فلمّا سمع مسلم وقع الحوافر، بادر إلى سيفه، وخرج إليهم، فاقتحموا عليه، فردّهم، ثم عادوا، فردّهم، حتى ضربه رجل منهم بسيفه، فقطع شفته، وثناياه، وضربه مسلم بأعلى رأسه، كادت تأتى عليه، ولكن سلم. فلما رأى الناس ذلك، أخذوا يرمونه من فوق البيت.
محمد بن الأشعث يعطى الأمان لمسلم

فأقبل عليه محمد بن الأشعث، فقال: « إنك أثخنت، وعجزت عن القتال، فلم تقتل نفسك، أقبل إليّ، ولك الأمان. » فقال: « آمن أنا؟ » قال: « نعم. » وقال القوم: « أنت آمن. » فأمكن من نفسه، فدنوا منه، وحملوه. فقال: « يا محمد بن الأشعث، أراك ستعجز عن أمانى.. » وذلك أنه نزع سيفه من عاتقه، فاستوحش.
«.. فهل لك في خير؟ تستطيع أن تبعث رجلا من عندك على لساني يبلغ حسينا - فإني أراه قد خرج، أو هو خارج غدا - فيقول له: إنّ ابن عقيل بعثني، وهو أسير، لا يرى أنه يمسي وهو يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهل بيتك، ولا يغرّك أهل الكوفة، فإنّهم أصحاب أبيك، الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت، أو القتل، إنّ أهل الكوفة قد كذبوك، وكذبوني، وليس لكذوب رأى. » فقال ابن الأشعث: « والله، لأفعلنّ، ولأعلمنّ الأمير عبيد الله، أنّى آمنتك. »
مسلم في قصر ابن زياد

وذهب به إلى ابن زياد، وأنفذ رجلا على راحلة إلى الحسين بما قال مسلم.
فلما دخل به على ابن زياد، قال: « إني آمنته. » قال: « وما أنت والأمان، كأنما أرسلناك لتؤمنه، إنما أرسلناك لتأتينا به. » فسكت، وانتهى بمسلم إليه. فقال: « إيه يا ابن عقيل، أتيت الناس، وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة، لتشتّت بينهم، وتحمل بعضهم على بعض. » قال: « كلّا! لست لذلك أتيت، لكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالمعروف والعدل، وندعو إلى حكم الكتاب. » وتراجعا الكلام إلى أن قال له ابن زياد: « قتلني الله، إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام. » قال: « أما إنّك أحقّ من أحدث في الإسلام، ما لم يكن فيه، وإنّك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السريرة، ولؤم الغلبة. لا أحد من الناس أحقّ بها منك. » وأخذ ابن زياد يشتمه، ويشتم حسينا وعليّا، وأمسك مسلم لا يكلّمه.
ثم قال: « اصعدوا به فوق القصر، فاضربوا عنقه، ثم أتبعوا جسده رأسه. » فصعد وهو يقول: « اللهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا، وخذلونا. » وأشرف به على موضع الحذّائين اليوم، فضربت عنقه، وأتبع جسده رأسه.
ثم أمر بهانىء بعد قتل مسلم، أن يخرج إلى السوق، فتضرب عنقه. فأخرج إلى حيث تباع فيه الغنم، وهو مكتوف، فجعل يقول: « وا مذحجاه، ولا مذحج لي اليوم. » ولا ينصره أحد، حتى قتل. وأمر بكلّ من عرفه ممّن خرج مع مسلم، فأتى به إلى قومه، فضربت عنقه فيهم، وبعث برؤوس من قتل منهم إلى يزيد وكتب بالقصّة.
ولحق رسول مسلم الذي أشخصه محمد بن الأشعث، الحسين، وهو بزبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر، وبلّغه الرسالة.
فقال له الحسين: « كلّ ما حمّ نازل، وعند الله نحتسب أنفسنا، وفساد أمّتنا. »
الحسين وآراء المشيرين عليه ذكر رأي أشير به على الحسين

لقيه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، فقال له، وقد قدمت عليه كتب العراق: « يا بن عمّ، إني أتيت لحاجة أريد ذكرها لك نصيحة، فإن كنت ترى أنك مستنصحى، قلتها، وأدّيت ما عليّ من الحقّ فيها، وإن ظننت أنك لا تستنصحنى، كففت عمّا أريد أن أقول. »
قال: فقال: « قل، فو الله ما أستغشّك، وما أظنّك بشيء من الهوى لقبيح من القول والفعل. »
قال: قلت: « بلغني أنّك تريد السير إلى العراق، وإني أشفق أن تأتى بلدا فيه عمّاله وأمراءه، ومعهم بيوت الأموال. وإنما الناس عبيد لهذه الدراهم والدنانير، فلا آمن أن يقاتلك من وعدك بنصره، ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه. »
فقال الحسين: « جزاك الله خيرا يا بن عمّ، مهما يقض، يكن، وأنت عندي أحمد مشير، وأنصح ناصح. »
رأى أشار به عبد الله بن عباس على الحسين

وأتاه عبد الله ابن عبّاس، فقال: « يا ابن عمّ، إنّه قد أرجف الناس أنّك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع. » فقال له: « إني قد أجمعت السير إلى العراق في أحد يوميّ هذين إن شاء الله. »
فقال له ابن عبّاس: « فإني أعيذك بالله من ذلك، أخبرني - رحمك الله - أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك، فسر إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم، وأميرهم عليهم، قاهر لهم، وعمّاله يجبون بلادهم، فإنّهم دعوك إلى الحرب، ولا آمن أن يغرّوك، ويكذبوك، ويخذلوك، ويستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك. »
فقال له الحسين: « فإني أستخير الله، وأنظر. »
فجاءه من الغد ابن عبّاس، وقال له: « ابن عمّ، إني أتصبّر، ولا أصبر، وإني أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك. إنّ أهل العراق قوم غدر، فأقم بهذا البلد، فإنّك سيّد أهل الحجاز. فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا، فاكتب إليهم، فلينفوا عدوّهم، ثم اقدم عليهم، فإن أبيت إلّا الخروج، فسر إلى اليمن، فإنّ بها حصونا وشعابا، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت في عزلة عن الناس، فتكتب وتبثّ دعاءك، فإني أرجو أن يأتيك ما تحبّ في عافية. »
فقال له الحسين: « يا ابن عمّ، إني أعلم أنّك ناصح شفيق، ولكني قد أجمعت على المسير. »
فقال له ابن عبّاس: « فإن كنت سائرا، فلا تسر بنسائك، وصبيتك، فو الله إني أخاف أن تقتل كما قتل عثمان، ونساءه وولده ينظرون إليه، وو الله الذي لا إله إلّا هو: لو أعلم أنى إذا أخذت بشعرك وناصيتك، حتى تجتمع عليّ وعليك الناس، أطعتنى وأقمت، لفعلت. »
فلما أبي عليه، قال له: « قد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه معك. »
وخرج من عند الحسين، ومرّ بعبد الله بن الزبير، فقال: « قرّت عينيك يا بن الزبير! » ثم قال:
يا لك من حمّرة بمعمر ** خلا لك الجوّ، فبيضي واصفري
ونقّري ما شئت أن تنقّري
قال: « وما ذاك؟ » قال: « هذا الحسين يخرج إلى العراق، ويخلّيك والحجاز. »
خروج الحسين إلى العراق لقاء بين الحسين والفرزدق

وخرج الحسين في أهل بيته، ونسائه، وصبيته. فلقي الفرزدق الشاعر بالصفاح، فتواقفا، فقال له الحسين: « بيّن لنا نبأ الناس خلفك. »
فقال له الفرزدق: « الخبير سألت. قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والله يفعل ما يشاء. »
فقال له الحسين: « صدقت، الأمر لله، يفعل ما يشاء. » ثم حرّك راحلته، وقال: « السلام عليك. » وافترقا.
ما كان من أمر رسوله قيس بن مسهر

وقد كان وصل إلى الحسين كتاب مسلم بن عقيل، قبل أن يقتل بأيام، يقول فيه: « أما بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله. إنّ جميع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام. » فأقبل الحسين بصبيانه ونسائه لا يلوى على شيء، ولا يسمع قول أحد، حتى بلغ الحاجر من بطن الدومة، وبعث قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب يعرّفهم فيه أنه شخص إليهم، لما عرفه من اجتماع ملأهم على نصره، والطلب بحقّه.
فلما انتهى قيس إلى القادسيّة، وجد خيل ابن زياد منظومة ما بينها وبين الكوفة، فأخذه الحصين بن تميم، فبعث به إلى ابن زياد.
فقال له ابن زياد: « اصعد القصر، فسبّ الكذّاب بن الكذّاب. »
فصعد قيس بن مسهر القصر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
« أيّها الناس، هذا حسين بن عليّ خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم، وفارقته بالحاجر، فأجيبوه! »
ثم لعن زيادا وابنه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب. فأمر به عبيد الله فرمي به من فوق القصر، فمات.