سراقة حلف أنه رأى الملائكة

فأما سراقة بن مرادس البارقيّ، فإنّه حلف واجتهد في اليمين أنه رأى الملائكة معهم تقاتل على خيول بلق، وقال لهم:
« أنتم أسرتمونى؟ ما أسرنى إلّا قوم على دوابّ لهم بلق، عليهم ثياب بيض. » فقال المختار:
« أولئك الملائكة، اصعد المنبر، فأعلم الناس ذلك. » فصعد واجتهد في اليمين وأخبرهم بذلك. ثم نزل فخلا به المختار وقال:
« إني علمت أنك لم تر الملائكة، وإنما أردت ما قد عرفت: ألّا أقتلك، فاذهب عني حيث أحببت، لا تفسد عليّ أصحابي. »
فخلّى عنه، وذهب حتى لحق بمصعب بن الزبير، وقال:
ألا أبلغ أبا إسحاق أنّى ** رأيت الخيل دهما مصمتات
أرى عينيّ ما لم تراءاه ** كلانا عالم بالتّرّهات
وانجلت وقعة السبيع عن سبعمائة وثمانين قتيلا وكانت يوم الأربعاء لستّ ليال بقين من ذي الحجّة سنة ستّ وستّين.
تجرد المختار لقتلى الحسين

وخرج أشراف الناس، فلحقوا بالبصرة، وتجرّد المختار لقتلى الحسين، وقال:
« ما من ديننا ترك قوم قتلوا الحسين أحياء يمشون في الدنيا آمنين. بئس ناصر آل محمد إذا أنا في الدنيا، أنا إذا الكذّاب كما سمّونى. الحمد لله الذي جعلني سيفا ضربهم به، ورمحا طعنهم به، وطالب وترهم، والقائم بحقّهم، سمّوهم، ثم تتبّعوهم، حتى تفنوهم. إنه لا يسوغ لي طعام ولا شراب حتى أطهّر الأرض منهم وأنقّى المصر منهم. » ودلّ عبد الله بن دبّاس، على نفر ممن قتل الحسين. منهم: عبد الله بن أسيد بن النزال الجهنيّ، ومالك بن النّسير البدّيّ وحمل بن مالك المحاربي. فبعث إليهم المختار، فأخذوا وأدخلوا عليه عشاء.
فقال لهم المختار:
« يا أعداء الله وأعداء كتابه وأعداء رسوله وآل رسوله! قتلتم من أمرتم بالصلاة عليه في الصلاة. » فقالوا:
« رحمك الله، بعثنا ونحن كارهون، فامنن علينا، واستبقنا. » قال المختار:
« فهلّا مننتم على الحسين بن بنت نبيكم واستبقيتموه وسقيتموه. » ثم قال المختار للبدّيّ:
« أنت صاحب برنسه؟ » فقال عبد الله بن كامل:
« نعم، هو هو. » فقال المختار:
« اقطعوا يد هذا ورجله، ودعوه يضطرب حتى يموت. » ففعل به ذلك، وأمر بالآخرين فقتلا.
ثم بعث رجالا كانوا معه يقال لهم: الدبّابة، إلى دار في الحمراء فيها عبد الرحمن بن أبي خشكارة، وعبد الرحمن بن قيس الخولاني وغيرهما فجئنا بهم حتى أدخلناهم عليه، فقال لهم:
« يا قتلة الصالحين، يا قتلة سيد شباب أهل الجنّة، ألا ترون الله قد أقاد منكم اليوم؟ لقد جاءكم الورس بيوم نحس. » وكانوا أصابوا من الورس الذي كان مع الحسين، أخرجوهم إلى السوق، فضربوا رقابهم، ففعل ذلك بهم وكانوا أربعة.
وأخذ السائب بن مالك الأشعريّ - وكان في خيل للمختار - ثلاثة نفر ممن شهد قتل الحسين، فانتهى بهم إلى المختار، فأمر بهم فقتلوا في السوق.
وبعث المختار عبد الله بن كامل إلى عثمان بن خالد، وإلى أبي أسماء بسر بن أبي سمط، وكانا ممن شهدا قتل الحسين وفي سلبه، فأحاط عبد الله بن كامل عند العصر بمسجد بنى دهمان، ثم قال:
« عليّ مثل خطايا بنى دهمان منذ خلقوا إلى يوم يبعثون إن لم أوت بعثمان بن خالد، إن [ لم ] أضرب أعناقكم من عند آخركم. » فقلنا له: « أمهلنا حتى نطلبه. » فخرجوا مع الخيل في طلبه، فوجدوهما جالسين في الجبّانة يريدان أن يخرجا إلى الجزيرة، فأتى بهما عبد الله بن كامل، فضرب أعناقهم، ثم رجع فأخبر المختار خبرهما، فأمره بأن يرجع فيحرقهما بالنار، وقال:
« لا يدفنا، بل ليحرقا بالنار. » وبعث أبا عمرة صاحب حرسه حتى أحاطوا بدار خولي بن يزيد الأصبحيّ وهو صاحب رأس الحسين فاختبى في مخرجه فخرجت امرأته إليهم، فقالوا لها:
« أين زوجك؟ » فقالت:
« لا أدري، أين هو.. » وأشارت بيدها إلى المخرج. فدخلوا، فوجدوه وقد وضع على رأسه قوصرة، وأخرجوه.
وكان المختار خرج يسير بالكوفة ومعه ابن كامل، فأخبروه الخبر، وأقبل حتى قتله إلى جانب أهله، ثم دعا بنار فحرّقه.
وكانت امرأته نصبت له العداوة حين جاء برأس الحسين.
وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة أكرم خلق الله على المختار لقرابته بعليّ، فكلّم عمر بن سعد عبد الله بن جعدة، وقال:
« خذ لي من هذا الرجل أمانا. » فكتب له:
« بسم الله الرحمن الرحيم» « هذا أمان من المختار بن أبي عبيد لعمر بن سعد بن أبي وقّاص. إنك آمن بأمان الله على نفسك ومالك وأهلك وأهل بيتك وولدك، لا تؤاخذ بحدث كان منك قديما ما سمعت وأطعت ولزمت رحلك ومصرك وأهلك، ولم تحدث حدثا.
فمن لقي عمر بن سعد من شرطة الله وشيعة آل محمد ومن غيرهم من الناس، فلا يعرض له إلّا بخير. شهد السائب بن مالك، وأحمر بن شميط، وعبد الله بن شدّاد، وعبد الله بن كامل. » وجعل المختار على نفسه عهد الله وميثاقه ليفينّ لعمر بن سعد بما أعطاه من الأمان، إلّا أن يحدث حدثا، وأشهد الله على نفسه وكفى بالله شهيدا. » فكان أبو جعفر محمد بن عليّ الباقر يقول: « أما أمان المختار لعمر بن سعد: إلّا أن يحدث حدثا، فإنّه كان يريد: إذا دخل الخلا وأحدث. » فقال المختار ذات يوم وهو يحدّث جلساءه:
« لأقتلنّ رجلا عظيم القدمين، غائر العينين، مشرف الحاجبين، يسرّ قتله المؤمنين والملائكة المقرّبين. » فكان الهيثم بن الأسود النخعي عند المختار، فسمع هذه المقالة، فوقع في نفسه أنّ الذي يريده عمر بن سعد بن أبي وقّاص. فلما رجع إلى منزله دعا ابنه العريان، فقال:
« الق عمر بن سعد الليلة، فخبّره بكذا وكذا وقل له: خذ حذرك. » قال: فأتاه فاستخلاه، ثم حدّثه الحديث.
فقال له عمر بن سعد:
« جزى الله أباك عن الإخاء خيرا، كيف يريد هذا بي بعد الذي أعطاني من العهود والمواثيق. » ثم خرج من ليلته حتى أتى حمّامه، وأخبر مولى له بما أريد به، فقال له:
« وأيّ حدث أعظم مما صنعت، إنك تركت رحلك وأهلك، إرجع إلى رحلك، لا تجعل للرجل عليك سبيلا. » فرجع إلى منزله، وأتى المختار بخبر انطلاقه، فقال:
« كلّا، إنّ لي في عنقه سلسلة ستردّه. » فلما أصبح المختار بعث أبا عمرة وأمره أن يأتيه به. فجاء حتى دخل عليه، فقال:
« أجب. » فقام عمر، فعثر في جبّة له ويضربه أبو عمرة بسيفه فقتله، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار.
فقال المختار لابنه حفص بن عمر، وهو جالس عنده:
« أتعرف هذا الرأس؟ » فاسترجع، وقال:
« نعم، ولا خير في العيش بعده. » قال له المختار:
« صدقت، فإنّك لا تعيش بعده. ألحقوا حفصا بأبي حفص! » فقتل، فإذا رأسه مع رأس أبيه.
ثم قال المختار:
« هذا بالحسين، وهذا بعليّ بن الحسين ولا سواء. والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامل الحسين. » وبعث المختار برأسيهما إلى محمد بن الحنفيّة، وكتب إليه:
« بسم الله الرحمن الرحيم» « للمهديّ محمد بن عليّ من المختار بن أبي عبيد. سلام عليك أيها المهديّ، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو. أما بعد، فإنّ الله بعثني نقمة على أعدائكم، فهم بين أسير وطريد وقتيل وشريد، فالحمد لله الذي قتل قاتليكم، ونصر مؤازريكم، وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا ممن شرك في دم الحسين وأهل بيته - رضي الله عنهم - كلّ من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي ولست بمنجم عنهم حتى لا يبلغني أنّ على أديم الأرض منهم أرما، فاكتب إليّ أيها المهديّ برأيك أتّبعه وأكن عليه، والسلام عليك أيها المهديّ ورحمة الله وبركاته. » وطلب المختار كلّ من ذكر له من قتلة الحسين وشيعته، وأعدائه، فقتلهم وأحرقهم، ومن هرب ولم يقدر عليه هدم داره.
ثم إنّ المختار بلغه أنّ أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق، فعرف أنه يبدأ به، فخشي أن يأتيه أهل الشام من المغرب، ويأتيه مصعب بن الزبير من قبل البصرة، فأخذ يدارى ابن الزبير ويكايده. وكان عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى.
ذكر مكيدة للمختار على ابن الزبير لم يتم له

كتب المختار إلى ابن الزبير:
« أما بعد، فقد بلغني أنّ عبد الملك بن مروان بعث إليك جيشا، فإن أحببت أن أمدّك بمدد فعلت. » فكتب إليه عبد الله بن الزبير:
« أما بعد، فإن كنت على طاعتي فلست أكره أن تبعث الجيش إلى بلادي وتبايع لي الناس قبلك، فإذا أتتنى بيعتك صدّقتك في مقالتك، وعجّل إليّ بتسريح الجيش، ومرهم أن يسيروا إلى من بوادي القرى من جند ابن مروان، فيقاتلوهم، والسلام. » فدعا المختار شرحبيل بن ورس بن همدان، فسرّحه في ثلاثة آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم من العرب إلّا سبعمائة رجل، فقال: