ذكر ظفر بعد هزيمة

وذلك عند المساء. فكرّ على أصحابه محمد بن الأشعث وكان إلى جانبه، فقتل محمد بن الأشعث هو وعامّة أصحابه. وانتهى المختار في أصحابه إلى محمد بن الأشعث قتيلا ومالك بن عمرو يحسّهم بالسيف، فقال:
« يا معشر الأنصار، كرّوا على الثعالب الروّاغة. » فحملوا عليهم، وانهزم أصحاب مصعب وطلع القمر.
وأمر المختار مناديا فنادى:
« يا محمّد! » وكان علامة بينه وبين أصحابه، فحملوا على مصعب، فهزموه وأدخلوه عسكره، ولم يزل المختار وأصحابه يقاتلونهم حتى أصبحوا وأصبح المختار وليس عنده أحد.
ذكر اتفاق سيء بعد الظفر لأجل عجلة وسوء تثبت

وكان أصحابه قد وغلوا في أصحاب مصعب، فقال له بعض من كان معه:
« أيها الأمير، ما تنتظر؟ قد هزم أصحابك وما بقي معك أحد، انصرف إلى القصر. » قال المختار:
« والله ما نزلت وأنا أريد الركوب، فأما إذا انصرف أصحابي فقدّموا فرسي. » فركب حتى دخل القصر منهزما، وانصرف أصحاب المختار حين أصبحوا، فوقفوا مليّا، فلم يروا المختار، فقالوا:
« قد قتل. » فهرب منهم طائفة ممن أطاق الهرب، واختفوا في دور الكوفة وتوجّه منهم نحو القصر نحو من ثمانية آلاف لم يجدوا من يقاتل بهم وكانوا في الأصل عشرين ألفا فلما أتوا القصر وجدوا المختار في القصر، فدخلوا معه.
وأصبح مصعب فأقبل يسير بمن معه من أهل البصرة ومن خرج إليه من أهل الكوفة، فأخذ بهم نحو السبخة، فمرّ بالمهلّب.
فقال له المهلّب:
« يا له فتحا ما أهنأه! لو لم يكن محمد بن الأشعث قتل. » قال:
« صدقت، فرحم الله محمّدا. »
ذكر قتل عبيد الله بن علي بن أبي طالب

ثم قال:
« يا مهلّب! » قال:
« لبّيك أيها الأمير. » قال:
« هل علمت أنّ عبيد الله بن عليّ بن أبي طالب قد قتل؟ » قال:
« إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. » قال مصعب:
« أما إني كنت أحبّ أن يرى هذا الفتح، ثم لا نجعل أنفسنا أحقّ بشيء مما نحن فيه منه. أتدرى من قتله؟ إنما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة. أما إنهم قتلوه وهم يعرفونه. »
مصعب يحاصر قصر المختار وهو فيه

ثم مضى حتى حاصر المختار، وقطع عنهم الماء والمادّة، وبعث عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فنزل الكناسة، وبعث إلى الجبابين ليقطع عن المختار وأصحابه الماء والمادّة، فأصابهم جهد شديد. وكان المختار ربما خرج هو وأصحابه، فقاتلوا قتالا ضعيفا، وكان لا تخرج له خيل إلّا رميت بالحجارة من فوق البيوت ويصبّ عليهم الماء القذر، فاجترأ الناس عليهم. فكان أفضل معايشهم من نسائهم. وذلك أنّ المرأة كانت تخرج من منزلها معها الطعام واللطف والماء قد التحفت عليه، فتخرج كأنها تريد المسجد الأعظم للصلاة أو تزور قرابة لها، فإذا دنت من القصر فتح لها، فدخلت على حميمها بطعامه وشرابه ولطفه، وإنّ ذلك ليبلغ مصعبا.
وكان المهلّب ذا حنكة وتجربة، فقال:
« أيّها الأمير، اجعل عليهم دروبا حتى يمكنك أن تمنع ما يأتيهم من جهة أهليهم وتدعهم في حصنهم حتى يموتوا فيه. » وكان القوم إذا اشتدّ عليهم العطش استقوا ماء البئر، وطرحوا فيه العسل ليغيّر طعمه، فأخذ ثلاث نسوة في الشباميّين أتين أزواجهنّ في القصر، فبعث بهنّ إلى مصعب ومعهنّ الطعام والشراب، فردّهنّ مصعب ولم يعرض لهنّ.
فقال المختار يوما لأصحابه:
« ويحكم! إنّ الحصار لا يزيدكم إلّا ضعفا، انزلوا بنا، فلنقاتل حتى نقتل كراما إن قتلنا، والله ما أنا بيائس إن أنتم صدقتموهم، أن ينصركم الله. » فضعفوا وعجزوا، فقال لهم المختار:
« أما أنا والله لا أعطى بيدي، ولا أحكّمهم في نفسي. » ولما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة ما يريد المختار، تدلّى من القصر، فلحق بأناس من إخوانه، فاختبأ عندهم.
مقتل المختار وما قاله في أمره

ثم إنّ المختار أزمع الخروج حين رأى من أصحابه الضعف والفشل. فأرسل إلى امرأته أمّ ثابت بنت سمرة بن جندب، فأرسلت إليه بطيب كثير، فاغتسل وتحنّط، ثم وضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثم خرج في تسعة عشر نفسا فيهم السائب بن مالك الأشعريّ، وكان خليفته على الكوفة إذا خرج. ولما خرج المختار من القصر قال للسائب:
« ما ذا ترى؟ » قال:
« أنا أرى، أم الله؟ » قال:
« بل الله، ويحك أحمق أنت. إنما أنا رجل من العرب لمّا رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة، ورأيت مروان انتزى على الشام، لم أكن دون أحد من رجال العرب، فأخذت هذه البلاد، وكنت كأحدهم، إلّا أنى قد طلبت بثأر أهل بيت النبي، وعليهم، إذ نامت عنه العرب، فقتلت من شرك في دمائهم، وبالغت في ذلك إلى يومي هذا. فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نيّة. » « قال: إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، وما كنت أصنع أن أقاتل على حسبي؟ » فتمثّل المختار عند ذلك بشعر غيلان بن سلمة الثقفيّ:
ولو يراني أبو غيلان إذ حسرت ** عني الهموم بأمر ما له طبق
لقال رهبا ورعبا يجمعان معا ** غنم الحياة، وهول الموت والشفق
إمّا تسفّ على مجد ومكرمة ** أو أسوة لك في من يهلك الورق
ثم خرج في تسعة عشر رجلا، فقال للناس:
« أتؤمنونى وأخرج إليكم؟ » فقالوا:
« لا، إلّا على الحكم. » فقال:
« لا أحكّمكم في نفسي أبدا. » فضارب بسيفه حتى قتل.