هانئ يطلب إلى القصر

ودعا عبيد الله هانئ بن عروة، فأبى أن يجيبه إلّا بأمان، فقال: « ما له وللأمان، هل أحدث حدثا؟ » فجاءه بنو عمّه، ورؤساء العشائر، فقالوا: « لا تجعل على نفسك سبيلا، وأنت بريء. » وأتى به، فقال عبيد الله: « إيه يا هانئ، ما هذه الأمور التي تربّص في دورك لأمير المؤمنين، وعامّة المسلمين؟ » قال: « وما ذاك، يا أمير المؤمنين! » قال: « جئت بمسلم بن عقيل، وأدخلته دارك وجمعت السلاح، والرجال في دور حولك، وظننت أنّ ذلك يخفى. » فقال: « ما فعلت، وما مسلم عندي. » قال: « بلى، قد فعلت » قال: « لا، ما فعلت. » قال: « بلى. » فلما كثر ذلك، وأبي هانئ إلّا مجاحدته، دعا عبيد الله ذلك الدسيس الذي دسّه، وحمل على يده المال، وكان قد أنس بهم، وداخلهم، وجعل ينقل كلّ ما يكون منهم، إليه. فلما رءاه هانئ، قال له عبيد الله: « هل تعرف هذا؟ » فعلم هانئ أنه كان عينا عليهم، فسقط في خلده ساعة، ثم إنّ نفسه راجعته، فقال له: « اسمع مني، فإني، والله الذي لا إله إلّا هو أصدقك: ما دعوته، ولكن نزل عليّ، فاستحييت من ردّه، ولزمني ذمامه، فأدخلته، وأضفته، وآويته. فإن شئت، أعطيتك موثقا، وما تطمئن إليه، لا أبغيك سوءا ولا غائلة، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك، وأنطلق إليه، فآمره أن يخرج من دارى إلى حيث شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه وجواره. » فقال: « والله، لا تفارقني أبدا، حتى تأتينى به. » قال: « والله، لا أجيئك به أبدا، أنا أجيئك بضيفي تقتله؟ » قال: « والله، لتأتينّى به. » وقام الناس إليه، يناشدونه في نفسه، ويقولون: « إنّه سلطان، وليس عليك في دفعه إليه عار، ولا نقيصة. » فقال: « بلى والله، عليّ في ذلك، الخزي والعار: أدفع جارى وضيفي إلى قاتله، وأنا صحيح، أسمع، وأرى، شديد الساعد، كثير الأعوان! » فقال عبيد الله بن زياد: « أدنوه مني! » فأدنى منه، وله ضفيرتان قد رجّلهما. فأمر بضفيرتيه، فأمسك بهما، واستعرض وجهه بقضيب في يده، فلم يزل يضرب أنفه، وجبهته، وجبينه، حتى نثر لحم خدّيه، وهشم أنفه. وتلوّى هانئ، وضرب بيده إلى قائم سيف شرطيّ ممّن حضر، فمانعه الرجل، ومنع. فقال عبيد الله: « أحروريّ سائر اليوم؟ حلّ لنا قتلك. » فقام أسماء بن خارجة، فقال: « أرسل غدر نحن منذ اليوم؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل، حتى إذا جئناك به، فعلت به ما ترى، وزعمت أنّك تقتله. » فقال عبيد الله: « إنّك هاهنا. » وأمر، فلهز، وتعتع ساعة، ثم ترك، فجلس، وسكت الناس. وأمر بهانىء، فجعل في بيت، ووكّل به من يحرسه. وبلغ ذلك مذحجا، فأقبلت إلى القصر، فقيل لعبيد الله: « هذه مذحج، قد اجتمعت بالباب. » فقال لشريح القاضي: « ادخل على صاحبهم، فانظر إليه، ثم اخرج، فأعلمهم أنّه حيّ. » فخرج إليهم شريح، فأعلمهم أنه رءاه وهو حيّ سالم، وإنّما عاتبه كما يعاتب الأمير رعيّته. فانصرفوا.
مسلم يقبل نحو القصر بالمبايعين

وبعث مسلم بن عقيل من يأتيه بالخبر. فأتوه بالخبر على وجهه، وأمر أن ينادى بشعاره: « يا منصور أمت. » وكان قد بايعه ثمانية عشر ألف رجل. فاجتمعوا إليه، فعقد لجماعة على الأرباع، وقدّم أمامه صاحب ربع كندة، وأقبل نحو القصر، فتحرّز عبيد الله، وغلّق الأبواب. وسار مسلم حتى أحاط بالقصر، وتداعى الناس، واجتمعوا، حتى امتلأ المسجد والسوق، وما زالوا يتوثّبون حتى المساء.
فضاق بعبيد الله أمره، وكان أكبر همّه أن يتمسّك بباب القصر، وليس معه في القصر إلّا ثلاثون رجلا من الشرط، وعشرون رجلا من أشراف الناس، وأهل بيته، وجعل من في القصر يشرفون فيشتمهم الناس، ويفترون على ابن زياد وأبيه، ويتّقون أن يرموهم بالحجارة. ففتح عبيد الله الباب الذي يلي دار الروميّين ليدخل إليه من يأتيه، ودعا كثير بن شهاب، فأمره أن يخرج في من أطاعه من مذحج، فيخذّل الناس عن مسلم بن عقيل، ويخوّفهم عقوبة السلطان، وغائلة أمرهم، وأمر محمد بن الأشعث بمثل ذلك، في من أطاعه من كندة، أن يرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال لمثل هؤلاء من أهل الشرف مثل ذلك.
فخرجوا، وجاءوا بعدّة، فحبسوا، ورجع إليه الرؤساء من ناحية دار الروميّين، فدخلوا القصر، فقال لهم عبيد الله: « أشرفوا على القصر فمنّوا أهل الطاعة، وخوّفوا أهل المعصية. » فتكلّم القوم، وقالوا: « أيّها الناس! الحقوا بأهاليكم، ولا تعجّلوا الشرّ، ولا تتعرّضوا للقتل، فإنّ أمير المؤمنين، قد بعث جنوده من الشام، وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن تمّمتم على حربكم، ولم تنصرفوا من عشيّتكم، أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية، إلّا أذاقها وبال أمرها. » فأخذ الناس - كما سمعوا هذا وأشباهه من رؤسائهم - يتفرّقون. فكانت المرأة تأتى إلى ابنها، وأخيها، فتقول: « انصرف، فإنّ الناس يكفونك. » ويجيء الرجل إلى ابنه، وأخيه، فيقول: « غدا يأتيك جنود الشام، فما تصنع بالحرب؟ » فينصرف به.
فما زال الناس يتفرّقون، حتى أمسى مسلم بن عقيل، وما معه إلّا ثلاثون رجلا حين صلّيت المغرب، فصلّى بهم مسلم. فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلّا أولئك، خرج متوجّها نحو كندة، فما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة. ثم خرج من الباب، فإذا ليس معه إنسان، والتفت فإذا هو لا يحسّ أحدا يدلّه على الطريق، ولا على منزل، ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوّ. فبقى متلدّدا في أزقّة الكوفة، لا يدرى أين يذهب.
فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة [ يقال لها: طوعة ] كانت أمّ ولد للأشعث، فزوّجها أسيدا الحضرمي، فولدت له بلالا. وكان بلال خرج مع الناس، وأمّه قائمة تنتظر، فسلّم مسلم عليها، فردّت عليه، فقال لها: « يا أمة الله، اسقيني ماء. » فدخلت، فسقته، فجلس، فقالت: « يا عبد الله، اذهب إلى أهلك. » فسكت، ثم عادت، فسكت، فقالت: « سبحان الله! قم إلى أهلك، فما يصلح الجلوس على بابى، ولا أحلّه لك. » فقال: « يا أمة الله، ما لي في هذا المصر منزل، ولا عشيرة، فهل لك في أجر ومعروف، ولعلّى أكافئك به بعد اليوم. » قالت: « وما ذاك؟ » قال: « أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم، وغرّونى. » قالت: « أدخل! » ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها. فقالت: « يا بنيّ، مكرمة وافتك. » وأخذت عليه الإيمان، أن لا يخبر أحدا، فحلف، فأخبرته الخبر، فاضطجع وسكت.
وأخذ ابن زياد لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتا، فقال لأصحابه: « أشرفوا، فانظروا ما بالهم؟ » فأشرفوا، فلم يروا أحدا. قال: « فانظروا، فلعلّهم تحت الظلال قد كمنوا لكم. » فجعلوا يخفضون شعل النار في أيديهم، وينظرون: هل في الظلال أحد؟ فكانت أحيانا تضيء لهم، وأحيانا لا تضيء، كما يريدون. فدلّوا أنصاف الطّنان تشدّ بالحبال، ثم تجعل فيها النيران، ثم تدلّى إلى الأرض. ففعلوا ذلك من أقصى الظلال وأدناها، فلم يروا شيئا. فعلموا أنّ القوم انصرفوا نادمين.
فأعلموا ابن زياد، فأمر بفتح باب السدّة التي في المسجد، ثم خرج فصعد المنبر، وخرج أصحابه، فجلسوا حوله قبل العتمة، ونادى: « برئت الذمّة من رجل من الشرطة، أو العرفاء، أو المناكب والمقاتلة، صلّى العتمة إلّا في المسجد! » فلم تكن إلّا ساعة حتى امتلأ المسجد.
فقال الحصين بن تميم: « إن شئت، صلّى غيرك، ودخلت القصر، فإني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك. » فقال: « مر حرسى أن يقوموا ورائي، وزد فيهم، فإني لست بداخل بعد أن آثرت الخروج. » فصلّى بالناس، ثم قال: « أمّا بعد، فإنّ ابن عقيل، السفيه الجاهل، قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت الذمّة من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله ديته. » ثم توعّد الناس، وحضّهم على الطاعة، وخوّفهم الفرقة والفتنة. نادى حصين بن تميم، فأجابه، وكان على شرطه، فقال: « ثكلتك أمّك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل، ولم تأتنى به. فابعث مراصد على أفواه السكك، وأصبح غدا واستبرأ الدور، وجس خلالها حتى تأتينى بهذا الرجل. » ثم نزل ابن زياد، ودخل القصر، وأصبح ابن تلك العجوز، وهو بلال بن أسيد، فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فأخبره بمكان ابن عقيل عنده، وكان محمد بن الأشعث قد باكر ابن زياد، وهو عنده. فأقبل عبد الرحمن حتى أتى أباه، فدنا منه، وسارّه.
فقال ابن زياد: « ما يقول ابنك؟ » فقال: يقول: إنّ ابن عقيل في دار من دورنا. » فنخس بالقضيب في جنبه، وقال: « قم، وائتني به الساعة. » وبعث إلى خليفته، وهو في المسجد أن: « ابعث مع ابن الأشعث سبعين رجلا من قيس. » وإنّما كره قومه لأنّه علم أنّ قومه يكرهون أن يصاب فيهم مثل ابن عقيل.
ففعل ذلك، وسار محمد بن الأشعث، حتى أطاف بالدار.