مقتل ابن زياد بيد ابن الأشتر
« إني قد ضربت رجلا فقتلته ووجدت منه رائحة المسك، ضربة شرّقت يديه وغرّبت رجليه، تحت راية منفردة على شاطئ جازر، وأظنّه طاغيتهم، فالتمسوه. » فالتمسوه، فإذا هو عبيد الله بن زياد قتيلا، ضربه فقطّه.
وحمل شريك بن حرير على الحصين بن نمير السكوني وهو يحسبه ابن زياد، فاعتنق كلّ واحد منهما صاحبه، ونادى شريك:
« اقتلوني وابن الزانية. » فقتل ابن نمير.
وكان شريك بن حرير مع عليّ أصيبت عينه معه، فلما انقضت حرب عليّ لحق ببيت المقدس، فلما جاءه قتل الحسين قال:
« أعاهد الله، لئن وجدت من يطلب بدم الحسين أقبل إليه، ولأقتلنّ ابن مرجانة، أو لأموتنّ دونه. » فلما بلغه خروج المختار يطلب بدم الحسين، جاءه، فوجّهه مع ابن الأشتر.
وقتل ابن ذي الكلاع، وتبع أصحاب إبراهيم أهل الشام المنهزمين فكان من غرق أكثر ممن قتل. وأصابوا من عسكرهم كلّ شيء من الغنائم.
ومضى ابن الأشتر إلى الموصل، وبعث عمّاله، فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبد الله على نصيبين، فغلب على سنجار ودارا وما والاهما من أرض الجزيرة، وخرج من أهل الكوفة كلّ من كان قاتل المختار وهزمهم، فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة وفيهم شبث بن ربعيّ. وكان المختار قال لأصحابه:
« سيأتيكم الفتح من قبل إبراهيم بن الأشتر. قد هزموا أصحاب ابن مرجانة. » وخرج المختار من الكوفة، واستخلف عليها السائب بن مالك الأشعري، وخرج بالناس، فنزل ساباط، وقال للناس:
« أبشروا، فإنّ شرطة الله قد حسّوهم بالسيوف يوما إلى الليل بنصيبين أو قريبا منها. » قال: ودخلنا المدائن واجتمعنا إليه، فصعد المنبر، فو الله إنّه ليخطبنا، ويأمر بالجدّ والاجتهاد والثبات على الطاعة والطلب بدماء أهل البيت، إذ جاءته البشرى تترى، يتبع بعضها بعضا بقتل عبيد الله بن زياد وهزيمة أصحابه، وأخذ عسكره، وقتل أشراف أهل الشام، فقال المختار:
« يا شرطة الله، ألم أبشركم بهذا قبل أن يكون؟ » قالوا:
« بلى والله، لقد قلت ذلك. » قال الشعبيّ: فيقول لي رجل من بعض جيراننا:
« أتؤمن الآن يا شعبيّ؟ » قال: قلت:
« بأيّ شيء أو من؟ بأنّ المختار يعلم الغيب؟ لا أومن بذلك أبدا. » قال:
« أو لم يقل لنا أنهم انهزموا؟ » فقلت:
« بلى، ولكن زعم أنهم هزموا بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما هو بخازر من أرض الموصل. » فقال:
« والله لا تؤمن حتى ترى العذاب الأليم. »
ذكر مسير مصعب إلى المختار وحربه
لما قدم شبث على مصعب بن الزبير كان تحته بغلة له قد قطع ذنبها وقطع طرف أذنها، وشقّ قباءه وهو يصيح:
« يا غوثاه، يا غوثاه! » فعرّف مصعب أنّ بالباب رجلا صفته كذا وكذا، فقال لهم:
« نعم، هذا شبث بن ربعيّ، ولم يكن ليفعل هذا غيره، أدخلوه. » فأدخل إليه، وجاءه أشراف الناس من أهل الكوفة، فأخبروه بما أصيبوا به من وثوب عبيدهم ومواليهم عليهم، وشكوا إليه، وسألوه النصر لهم والمسير إلى المختار معهم. وقدم عليهم محمد بن الأشعث بن القيس، ولم يكن شهد وقعة الكوفة، وإنما كان يقصّ له. فلما بلغه هزيمة الناس، تهيّأ للشخوص، وسأل عنه المختار، فأخبر بمكانه، فسرّح وراءه قوما، فلم يلحقوه، ومضى إلى مصعب، فأدناه معصب وقرّبه وأكرمه لشرفه، وهدم المختار دار ابن الأشعث.
ثم قال مصعب لمحمد بن الأشعث لما أكثر عليه الناس:
« إني لا أسير حتى يأتينى المهلّب بن أبي صفرة. » فكتب مصعب إلى المهلّب وهو عامله على فارس أن:
« أقبل إلينا لتشهد أمرنا وتسير معنا إلى الكوفة. » فتباطأ عنه المهلّب كراهة للخروج، واعتلّ بشيء من الخراج، فأمر مصعب محمد بن الأشعث بن قيس في بعض ما كان محمد يستحثّه:
« ايتني بالمهلّب. » فخرج محمد بكتاب مصعب إلى المهلّب، فلما قرأه، قال:
« مثلك يا محمد في شرفك يأتى بريدا؟ أما وجد المصعب بريدا غيرك؟ » قال محمد:
« إني، والله، ما أنا ببريد لأحد، غير أنّ نساءنا وأبناءنا وحرمنا غلبنا عليهم عبداننا وموالينا. » فخرج المهلّب بجموع كثيرة وأموال عظيمة معه في هيئة وعدّة وجموع ليس بها أحد من أهل البصرة. ولما ورد باب مصعب صادفه وقد أذن للناس، فحجبه الحاجب وهو لا يعرفه، فرفع المهلّب يده وكسر أنفه. فدخل الحاجب إلى المصعب وأنفه يسيل دما، فقال له:
« ما لك؟ » قال:
« ضربني رجل ما أعرفه. » ودخل المهلّب، فلما رءاه الحاجب، قال:
« هو ذا. » فقال له مصعب:
« عد إلى مكانك. » ثم عسكر مصعب عند الجسر الأكبر، وقدّم أمامه عبّاد بن الحصين الحبطيّ من بنى تميم على مقدّمته، وبعث عمر بن عبد الله بن معمر على ميمنته، وبعث المهلّب على ميسرته، وبعث على الأخماس مالك بن مسمع ومالك بن المنذر، والأحنف بن قيس، وزياد بن عمرو الأزديّ، وقيس بن الهيثم.
وبلغ ذلك المختار، فقام في أصحابه، فحمد الله وأثنى، وقال:
« يا أهل الدين وأعوان الحق وأنصار الضعيف وشيعة ال الرسول! إنّ فرّاركم الذين بغوا عليكم فهزمتموهم، أتوا أشباههم من الفاسقين، فاستغووهم عليكم ليمصح الحقّ وينعش الباطل، ويقتل أولياء الله. والله لو هلكتم ما عبد الله في الأرض إلّا بالفرى على الله واللعن لأهل بيت نبيه . انتدبوا مع أحمر بن شميط. » فعسكر بحمّام أعين. ودعا المختار رؤوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع ابن شميط، لأنهم فارقوا ابن الأشتر لما رأوا من تهاونه بأمر المختار، فبعثهم المختار مع ابن شميط، وبعث معه جيشا كثيفا.
وسار أحمر بن شميط حتى ورد المذار وجاء مصعب حتى عسكر قريبا منه، ثم عبّى كل واحد منهم جنده، وجعل أحمر بن شميط على ميمنته عبد الله بن كامل، وعلى ميسرته عبد الله بن وهب بن نضلة، وعلى الخيل رزين بن عبد الله السلولي، وعلى الرجّالة كثير بن إسماعيل الكنديّ، وجعل أبا عمرة على الموالي وكان مولى لعرينة.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
مكيدة لعبد الله بن وهب على الموالي
فجاء عبد الله بن وهب وكان على الميسرة، إلى ابن شميط وقد أخلاه، فقال له:
« إنّ الموالي والعبيد إلى خور عند المصدوقة، وأنّ معهم رجالا كثيرا على الخيل وأنت تمشى، فمرهم لينزلوا معك، فإنّ لهم بك أسوة، وإني أتخوّف إن طردوا ساعة فطوعنوا وضوربوا، أن يطيروا على متونها، ويسلموك، وإنّك إن أرجلتهم لم يجدوا من الصبر بدّا. » وإنما غشّ الموالي والعبيد لما كان لقي منهم بالكوفة، فأحبّ - إن كانت عليهم الدبرة - ألّا يكونوا فرسانا بل رجّالة، فلا ينجو منهم أحد. ولم يتّهمه ابن شميط، وظنّ أنه إنما أراد بذلك نصيحته ليصبروا ويقاتلوا فقال:
« يا معشر الموالي، انزلوا معي، فقاتلوا. » فنزلوا معه ثم مشوا بين يديه وبين يدي رايته.
وجاء مصعب بن الزبير وقد جعل عبّاد بن الحصين على الخيل، وأقبل عبّاد حتى دنا من ابن شميط وأصحابه فقال:
« إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير. » فقال الآخرون:
« إنّا ندعوكم إلى كتاب الله، وسنّة رسوله وإلى بيعة الأمير المختار، وإلى أن يجعل الأمر شورى في آل الرسول، فمن زعم من الناس أنّ أحدا ينبغي أن يتولّى عليهم برئنا منهم وجاهدناه. » فانصرف عبّاد إلى مصعب فأخبره فقال له:
« إرجع، فاحمل عليهم. » فحمل علي بن شميط، فلم يزل منهم أحد. ثم انصرف إلى موقفه، وحمل المهلّب على ابن كامل، فجال أصحابه بعضهم في بعض، فنزل ابن كامل، وانصرف عنه المهلّب، ثم وقف ساعة، وقال لأصحابه:
« احملوا حملة صادقة، فقد أطمعوكم. » يعنى جولتهم التي جالوها. فحمل عليهم حملة منكرة، فولّوا، وصبر ابن كامل في رجال همدان، فأخذ المهلّب يسمع اتّصال القوم:
« أنا الغلام الشاكريّ، أنا الغلام الشباميّ، أنا الغلام الثوريّ. » وحمل عمر بن عبد الله بن معمر على عبد الله بن أنس، فقاتل ساعة ثم انصرف عنه، وحمل الناس جميعا على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وتنادى أصحابه:
« يا معشر بجيلة وخثعم، الصبر الصبر. » فناداهم المهلّب:
« الفرار الفرار، فهو اليوم أنجى لكم، علام تقتلون أنفسكم مع هذه العبدان، أضلّ الله سعيكم. » ثم نظر إلى أصحابه فقال:
« والله ما أدري استحرار القتل إلّا في أصحابي وقومي. » ومالت الخيل على رجّالة ابن شميط فانهزمت وأخذت في الصحراء، فبعث مصعب بن الزبير عبّاد بن الحصين على الخيل وقال:
« أيّما أسير أخذته فاضرب عنقه. » وسرّح محمد بن الأشعث في خيل عظيمة من خيل أهل الكوفة ممن كان المختار طردهم، فقال:
« دونكم ثأركم. » فلم يكن على المنهزمين قوم أشدّ عليهم منهم، كانوا لا يعفون عن أسير إنما هو القتل، فلم ينج من ذلك الجيش إلّا طائفة من أصحاب الخيل، وأما رجالتهم، فأبيدوا.
فتحدّث عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي، قال: والله إني لجالس عند المختار حين أتاه هزيمة القوم، فأصغى إليّ برأسه وقال لي:
« قتلت والله العبيد قتلة ما سمعت بمثلها قطّ. » ثم قال:
« وقتل ابن شميط وابن كامل، وفلان وفلان.. » فسمى قوما من العرب ورجالا كان الواحد منهم خيرا من أمّة من الناس. » قال: فقلت:
« إنّا لله، هذه والله مصيبة. » فقال لي:
« ما من الموت بدّ، وما من ميتة أموتها أحبّ إليّ من مثل ميتة ابن شميط، حبّذا مصارع الكرام. » قال: فعلمت أنّ الرجل قد حدّث نفسه إن لم يصب حاجته، أن يقاتل حتى يموت. وأقبل مصعب حتى قطع من تلقاء واسط القصب، ولم تكن واسط هذه بنيت بعد، وأخذ في كسكر، ثم حمل الرجال وأثقالهم وضعفاء الناس في السفن، فأخذوا في نهر يقال له: نهر خرشيذ، ثم خرجوا من ذلك النهر إلى الفرات. وكان أهل البصرة يخرجون فيجرّون سفنهم ويقولون:
عوّدنا المصعب جرّ القلس ** والزّنبريّات الطّوال القعس
ولمّا بلغ المختار أنهم قد أقبلوا إليه في البرّ والبحر، سار حتى نزل السيلحين، ونظر إلى مجتمع الأنهار: نهر الحيرة، ونهر السيلحين، ونهر القادسيّة، ونهر يوسف، فسكر الفرات على مجتمع الأنهار، فذهب ماء الفرات كلّه في هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة في الطين.
فلما رأوا ذلك، خرجوا من السفن يمشون، وأقبلت خيلهم تركض حتى أتوا ذلك السكر، فكسروه.
غلط المختار في ذلك
فكان غلط المختار في ذلك، أنه حيث سكر الماء وقطعه عن القوم، وجب أن يخلّف على السكر جيشا قويّا. فصمد القوم لما كسروا السكر صمد الكوفة، فلما رأى المختار ذلك أقبل إليهم حتى نزل حرورا، وحال بينهم وبين الكوفة، وقد كان حصّن قصره والمسجد، وأدخل في قصره عدّة الحصار، واستعمل على الكوفة عبد الله بن شدّاد.
وجاء مصعب في جيشه، وخرج إليه المختار، وقد جعل على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وعلى ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني ثم الثوري، وكان على شرطته عبد الله بن قراد الخثعمي، وعلى الخيل عمر بن عبد الله النهديّ، على الرجال مالك بن عمرو النهديّ.
وجعل مصعب على ميمنته المهلّب بن أبي صفرة، وعلى ميسرته عمر بن عبد الله بن معمر التيميّ، وعلى الخيل عبّاد بن الحصين الحبطيّ وعلى الرجال مقاتل بن مسمع الكنديّ، ونزل هو يمشى، وجعل على الكوفة محمد بن الأشعث.
فجاء محمد حتى نزل بين مصعب والمختار مقربا ميامنا، فلما رأى ذلك المختار بعث إلى كلّ خمس من أخماس البصرة رجلا من أصحابه في خيل، ووقف في بقيّة أصحابه، وزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، وحمل سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح على بكر بن وائل، وعبد القيس، وهم في الميسرة عليهم عبد الله بن معمر، فقاتلهم ربيعة قتالا شديدا وصبروا لهم، وأخذ سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح لا يقلعان، إذا حمل أحدهما فانصرف، حمل الآخر، وربما حملا جميعا.
فبعث مصعب إلى المهلّب:
« ما تنتظر أن تحمل من بإزائك؟ ألا ترى ما يلقى هذان الخمسان اليوم؟
احمل بأصحابك. » فقال المهلّب:
« إني لعمري ما كنت لأجزر الأزد وتميما خشية أهل الكوفة حتى أرى فرصتى. » وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة أن:
« احمل على من يليك. »
فحمل عليهم، فكشفهم حتى انتهوا إلى مصعب. فجثا مصعب على ركبتيه، ولم يكن فرّارا، فرمى بأسهمه، ونزل الناس، فقاتلوا ساعة، ثم تحاجزوا.
فبعث مصعب إلى المهلّب وهو في خمسين من الأخماس جامّين كثيرى العدد والفرسان:
« لا أبا لك ما تنتظر أن تحمل على القوم؟ » فمكث غير بعيد. ثم إنه قال لأصحابه:
« قد قاتل القوم منذ اليوم وأنتم وقوف، وقد أحسنوا، وبقي ما عليكم، احملوا واصبروا واستعينوا بالله. » فحملوا حملة عظيمة، فحطّموا أصحاب المختار حطمة منكرة فكشفوهم.
وقال عبد الله بن عمرو النهديّ، وكان من أصحاب صفّين:
« اللهمّ إني على ما كنت عليه ليلة الخميس بصفّين، اللهمّ إني أبرأ إليك من فعل هؤلاء المنهزمين. » وجالد بسيفه حتى قتل.
وأتى مالك بن عمرو النهدي بفرسه، وكان على الرجّالة، فركبه وانقصف أصحاب المختار انقصافة شديدة كأنّهم أجمة فيها حريق.
فقال مالك حين ركب:
« ما أصنع بالركوب؟ والله لأن أقتل هاهنا أحبّ إليّ من أن أقتل في بيتي. أين أهل البصائر؟ » فثاب إليه نحو من خمسين رجلا.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ذكر ظفر بعد هزيمة
وذلك عند المساء. فكرّ على أصحابه محمد بن الأشعث وكان إلى جانبه، فقتل محمد بن الأشعث هو وعامّة أصحابه. وانتهى المختار في أصحابه إلى محمد بن الأشعث قتيلا ومالك بن عمرو يحسّهم بالسيف، فقال:
« يا معشر الأنصار، كرّوا على الثعالب الروّاغة. » فحملوا عليهم، وانهزم أصحاب مصعب وطلع القمر.
وأمر المختار مناديا فنادى:
« يا محمّد! » وكان علامة بينه وبين أصحابه، فحملوا على مصعب، فهزموه وأدخلوه عسكره، ولم يزل المختار وأصحابه يقاتلونهم حتى أصبحوا وأصبح المختار وليس عنده أحد.
ذكر اتفاق سيء بعد الظفر لأجل عجلة وسوء تثبت
وكان أصحابه قد وغلوا في أصحاب مصعب، فقال له بعض من كان معه:
« أيها الأمير، ما تنتظر؟ قد هزم أصحابك وما بقي معك أحد، انصرف إلى القصر. » قال المختار:
« والله ما نزلت وأنا أريد الركوب، فأما إذا انصرف أصحابي فقدّموا فرسي. » فركب حتى دخل القصر منهزما، وانصرف أصحاب المختار حين أصبحوا، فوقفوا مليّا، فلم يروا المختار، فقالوا:
« قد قتل. » فهرب منهم طائفة ممن أطاق الهرب، واختفوا في دور الكوفة وتوجّه منهم نحو القصر نحو من ثمانية آلاف لم يجدوا من يقاتل بهم وكانوا في الأصل عشرين ألفا فلما أتوا القصر وجدوا المختار في القصر، فدخلوا معه.
وأصبح مصعب فأقبل يسير بمن معه من أهل البصرة ومن خرج إليه من أهل الكوفة، فأخذ بهم نحو السبخة، فمرّ بالمهلّب.
فقال له المهلّب:
« يا له فتحا ما أهنأه! لو لم يكن محمد بن الأشعث قتل. » قال:
« صدقت، فرحم الله محمّدا. »
ذكر قتل عبيد الله بن علي بن أبي طالب
ثم قال:
« يا مهلّب! » قال:
« لبّيك أيها الأمير. » قال:
« هل علمت أنّ عبيد الله بن عليّ بن أبي طالب قد قتل؟ » قال:
« إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. » قال مصعب:
« أما إني كنت أحبّ أن يرى هذا الفتح، ثم لا نجعل أنفسنا أحقّ بشيء مما نحن فيه منه. أتدرى من قتله؟ إنما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة. أما إنهم قتلوه وهم يعرفونه. »
مصعب يحاصر قصر المختار وهو فيه
ثم مضى حتى حاصر المختار، وقطع عنهم الماء والمادّة، وبعث عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فنزل الكناسة، وبعث إلى الجبابين ليقطع عن المختار وأصحابه الماء والمادّة، فأصابهم جهد شديد. وكان المختار ربما خرج هو وأصحابه، فقاتلوا قتالا ضعيفا، وكان لا تخرج له خيل إلّا رميت بالحجارة من فوق البيوت ويصبّ عليهم الماء القذر، فاجترأ الناس عليهم. فكان أفضل معايشهم من نسائهم. وذلك أنّ المرأة كانت تخرج من منزلها معها الطعام واللطف والماء قد التحفت عليه، فتخرج كأنها تريد المسجد الأعظم للصلاة أو تزور قرابة لها، فإذا دنت من القصر فتح لها، فدخلت على حميمها بطعامه وشرابه ولطفه، وإنّ ذلك ليبلغ مصعبا.
وكان المهلّب ذا حنكة وتجربة، فقال:
« أيّها الأمير، اجعل عليهم دروبا حتى يمكنك أن تمنع ما يأتيهم من جهة أهليهم وتدعهم في حصنهم حتى يموتوا فيه. » وكان القوم إذا اشتدّ عليهم العطش استقوا ماء البئر، وطرحوا فيه العسل ليغيّر طعمه، فأخذ ثلاث نسوة في الشباميّين أتين أزواجهنّ في القصر، فبعث بهنّ إلى مصعب ومعهنّ الطعام والشراب، فردّهنّ مصعب ولم يعرض لهنّ.
فقال المختار يوما لأصحابه:
« ويحكم! إنّ الحصار لا يزيدكم إلّا ضعفا، انزلوا بنا، فلنقاتل حتى نقتل كراما إن قتلنا، والله ما أنا بيائس إن أنتم صدقتموهم، أن ينصركم الله. » فضعفوا وعجزوا، فقال لهم المختار:
« أما أنا والله لا أعطى بيدي، ولا أحكّمهم في نفسي. » ولما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة ما يريد المختار، تدلّى من القصر، فلحق بأناس من إخوانه، فاختبأ عندهم.
مقتل المختار وما قاله في أمره
ثم إنّ المختار أزمع الخروج حين رأى من أصحابه الضعف والفشل. فأرسل إلى امرأته أمّ ثابت بنت سمرة بن جندب، فأرسلت إليه بطيب كثير، فاغتسل وتحنّط، ثم وضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثم خرج في تسعة عشر نفسا فيهم السائب بن مالك الأشعريّ، وكان خليفته على الكوفة إذا خرج. ولما خرج المختار من القصر قال للسائب:
« ما ذا ترى؟ » قال:
« أنا أرى، أم الله؟ » قال:
« بل الله، ويحك أحمق أنت. إنما أنا رجل من العرب لمّا رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة، ورأيت مروان انتزى على الشام، لم أكن دون أحد من رجال العرب، فأخذت هذه البلاد، وكنت كأحدهم، إلّا أنى قد طلبت بثأر أهل بيت النبي، وعليهم، إذ نامت عنه العرب، فقتلت من شرك في دمائهم، وبالغت في ذلك إلى يومي هذا. فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نيّة. » « قال: إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، وما كنت أصنع أن أقاتل على حسبي؟ » فتمثّل المختار عند ذلك بشعر غيلان بن سلمة الثقفيّ:
ولو يراني أبو غيلان إذ حسرت ** عني الهموم بأمر ما له طبق
لقال رهبا ورعبا يجمعان معا ** غنم الحياة، وهول الموت والشفق
إمّا تسفّ على مجد ومكرمة ** أو أسوة لك في من يهلك الورق
ثم خرج في تسعة عشر رجلا، فقال للناس:
« أتؤمنونى وأخرج إليكم؟ » فقالوا:
« لا، إلّا على الحكم. » فقال:
« لا أحكّمكم في نفسي أبدا. » فضارب بسيفه حتى قتل.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ذكر رأي المختار في تلك الحال وكان صوابا
كان المختار قال لأصحابه حين أتوا أن يبايعوا على الخروج:
« إذا أنا خرجت فقتلت لم تزدادوا إلّا ضعفا وذلّا، فإن نزلتم على حكمهم وثب أعداؤكم الذين وترتموهم. يقول كلّ رجل منهم لبعضكم: هذا عنده ثأرى، فيقتل وينظر بعضكم إلى بعض فيرى مصرعه ومصرع أحبّته، فيقولون: يا ليتنا كنّا أطعنا المختار وعملنا برأيه، ولو أنكم خرجتم معي، كنتم إن أخطأتم الظفر، متّم كراما، وإن هرب منكم هارب فدخل في عشيرته اشتملت عليه عشيرته، أنتم غدا أذلّ من على ظهر الأرض. » فكان الأمر على ما قال.
ولما كان من الغد، قال لهم بجير بن عبد الله:
« يا قوم، قد كان صاحبكم أمس أشار عليكم بالرأي لو أطعتموه، يا قوم، إنكم إن نزلتم على حكم القوم ذبحتم كما تذبح الغنم، اخرجوا بأسيافكم حتى تموتوا كراما إن قتلتم. » فقالوا:
« قد أمرنا بهذا من كان أطوع عندنا وأنصح لنا منك فعصيناه، أفنحن نطيعك؟ » فأمكنوا القوم من أنفسهم ونزلوا على الحكم. فبعث إليهم مصعب عبّاد بن الحصين، فكان يخرج بهم مكتّفين، فأدركتهم الندامة حينئذ، فقتلوا من عند آخرهم.
ذكر كلام لهؤلاء المسلمين واستعطاف حين أحسوا بالقتل
قال بجير بن عبد الله المسليّ حين أتى به مصعب ومعه ناس كثير منهم:
« الحمد لله الذي ابتلانا بالإسار وابتلاك بالعفو، وهما منزلتان، في إحداهما رضا الله، وفي الأخرى سخطه. من عفا عفا الله عنه وزاده عزّا، ومن عاقب لم يأمن القصاص، يا بن الزبير، نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم ولسنا تركا ولا ديلما، خالفنا إخواننا من أهل مصرنا، فإمّا أن نكون أصبنا وأخطئوا، وإمّا أن نكون أخطأنا وأصابوا، فاقتتلنا كما اقتتل أهل الإسلام بينهم فقد اختلفوا واقتتلوا، ثم اصطلحوا واجتمعوا. لقد ملكتم فأسجحوا، وقدرتم فاعفوا. » فلم يزل بهذا القول ونحوه حتى رقّ لهم الناس، ورقّ مصعب أيضا، وأراد أن يخلّى سبيلهم. فقال عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث:
« تخلّى سبيلهم يا بن الزبير؟ اخترنا، أو اخترهم! » ووثب محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فقال:
« قتل أبي وخمسمائة من همدان وأشراف العشيرة، ثم تخلّى سبيلهم ودماؤنا ترقرق في أجوافهم، اخترنا أو اخترهم. » ووثب كلّ قوم وأهل بيت كان أصيب منهم رجل، فقالوا نحوا من هذا القول.
فلما رأى مصعب ذلك، أمر بقتلهم، فنادوه بأجمعهم:
« يا بن الزبير، لا تقتلنا، اجعلنا على مقدّمتك إلى أهل الشام غدا، فو الله ما بك ولا بأصحابك عنّا غدا غنى إذا لقيتم عدوّكم، فإن قتلنا لم نقتل حتى نرقّهم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لك ولمن معك. »
فأبى عليهم وتبع رضا أصحابه.
فقال بجير المسليّ:
« إنّ حاجتي إليك ألّا أقتل مع هؤلاء، إني أمرتهم أن يخرجوا بأسيافهم فيقاتلوا حتى يموتوا كراما، فعصونى. » فقدّم ناحية فقتل.
كلام آخر بنحو آخر من الاستعطاف
ثم إنّ مسافر بن سعيد بن نمران قال لمصعب:
« يا بن الزبير، ما تقول لله إذا قدمت عليه وقد قتلت أمّة من المسلمين صبرا حكّموك في دمائهم وكان الحقّ في دمائهم ألّا تقتل نفسا مسلمة بغير نفس، فإن كنّا قتلنا عدّة رجال منكم فاقتلوا عدّة من قتلنا منكم وخلّوا سبيل بقيّتنا وفينا رجال كثير لم يشهدوا موطنا من حربنا وحربكم يوما واحدا كانوا في الجبال والسواد يجبون الخراج ويؤمنون السبل. » فلم يستمع له. فقال:
« قبح الله قوما أمرتهم أن يخرجوا ليلا على حرس سكّة من هذه السكك فنطردهم ثم نلحق بعشائرنا، فعصونى حتى نموت الآن ميتة العبيد، فأنا أسألك ألّا تخلط دمى بدمائهم. » فقدّم ناحية فقتل. فكان عدد من قتل صبرا ستة آلاف سوى من قتل في المعركة.
توبيخ من عبد الله بن عمر لمصعب على فعله هذا
فلقى مصعب بن الزبير يوما عبد الله بن عمر، فسلّم عليه، فأعرض عنه ابن عمر، فقال:
« أنا ابن أخيك مصعب. » فقال:
« نعم، أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة. عش ما استطعت! » فقال مصعب:
« إنهم كانوا كفرة فجرة. » فقال ابن عمر:
« والله لو قتلت عددهم غنما من تراث أبيك، لكان ذلك سرفا. »
كف المختار سمرت إلى جنب المسجد
ثم إنّ مصعبا أمر بكفّ المختار فقطعت، ثم سمّرت بمسمار حديد إلى جنب المسجد، فلم يزل على ذلك حتى قدم الحجاج بن يوسف، فنظر إليها، فقال:
« ما هذه؟ » قالوا:
« كفّ المختار. » فأمر بنزعها.
كتب مصعب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته
وبعث مصعب عمّاله على الجبال والسواد. ثم كتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له:
« إن أنت أجبتنى ودخلت في طاعتي، فلك الشام، وأعنّة الخيل، وما غلبت عليه من أرض المغرب وما دام لآل الزبير سلطان. » وكتب إليه عبد الملك بن مروان من الشام يدعوه إلى طاعته ويقول:
« إن أجبتنى ودخلت في طاعتي، فلك العراق. » فاستشار إبراهيم أصحابه، فاختلفوا عليه، فقال إبراهيم:
« لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد ورؤساء الشام، لأجبت عبد الملك مع أنى لا أختار على أهل مصري مصرا، ولا على عشيرتي عشيرة. » فكتب إلى مصعب، فأجابه مصعب: أن أقبل، فأقبل إليه، وبعث المهلّب إلى عمله، وهي السنة التي نزل فيها المهلّب على الفرات.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)