء، ومن لم يكتب لنا أحدا، فليضمن لنا ما في عرافته: أن لا يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغى علينا فيهم باغ، فمن لم يفعل ذلك، فبرئت منه الذمّة وحلال علينا دمه وماله. وأيّما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا، صلب على باب داره، وألقيت تلك العرافة من العطاء. »
ذكر تلافي عبيد الله ملك يزيد بعد أن أشرف على الذهاب وما كان من حيله ومكايده

ثم إنّ عبيد الله دعا مولى له، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم، وقال له: « اذهب، حتى تسأل عن الرجل الذي يبايع أهل الكوفة، فأعلمه: أنّك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إليه، ليتقوّى به. »
فلم يزل يتلطّف، ويرفق، ويسترشد، حتى دلّ على شيخ من أهل الكوفة يأخذ البيعة، فلقيه، فأخبره.
فقال الشيخ: « لقد سرّنى لقاؤك، وساءني. أما ما سرّنى من ذاك، فما هداك الله له، وأمّا ما ساءني، فإنّ أمرنا لم يستحكم بعد. » قال: فأدخله عليه، وقبض منه المال، وبايعه، ورجع الرجل إلى عبيد الله، فأخبره.
مسلم ينتقل إلى بيت هانئ

وانتقل مسلم، حين وافى عبيد الله، إلى منزل هانئ بن عروة المراديّ، وكتب إلى الحسين يخبره ببيعة بضعة عشر ألفا من أهل الكوفة، ويأمره بالقدوم عليه.
وقال عبيد الله لوجوه أهل الكوفة:
« إني أعلم أنه قد سار معي، وأظهر الطاعة لي من هو عدوّ للحسين، حين ظنّ أنّ الحسين قد دخل البلد، وغلب عليه، وو الله، ما عرفت منكم أحدا. »
وقدم شريك بن الأعور من البصرة، وكان من شيعة عليّ، .
ذكر مكيدة بليغة لشريك ما تمت له

فقال لهانىء: « مر مسلما يكون عندي، فإنّ عبيد الله يعودني. » وقال شريك لمسلم: « أرأيتك، إن أمكنتك من عبيد الله، تضربه بالسيف؟ » قال: « نعم والله. » وأظهر شريك زيادة على ما به من الشكاة، وهو نازل في دار هانئ. وجاء عبيد الله يعود شريكا في منزل هانئ. فقال شريك لمسلم: « إذا تمكّن عبيد الله، فإني مطاوله الحديث، فاخرج إليه بسيفك، واقتله، فليس بينك وبين القصر من تحول دونه، وإن شفاني الله كفيتك البصرة. » فقال هانئ: « إني لأكره قتل رجل في منزلي. » وشجّعه شريك، وقال: « هي فرصة لك، وإيّاك أن تضيّعها، فانتهزها فيه، فإنّه عدوّ الله، وعلامتك أن أقول: اسقونى ماء. » وجاء عبيد الله بن زياد، فدخل، وجلس، وسأل شريكا عن وجعه، وقال: « ما الذي تجد، ومتى اشتكيت؟ » فلما طال سؤاله إيّاه، ورأى أنّ أحدا لا يخرج، خشي أن يفوته، فأخذ يقول: « اسقونى ويحكم [ ماء ]، ما تنتظرون بنفسي لن تحيوها، اسقونيه وإن كانت نفسي فيه. » فقال ذلك مرّتين، أو ثلاثا. فقال عبيد الله: « ما شأنه؟ أو ترونه يهجر؟ » فقال هانئ: « نعم، أصلحك الله، هذا ديدنه منذ الصبح. » ففطن مولى لعبيد الله قائم على رأسه، فغمزه، فقام عبيد الله. فقال شريك: « انتظر، أصلحك الله، فإنى أريد أن أوصّى إليك. » فقال: « أعود. » فلما خرج، قال شريك لمسلم: « ما منعك من قتله؟ » قال: « خصلتان: أما إحداهما، فكراهة هانئ أن يقتل في داره رجل. والأخرى، فحديث سمعته من عليّ عن النبي أنّ الإيمان قيّد الفتك، فلا يفتك مؤمن. » فلبث شريك بن الأعور بعد ذلك ثلاثا ومات.