ذكر ما كان من المختار بعد وقعة السبيع بالكوفة

ثم إنّ المختار بعد أن فرغ من قتال من ذكرناهم في وقعة السبيع، ما ترك إبراهيم بن الأشتر إلّا يومين حتى أشخصه إلى الشام لحرب عبيد الله بن زياد، وأخرج معه وجوه أصحابه ممن شهد الحروب وجرّبها، وخرج المختار يشيّعه ويوصيه ومعه الكرسيّ ويليه قوم كالسدنة. وسنذكر خبر الكرسيّ إن شاء الله.
وكان موضع عسكر إبراهيم بموضع حمّام أعين، فلما أراد أن ينصرف عنه قال لابن الأشتر:
« خذ عنى ثلاثا: خف الله سرّ أمرك وعلانيته، وعجّل السير، وإذا لقيت عدوّك فناجزهم ساعة تلقاهم، وإن لقيتهم ليلا فاستطعت ألّا تصبح حتى تناجزهم فافعل، وإن لقيتهم نهارا فلا تنتظر بهم الليل. » ثم قال:
« هل حفظت ما أوصيتك به؟ » قال:
« نعم. » قال:
« صحبك الله. » ثم انصرف.
خبر الكرسي

كان طفيل بن جعدة بن هبيرة قد ضاقت يده، وكانت أمّه أمّ هانئ بنت أبي طالب أخت عليّ لأبيه وأمّه، وكان المختار يطالب آل جعدة بكرسيّ عليّ بن أبي طالب، فيقولون:
« لا والله، ما هو عندنا. » فيقول المختار:
« لا تكونوا حمقى» - ويتوعّدهم.
قال طفيل: فاحترت يوما وأنا على إضاقتى تلك، فرأيت كرسيّا عند جار لي زيّات قد ركبه الوسخ. فخطر ببالي أن لو قلت للمختار: هذا كرسيّ عليّ بن أبي طالب، لقبله. فأرسلت إلى الزيّات أن:
« ابعث إليّ بكرسيّك. » فأرسل به إليّ، فأتيت المختار، فقلت له:
« إني كنت أكتمك أمر الكرسيّ الذي كنت تلتمسه، وقد بدا لي أن أظهره، لأنّ جعدة بن هبيرة كان يجلس عليه كأنّه يرى أنّ فيه أثرة من علم. » فقال:
« سبحان الله! فأخّرت هذا إلى اليوم! ابعث به! » قال: وقد كنت تقدّمت بغسله وقد غسل، فخرج عود نضار، وقد كان تشرّب الزيت، فخرج أبيض وقد غشّى. فأمر لي المختار باثنى عشر ألفا، ثم دعا:
« الصلاة جامعة. » وخطب، فقال:
« إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلّا هو كائن في هذه الأمّة مثله، فإنّه كان في بني إسرائيل التابوت، فيه بقيّة مما ترك آل موسى وال هارون تحمله الملائكة، وإنّ هذا فينا مثل التابوت، اكشفوا عنه. » فكشفوا عنه أثوابه، وقامت السبائيّة، فكبّروا ثلاثا. فلما خرج المختار مع إبراهيم بن الأشتر لوجه عبيد الله بن زياد، أخرج الكرسيّ على بغل يمسكه عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة. فقتل أهل الشام مقتلة لم يقتلوا مثلها، فزادهم ذلك فتنة، فارتفعوا فيه حتى غلوا، وكان أول من سدنه موسى بن أبي موسى الأشعري، ثم حوشب البرشمى، فكانوا يرون أنّ المختار يتكلّم عنه بوحي، وأشباه هذا.
فأما إبراهيم بن الأشتر، فإنّه سار من يومه مسرعا لا ينثني، يريد أن يلقى عبيد الله بن زياد وأهل الشام قبل أن يدخلوا أرض العراق، فسبقهم إلى أرض الموصل، وأسرع إليه السير حتى لقيه بخازر إلى جنب قرية يقال لها: باربيثا بينها وبين الموصل خمسة فراسخ، وأخذ ابن الأشتر لما دنا من ابن زياد لا يسير إلّا على تعبئة ويسير بهم جميعا لا يفرّقهم إلّا أنّه يبعث الطفيل بن لقيط في الطلائع، وكان شجاعا بئيسا.
ثم أرسل عمير بن الحباب السلمى إلى ابن الأشتر أنّى معك وأريد لقاءك الليلة.
فأرسل إليه ابن الأشتر أن: القنى إذا شئت.
فأتاه عمير ليلا، فبايعه وأخبره أنه على ميسرة صاحبه، وواعده أن ينهزم بالناس، فقال له ابن الأشتر:
« فإني أستشيرك في أمر، فأشر عليّ. » قال:
« نعم. » قال:
« أترى أن أخندق عليّ وأتلوّم يومين أو ثلاثة؟ » قال عمير بن الحباب:
« لا تفعل، إنّا لله، وهل يريد القوم إلّا هذه، إن طاولوك وماطلوك هو خير لهم هم كثير أضعافكم، وليس يطيق القليل الكثير في المطاولة، ولكن ناجز القوم، فإنّهم قد ملئوا منكم رعبا وإنهم إن شامّوا أصحابك وقاتلوهم يوما بعد يوم ومرة بعد مرة، أنسوا بهم واجترأوا عليهم. » قال إبراهيم:
« الآن علمت أنّك لي مناصح، صدقت الرأي وما رأيت. أما إنّ صاحبي، بهذا الرأي أمرنى. » قال عمير:
« فلا تعدونّ رأيه، فإنّ الشيخ قد ضرّسته الحروب، وقاسى منها ما لم تقاس.
ناهض الرجل إذا أصبحت. » وانصرف عمير، وأذكى ابن الأشتر حرسه تلك الليلة، الليل كلّه، ولم يدخل عينه غمض حتى إذا كان في السحر الأوّل عبّى أصحابه ميمنة وميسرة، وألحق أمير الميمنة بالميمنة، وأمير الميسرة بالميسرة، وأمير الرجّالة بالرجّالة، وضمّ الخيل وعليها أخوه لأمّه عبد الرحمن بن عبد الله، فكانت وسطا من الناس، ونزل إبراهيم يمشى، وقال للناس:
« ازحفوا. » فزحف الناس معه رويدا رويدا حتى أشرف على تلّ عظيم مشرف على القوم، فجلس عليه، وإذا أولئك لم يتحرّك منهم أحد بعد فدعا ابن الأشتر بفرس له فركبه، ثم مرّ بأصحاب الرايات، فكلما مرّ على راية وقف عليها وقال:
« يا أنصار الدين وشيعة الحقّ وشرطة الله! هذا عبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين بن عليّ ابن فاطمة بنت رسول الله، صلّى الله عليهم، حال بينه وبين بناته ونسائه وشيعته، وبين الفرات أن يشربوا منه وهم ينظرون إليه، ومنعه أن يأتى ابن عمّه فيصالحه، ومنعه أن ينصرف إلى رحله وأهله، ومنعه الذهاب في الأرض العريضة، حتى قتله وقتل أهل بيته، قد جاءكم الله به، وجاءه بكم. وو الله إني لأرجو أنه ما جمع بينكم في هذا الموطن وبينه، إلّا ليشفى صدوركم، ويسفك دمه على أيديكم. » وسار في ما بين الميمنة والميسرة، فرغّبهم في الجهاد، وحرّضهم على القتال.
ثم رجع حتى نزل تحت رايته، وزحف القوم إليه، وقد جعل ابن زياد على ميمنته الحصين بن نمير السكوني، وعلى ميسرته عمير بن الحباب وشرحبيل بن ذي الكلاع على الخيل، وهو يمشى في الرجال.
فلما تدانى الصفّان حمل الحصين بن النمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة أهل الكوفة وعليها عليّ بن مالك الجشمي، فثبت له هو بنفسه، فقتل، ثم أخذ رايته قرّة بن عليّ، فقتل أيضا في رجال أهل الحفاظ، وانهزمت الميسرة، فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء السلوليّ، فاستقبل المنهزمين وقال:
« يا شرطة الله، إليّ إليّ. »
فأقبل جلّهم إليه، فقال:
« هذا أميركم يقاتل. إلى أين؟ سيروا بنا إليه. » فأقبل حتى أتاه، فإذا هو كاشف عن رأسه ينادى:
« إليّ إليّ، أنا ابن الأشتر، إنّ خير فرّاركم كرّاكم، ليس مسيئا من أعتب. » فثاب إليه أصحابه. وأرسل إلى صاحب الميمنة:
« احمل على ميسرتهم. » وهو يرجو أن ينهزم لهم عمير بن الحباب كما زعم.
فحمل عليه سفيان بن يزيد بن المغفّل صاحب الميمنة، فثبت لهم عمير بن الحباب وقاتله قتالا شديدا. فلمّا رأى إبراهيم ذلك، قال لأصحابه:
« أمّوا هذا السواد الأعظم، فو الله لو قد فضضناه لا نجفل من ترون منهم يمنة ويسرة انجفال طير زعق بها فطارت. » قال ورقاء بن عازب: فمشينا إليهم حتى إذا دنونا منهم اطّعنّا بالرماح قليلا، ثم صرنا إلى السيوف والعمد فاضطربنا بها مليّا. فو الله ما سمعت من وقع الحديد على الحديد إلّا مياجن قصّارى دار الوليد بن عقبة بن أبي معيط. ثم انهزموا، فسمعت إبراهيم بن الأشتر يقول لصاحب رايته:
« انغمس برايتك فيهم. » فيقول له:
« جعلت فداءك، إنّه ليس متقدّم. » فيقول:
« بلى، فإنّ أصحابك يقاتلون، وإنّ هؤلاء يهربون. » فإذا شدّ إبراهيم بسيفه، فلا يضرب أحدا إلّا صرعه. وكرد إبراهيم بن الأشتر الرجال بين يديه كأنّهم الحملان، وإذا شدّ، شدّ أصحابه معه شدّة رجل واحد.
فلمّا انهزم أهل الشام، قال ابن الأشتر: